| كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:18 | |
| ص -297- قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يجاب به، وبه يزول كل إشكال. ولعمر الله، لو سكت هذا كان خيراً له وأستر، فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل فى الحديث. وسياقه يبين بطلانه بياناً ظاهراً لا إشكال فيه، وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم، مخلدين إلى حضيض التقليد، فروج عليهم مثل هذا، وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث، ولم يعن بطرقه، فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبى الصهباء لابن عباس: "أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى، وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما ؟" فأقر ابن عباس بذلك، وقال: "نعم". وأيضا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واحدة، فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن، وحديث محمود بن لبيد: "أن رجلاً طلق امرأته على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً، فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقال: أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟" ثم زاد هذا القائل فى الحديث زيادة من عنده، فقال: "وأمضاه عليه، ولم يرده". وهذه اللفظة موضوعة لا تروى فى شىء من طرق هذا الحديث ألبته، وليست فى شىء
(14/288)
ص -298- من كتب الحديث، وإنما هى من كيس هذا القائل، حمله عليها فرط التقليد. ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك، من إمضاء أو رد إلى واحدة. والمقصود: أن هذا القائل تناقص، وتأول الحديث تأويلا بطلانه من سياقه. ومن بعض ألفاظه: "أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما يرد إلى الواحدة"، وهذا موافق للفظ الآخر: "كان إذا طلق امرأته ثلاثاً جعلوها واحدة"، وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى، يفسر بعضها بعضا. فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها، والواضح مشكلاً وكيف يصنع بقوله: "فلو أمضيناه عليهم" ؟ فإن هذا يدل على أنه رَأْىٌ من عمر رضى الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه، وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم، وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذى شرعه، وتعديهم حدوده، ومن كمال علمه رضى الله عنه أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه، وراعى حدوده، وهؤلاء لم يتقوه فى الطلاق، ولم يراعوا حدوده، فلا يستحقون المخرج الذى ضمنه لمن اتقاه. ولو كان الثلاث تقع ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو دينه الذى بعثه الله تعالى به، لم يضف عمر رضى الله عنه إمضاءه إلى نفسه، ولا كان يصح هذا القول منه، وهو بمنزلة أن يقول فى الزنى، وقتل النفس، وقذف المحصنات: لو حرمناه عليهم. [ فحرمه عليهم ]، وبمنزلة أن يقول فى وجوب الظهر والعصر، ووجوب صوم شهر رمضان، والغسل من الجنابة: فلو فرضناه عليهم، ففرضه عليهم. فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التى كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة فى المسألة، وقوى جانبها عنده، فإنه يرى أن الحديث لا يرد يمثل هذه الأشياء. وقد سلك أبو عبد الرحمن النسائى فى "سننه" فى الحديث مسلكاً آخر، فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه قال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم
(14/289)
عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضى الله عنهما فقال: "يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى عليه وآله وسلم
(14/290)
ص -299- وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة ؟ قال: نعم" وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة، وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون أخر. وكأنه لما أشكل عليه وجه الحديث حمله على ماذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر رضى الله عنهما، ثم يتغير فى خلافة عمر رضى الله عنه، ويمضى الثلاث بعد ذلك علي المطلق. فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة. وسلك آخرون فى الحديث مسلكاً آخر، وقالوا: هذا حديث يخالف أصول الشرع، فلا يلتفت إليه. قالوا: لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه، فإن قلنا بقول الشافعى ومن وافقه: أن جمع الثلاث جائز، فقد فعل ما أبيح له فيصح، وإن قلنا: جمع الثلاث حرام، وهو طلاق بدْعىُّ، فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له، فإذا جمعها فقد جمعها ما فُسح له فى تفريقه، فلزمه حكمه كما لو فرقه. قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه، فهذا قياس الأصول، فلا نبطله بخبر الواحد. قال الآخرون: هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص، فضلاً عن أن يقدم على النص، وهو قياس مخالف لأصول الشرع، ولغة العرب، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وعمل الصحابة فى عهد الصديق. فأما مخالفته لأصول الشرع، فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقاً يملك فيه الرجعة ويكون مخيراً فيه بين الإمساك بالمعروف، وبين التسريح بالإحسان، ما لم يكن بعوض أو يستوفى فيه العدد. والقرآن قد بين ذلك كله: فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة، ولا عدة عليها، وبين أن المفتدية تملك نفسها، ولا رجعة لزوجها عليها، وبين أن
(14/291)
المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه، وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وبين
(14/292)
ص -300- أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة، وهو مخير بين الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان. وهذا كتاب الله عز وجل قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها، وجعل سبحانه أحكامها من لوازمها التى لا تنفك عنها. فلا يجوز أن تتغير أحكامها البته، فكما لا يجوز فى الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب فيه العدة، ولا فى الطلقة المسبوقة بطلقتين أن تثبت فيها الرجعة، وأن تباح بغير زوج وإصابة، ولا فى طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة، فكذلك لا يجوز فى النوع الآخر من الطلاق أن يتغير حكمه، فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة، فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذى حكم به فيه. وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة. ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك، فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة، إلا الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخلع، والطلقة الثالثة. فبيننا وبينكم كتاب الله، فإن كان فيه شىء غير هذا فأوجدونا إياه. ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعى فى تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث، وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد. واحتجوا عليه بقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]. قالوا: ولا يعقل فى لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة. فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُوِلهِ وَتَعْمَلْ صَالحِاً نُؤْتِهاَ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]. وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ".فأجابهم الآخرون بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة، والأعيان تارة. وأكثر ما تستعمل فى الأفعال. وأما الأعيان فكقوله فى الحديث: "انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلى
(14/293)
ص -301- الله تعالى عليه وآله وسلم مَرّتَيْن ِ". أى شقتين وفلقتين. ولما خفى هذا على من لم يحط به علماً زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة فى زمانين. وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة، ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله "مرتين" المرة الزمانية. إذا عرف هذا فقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وقوله "يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ". أى ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفاً. وهذا يمكن اجتماع المرتين منه فى زمان واحد. وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما فى زمن واحد، فإنهما مثلان، واجتماع المثلين محال. وهو نظير اجتماع حرفين فى آن واحد من متعلم واحد، وهذا مستحيل قطعاً فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق فى إيقاع واحد. ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤد للواجب عليه، وإنما يستحب له رمى حصاة واحدة، فهى رمية لا سبع رميات واتفقوا كلهم على أنه لو قال فى اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أنى صادق، كانت شهادة واحدة. وفى الحديث الصحيح: "مَنْ قَالَ فى يَوْمٍ سُبْحَانَ اللهِ وَبحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدَ الْبَحْرِ". فلو قال: سبحان الله وبحمده مائه مرة، هذا اللفظ، لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة. وكذلك قوله: "تُسَبِّحُونَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثَلاثاَ وَثَلاَثِينَ، وَتحْمَدُونَ ثَلاثاً وَثَلاثِين، وَتُكَبِّرُونَ أَرْبَعاً وَثلاثِينَ". لو قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، لم يكن مسبحاً هذا العدد حتى يأتى به واحدة بعد واحدة. ونظائر ذلك فى الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر. قالوا: فقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]. إما أن يكون خبراً فى معنى الأمر، أى إذا طلقتم
(14/294)
ص -302- فطلقوا مرتين. وإما أن يكون خبراً عن حكمه الشرعى الدينى، أى الطلاق الذى شرعته لكم، وشرعت فيه الرجعة: مرتان. وعلى التقديرين: إما أن يكون ذلك مرة بعد مرة، فلا يكون موقعاً للطلاق الذى شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة، ولا يكون موقعاً للمشروع بقوله: أنت طالق ثلاثاً، ولا مرتين. قالوا: ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع فى مرتين، فلو شرع جمع الطلاق فى دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحاً، ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة بجمعه. وهذا خلال ظاهر القرآن، وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان. وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك. قالوا: ويدل عليه أن الطلاق اسم محلى باللام، وليست للعهد بل للعموم، فالمراد بالآية: كل الطلاق مرتان. والمرة الثالثة التى تحرمها عليه، وتسقط رجعته. وهذا صريح فى أن الطلاق المشروع هو المتفرق، لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم. قالوا: ويدل عليه قول تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْساَنٍ} [البقرة: 229]. فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها، فإنه لا يبقى بعدها إمساك. قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]. و "إذا" من أدوات العموم، كأنه قال: أى طلاق وقع منكم فى أى وقت فحكمه هذا، إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقى ما عدها داخلاً فى لفظ الآية نصاً أو ظاهراً. قالواً: ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]. فهذا عام فى كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين، فالقرآن يقتضى أن ترجع إلى زوجها إذا أرادت فى كل طلاق ماعدا الثالثة. قالوا: ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {يَا
(14/295)
أَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتّقُوا اللهَ رَبَّكُمُ لا تُخْرِجُوهنَّ مِنْ بُيُوتهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعَدَ ذلِكَ أمَراً * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1-2]. ووجه الأستدلال بالآية من وجوه.
(14/296)
ص -303- أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أى لاستقبال عدتها. فتطلق طلاقاً يعقبه شروعها فى العدة، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما لما طلق امرأته فى حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيراً للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق فى قبل العدة. وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى فى ذلك الطهر، لأنه غير مطلق للعدة. فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة. ثم قال الإمام أحمد فى ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك. فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة. وقال فى رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية فى الطهر الثانى، ويطلقها الثالثة فى الطهر الثالث، وهو قول أبى حنيفة فيكون مطلقاً للعدة أيضا لأنها تبتنى على ما مضى. والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد، لأن الطلاق البائن لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة، فلا يكون مأذوناً فيه. فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى، لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعاً قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها. وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما فى القراءة الأخرى التى تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن فى قُبُلِ عدِّتهن. قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فإن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف فى الأطهار من لا يجوزّ الجمع فى الطهر الواحد. وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق
(14/297)
امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه. ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس،
(14/298)
ص -304- وإن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]. فما أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم، وهذا فهم من دعاً له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ الدِّينِ، وَيُعَلّمَهُ التَّأْوِيلَ". وهو من أحسن الفهوم كما تقرر. الوجه الثانى من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]. وهذا إنما هو فى الطلاق الرجعى. فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم الصحيحة التى لا مطعن فى صحتها، الصريحة التى لا شبهة فى دلالتها. فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال: لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها. والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقاً له فلها عليه حقوق الزوجية، فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن. الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]. فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالماً. الوجه الرابع:أنه سبحانه قال: {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أمْراً} [الطلاق: 1]. وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر هاهنا هو الرجعة. قالوا "وأىّ أمر يحدث بعد الثلاث ؟". الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]. فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن
(14/299)
يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُن لعِدَّتهِنَّ} [الطلاق: 1]. كما تقدم وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف
(14/300)
ص -305- الطلاق الطلاق فى طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقاً فى غير قبل العدة، فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى. قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد فى وقوعه ومفارقة حبيبته. وقد وقت للعدة أجلاً لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة فى حال حيضها، لأنه وقت نفرته عنها، وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد فى إمساكها لقضاء وطره. فإذا طلقها فى هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما فى الطلاق فى الحيض من تطويل العدة، وعقيب الجماع من طلاق مَن لعلها. قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها فى هذه الحال إلا لحاجته إليه. فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا فى هذه الحال أو فى حال استبانة حملها، لأن إقدامه أيضاً على طلاقها فى هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق. وقد أكد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق فى الطهر الذى يلى الحيضة التى طلق فيها، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها. وفى ذلك عدة حكم: منها: أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهى فى حكم القرء الواحد، فإذا طلقها فى ذلك الطهر فكأنه طلقها فى الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشىء الواحد. الثانية: أنه لو أذن له فى طلاقها فى ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضد مقصود الرجعة. فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق، وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد الله تعالى فى
(14/301)
شرعه ودينه.
(14/302)
ص -306- الثالثة: أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما فى نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صلحت الحال بينهما، وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتاً إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذى هو أبعد شىء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقاً بحيث لا يكون له سبباً إليها ؟ وكيف يجتمع فى حكمة الشارع وحكمة هذا وهذا ؟. فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هى بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهى الواحدة. قالوا: فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم، وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا، وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التى ذكرناها. وقولكم: إن المطلق ثلاثاً قد جمع ما فسح له فى تفريقه: هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقاً لا مجموعاً، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف: "رجل أخطأ السنة، فيرد إليها" فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة. ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقاً فأراد أن يجمعه كرمى الجمار الذى إنما شرع له مفرقاً، واللعان الذى شرع كذلك، وأيمان القسامة التى شرعت كذلك. ونظير قياسكم هذا: أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها فى وقت واحد، لأنه جمع ما أمر بتفريقه. على أن هذا قد فهمه كثير من العوام، يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع فى وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها.
(14/303)
ص -307- فصل فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له فسادها. فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دالة على خلافه، وذكروا أحاديث. منها: ما فى الصحيحين عن فاطمة بنت قيس: "أَنَّ أبَا حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ طَلّقَهَا الْبَتّة، وَهُوَ غَائِبٌ. فأَرْسَلَ إِليْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَجَاءَتْ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذلِكَ. فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ". وقد جاء تفسير هذه "البتة" فى الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثاً، فلم يجعل لها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سكنى ولا نفقة. فقد أجاز عليه الثلاث، وأسقط بذلك نفقتها وسكناها. وفى المسند "أن هذه الثلاث كانت جميعاً" فروى من حديث الشعبى: "أَنّ فَاطِمَةَ خَاصَمَتْ أخَا زَوْجِهَا إلى النَّبىَّ صلى اللهُ تعالى عليه وسلَم لَمَّا أَخْرَجَهَا مِنَ الدَّارِ، وَمَنَعَهَا النَّفَقَةَ. فَقَال: مَالَكَ وَلابْنَةِ قَيْسٍ ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنّ أخِى طَلّقَهَا ثَلاثاً جَميعاً" وذكر الحديث. ومنها ما فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: "أَنَّ رَجُلاَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثلاثاً. فَتَزَوَّجَتْ، فَطُلِّقَتْ، فَسُئِلَ النَّبىُّ صلى اللهُ تعالى عليّ وآله وسلم: أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ ؟ قَالَ: لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كما ذَاقَ الأوَّلُ". ووجه الدليل: أنه لم يستفصل، هل طلقها ثلاثاً مجموعة أو متفرقة ؟ ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال. ومنها: ما اعتمد عليه الشافعى فى قصة الملاعنة: "أَنَّ عُوَيْمِراً الْعَجْلانىَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيْقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ ؟ أَمْ كَيفَ يَفْعَلُ ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى
(14/304)
الله تعالى عليه وآله وسلَم: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفى صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا. قَالَ سَهْلٌ فَتلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وآله وسَلم.
(14/305)
ص -308- فَلمَّا فَرَغَاً مِنْ تَلاعُنِهمَا قَالَ عُوَيَمرٌ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أمْسَكْتُهَا، فَطَلّقَهَا ثلاثاً قَبْلَ أَنْ يأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَكانَتْ تِلْكَ سَنَّةُ المتلاعِنَينِ" متفق عَلَى صحته. قال الشافعى: فقد أقره رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الطلاق ثلاثاً ولو كان حراماً لما أقره عليه. ومنها: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد قال "أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: أيلعب بكتاب الله. وأنا بين أظهركم ؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله ؟" ولم يقل: إنه لم يقع عليه إلا واحدة، بل الظاهر أنه أجازها عليه، إذ لو كانت زوجته ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك، لأنه إنما طلقها ثلاثاً يعتقد لزومها، فلو لم يلزمه لقال له: هى زوجتك بعد، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه عن ركانة: "أنه طلق امرأته البتة. فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: ما أردت ؟ قال: واحدة. قال: الله ما أردت بها إلا واحدة ؟ قال: الله ما أردت بها إلا واحدة" ورواه الترمذى وفيه "فقال: يا رسول الله، إنى طلقت امرأتى ألبتة، فقال: ما أردت بها ؟ فقلت: واحدة قال: والله ؟ قلت: والله، قال: فهو ما أردت" قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج "أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً" وقال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن على بن محمد الطنافسى يقول: ما أشرف هذا الحديث، قال أبو عبد الله بن ماجه: "أبو عبيد" تركه ناجية، وأحمد جبن عنه.
(14/306)
ص -309- ووجه الدلالة: أنه حلفه "ما أراد بها إلا واحدة" وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك، ولو كانت واحدة مطلقاً لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر، وإذا كان هذا فى الكناية، فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث ؟. ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث حماد بن زيد: حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "يَا مُعَاذُ، مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أوْ ثلاثاً أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ". ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "طَلّقَ بَعْضَ آبَائى امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَانَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلُفاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فقَالَ: إِنّ أبَاكُمْ لَم يَتّقِ اللهَ فَيَجْعَلْ لَهُ مخرجاً بانت منه بِثلاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّة، وَتِسْعُمائَةٍ وَسَبْعَةٌ وتِسْعُونَ إِثْمٌ فى عُنُقِهٍ". ومنها: ما رواه الدارقطنى أيضاً من حديث زاذان عن على رضى الله عنه قال: "سَمِعَ النَّبىُّ صلى الله تعَالى عليه وآله وسلم رَجُلاً طَلّقَ الْبَتَّةَ فغَضِبَ وقَالَ: أتَتّخِذُونَ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا، أوْ دِينَ اللهِ هُزُواً وَلِعباً ؟ مَنْ طَلّقَ الْبَتَّةَ أْلْزَمْنَاهُ ثلاثاً، لا تحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ". ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث الحسن البصرى قال: حدثنا عبد الله بن عمر "أنه طلق امرأته وهى حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله تعالى. إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن
(14/307)
تستقبل الطهر، فتطلق عند ذلك أو أمسك. فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً، أكان يحل لى أن أراجعها ؟ قال: لا. كانت تبين منك، تكون معصية". ومنها: ما رواه أبو داود والنسائى عن حماد بن زيد قال "قلت لأيوب: هل علمت أحداً قال فى "أمرك بيدك" إنها ثلاث غير الحسن ؟ قال: لا. ثم قال: اللهم غفراً إلا ما حدثنى
(14/308)
ص -310- قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ثلاث". فلقيت كثيراً، فسألته فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته: فقال: نسى. ورواه الترمذى وقال: لا نعرفه إلا من حديث سلمان بن حرب عن حماد بن زيد. وحسبك بسليمان بن حرب، وحماد بن زيد، ثقتين ثبتين. ومنها: ما رواه البيهقى من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثاً. ثم قال: لولا أنى سمعت جدى أو حدثنى أبى أنه سمع جدى يقول: "أيُّمَا رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً عِنْدَ الأَقْرَاءِ، أَوْ ثَلاثاً مُبْهَمَة لَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيرَهُ لَرَاجَعْتُهَا". رواه من حديث محمد بن حميد: حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبى قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد، وهذا مرفوع. قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر، وعامتها أصح من حديث أبى الصهباء، وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس. فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد، فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض، وإن كان الحديث الفرد متأخراً. كما قدم فى إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها متعددة، وحديث بريدة فى إباحتها فرد وهو متأخر، فإنه قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكمْ عَنْ الانْتِباذِ فى الأَوْعِيَةِ فَاشْرَبُوا فِيماَ بَدَا لَكُمْ، غَيْرَ أن لا تَشْرَبُوا مُسْكِراً". مع أنه حديث صحيح. رواه مسلم، ولا يعرف له علة.
(14/309)
ص -311- فصل قال الآخرون: هذه الأحاديث التى ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا، هى بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها. وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة، لا يصح شئ منها. ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزال الإشكال. أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا فى هذه المسألة قد خالفوه ولم يأخذوا به. فأوجبوا للمبتوته النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به، وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه. وأما الشافعى ومالك فأوجبوا لها السكنى. والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به. فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظاً، بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا فى جمع الثلاث. فأما أن يكون حجة لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل. هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من
(14/310)
ص -312- المحتج به. ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به. فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث، هكذا جاء مصرحاً به فى الصحيح. فروى مسلم فى صحيحه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "أنا أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبى ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله مالك نفقة إلا أن تكونى حاملاً. فأتت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "فَذَكَرْتْ لَهُ قَوْلَهُمَا فَقاَلَ: لا نَفَقَةَ لَكِ" وسَاق الحديث بطوله. فهذا المفسر يبين ذلك المجمل، وهو قوله "طلقها ثلاثاً". وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبى سلمة عن فاطمة بنت قيس: أنها أخبرته "أنها كانت تحت أبى حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات" وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج وشعيب بن أبى حمزة، كلهم عن الزهرى. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن
(14/311)
ص -313- الزهرى عن عبيد الله قال: "أَرْسَلَ مَرْوَانْ إلَى فَاطِمَةَ فَسأَلهَا فَأَخْبَرَتْهُ أنّهَا كانَتْ عِنْدَ أبى حَفْصِ ابْنِ المُغِيرَةِ، وَكَانَ النَّبىُّ صلى الله تعالَى عليه وآله وسلم أمَّرَ عَلِىَّ بْنَ أبى طَالِبٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ عَلَى بَعْضِ الْيَمَنِ، فَخَرَجَ مَعَهُ زَوْجُها فَبَعَثَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانتْ بَقِيتْ لهَا". وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب. كذلك ذكره أبو داود فى طريق أخرى. فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس. قالوا: ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئاً منه إذ كان صحيحاً صريحاً لا مطعن فيه ولا معارض له. فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار. وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ "طلقها ثلاثاً" و "طلقها ألبتة" و "طلقها آخر ثلاث تطليقات" و "أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها" و "طلقها ثلاثاً جميعاً". هذه جملة ألفاظ الحديث، وبالله التوفيق. فأما اللفظ الخامس وهو قوله "طلقها ثلاثاً جميعاً" هذه القصة عن الشعبى. ولم يقل ذلك عن الشعبى غيره مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبى. فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله "ثلاثاً جميعاً" وعلى تقدير صحته فالمراد به: أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال طلقها ثلاثا جميعاً. فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع فى الآن الواحد لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ من فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99]. فالمراد حصول الإيمان من الجميع لا إيمانهم كلهم فى آن واحد، سابقهم ولاحقهم. فصل وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضى الله عنها: "أنّ رَجُلاً طلق امْرَأَتَهُ ثَلاثاً، فَسُئِلَ النّبىُّ صلّى الله تَعالى عليهِ وآلِه وسلَم: هل تحل لِلأَوَّلِ ؟ فقال: لا" الحديث. هو حق يجب المصير إليه لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثاً
(14/312)
بفم واحد، فلا تدخلوا فيه ما ليس فيه. وقولكم: "ولم يستفصل" جوابه: أن الحال قد كان عندهم معلوما، وأن الثلاث إنما
(14/313)
ص -314- تكون ثلاثاً، واحدة بعد واحدة، وهذا مقتضى اللغة والقرآن والشرع والعرف كما بينا. فخرج الكلام على المفهوم المتعارف من لغة القوم. فصل وأما ما اعتمد عليه الشافعى من طلاق الملاعن ثلاثاً بحضرة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم ينكره، فلا دليل فيه. لأن الملاعنة يحرم عليه إمساكها وقد حرمت تحريما مؤبدا، فما زاد الطلاق الثلاث هذا التحريم الذى هو مقصود اللعان إلا تأكيداً وقوة، وهذا جواب شيخنا رحمه الله. وقال ابن المنذر: وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث، وأنه بدعة ثم قال: وأما ما اعتل به من رأى أن مطلق الثلاث فى مرة واحدة مطلق للسنة بحديث العجلانى. فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبية، علم الزوج الذى طلق ذلك أو لم يعلم. لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة، فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعان الزوج وحده، انتهى. وحينئذ فنقول: إما أن تقع الفرقة بالتعان الزوج وحده كما يقوله الشافعى، أو بالتعانهما كما يقوله أحمد، أو يقف على تفريق الحاكم. فإن وقعت بالتعانه أو التعانهما فالطلاق الذى وقع منه لغو لم يفد شيئاً ألبتة، بل هو طلاق فى أجنبية. وإن وقفت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرق بينهما تفريقا يحرمها عليه تحريما مؤبدا. فالطلاق الثلاث أكد هذا التحريم الذى هو موجب اللعان ومقصود الشارع. فكيف يلحق به طلاق الملاعنة وبينهما أعظم فرق ؟. فصل وأما حديث محمود بن لبيد فى قصة المطلق ثلاثاً، فالاحتجاج به على الجواز من باب قلب الحقائق، والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم لا على الإباحة. والاستدلال به على
(14/314)
ص -315- الوقوع من باب التكهن والخرِصْ، والزيادة فى الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشئ من وجوه الدلالات ألبتة، ولكن المقلد لا يبالى بنصرة تقليده بما اتفق له، وكيف يظن برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره فى شرعه وحكمه ونفذه ؟ وقد جعله مستهزئاً بكتاب الله تعالى ؟ وهذا صريح فى أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله فى أحكامه. فصل وأما حديث ركانة "أنه طلق امرأته البتة، وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم استحلفه ما أراد بها إلا واحدة" فحديث لا يصح. قال أبو الفرح بن الجوزى فى كتاب العلل له: قال أحمد: حديث ركانة ليس بشىء. وقال الخلال فى كتاب العلل عن الأثرم: قلت لأبى عبد الله: حديث ركانة فى "البتة" فضعفه وقال "ذاك جعله بنيته". وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخارى، وأبى عبيد، وغيرهم ضعفوا حديث ركانة "البتة" وكذلك أبو محمد بن حزم وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل، لا تعرف عدالتهم وضبطهم، قال: وقال الإمام أحمد: حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة لا يثبت. وقال أيضاً: حديث ركانة فى ألبتة ليس بشئ، لأن ابن إسحق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً" وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاث، طلق البتة". فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث "البتة" أصح من حديث ابن جريج "أن ركانة طلق امرأته ثلاثا" لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، يعني وهم الذين رووا حديث "البتة". فقال شيخنا في الجواب: أبو داود إنما رجح حديث "البتة" على حديث ابن جريج لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول فقال: حدثنا أحمد ابن صالح حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرنى بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق
(14/315)
ص -316- عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ثلاثا" الحديث، ولم يرو الحديث الذى رواه أحمد في مسنده عن إبراهيم بن سعد: حدثني أبى عن محمد بن إسحق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "طلق ركانة ابن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد" فلهذا رجح أبو داود حديث "البتة" على حديث ابن جريج. ولم يتعرض لهذا الحديث، ولا رواه فى سننه ولا ريب أنه أصح من الحديثين. وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبى الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج، مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها، أفادت العلم بأنها أقوى من حديث "البتة" بلا شك ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب فى ذلك. فكيف يقدم الحديث الضعيف الذى ضعفه الأئمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث؟
(14/316)
ص -317- فصل وأما حديث معاذ بن جبل، فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل. والدارقطنى إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به. وفى إسناده: إسماعيل ابن أمية الذارع، يرويه عن حماد. قال الدارقطنى بعد روايته: إسماعيل ابن أمية ضعيف متروك الحديث فصل وأما حديث عبادة بن الصامت الذى رواه الدارقطنى. فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقى. فصل وأما حديث زاذان عن على رضى الله عنه. فيرويه إسماعيل بن أمية القرشى. قال الدارقطنى: إسماعيل بن أمية هذا كوفى ضعيف. قلت: وفى إسناده مجاهيل وضعفاء.
(14/317)
ص -318- فصل وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطنى: حدثنا على بن محمد بن عبيد الحافظ: حدثنا محمد بن شاذان الجوهرى: حدثنا يعلى بن منصور: حدثنا شعيب بن رزيق: أن عطاء الخرسانى حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر، فذكره. وشعيب وثقه الدارقطنى. وقال أبو الفتح الأزدى فيه لين. وقال البيهقى، وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه، انتهى. ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب ألبتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحيح ولا السنن. فصل وأما حديث كثير مولى ابن سمرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة فقد أنكره كثير لما سئل عنه، ومثل هذا بعيد أن ينسى. وقد أعل البيهقى هذا الحديث، وقال: كثير لم يثبت
(14/318)
ص -319- من معرفته ما يوجب الاحتجاج به، قال: وقول العامة بخلاف روايته وقد ضعفه عبد الحق فى أحكامه" وابن حزم فى كتابه. فصل وأما حديث سويد بن غفلة عن الحسن فمن رواية محمد بن حميد الرازى. قال أبو زرعة الرازى: كذاب، وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذكونى، سلمة بن الفضل. قال أبو حاتم: منكر الحديث، وإن كان رواته شتى، فقد ضعفه إسحاق بن راهويه وغيره. فصل فما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر، وظنوا أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته. فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث، وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعى رحمه الله الإجماع أكبر من الخبر المنفرد. وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم. قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك. فثبت فى صحيح مسلم أن عمر رضى الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة. قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن شقيق سمع أنساً يقول: قال عمر فى الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، قال: هى ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وكان إذا أتى به أوجعه. وروى البيهقى من حديث ابن أبى ليلى عن على رضى الله عنه فيمن طلق ثلاثاً قبل الدخول، قال: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
(14/319)
ص -320- وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على: لا تحل له حتى تنكح غيره. وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن بعض أصحابه قال: جاء رجل إلى على رضى الله عنه. فقال: طلقت امرأتى ألفاً ؟ فقال: ثلاث تحرمها عليك، واقسم سائرها بين نسائك. وقال علقمة بن قيس: أتى رجل ابن مسعود رضى الله عنه، فقال: إن رجلاً طلق امرأته البارحة مائة ؟ قال: قلتها مرة واحدة ؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك ؟ قال: نعم، قال هو كما قلت. وأتاه رجل، فقال: إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم، فقال له مثل ذلك، ثم قال: قد بين الله سبحانه أمر الطلاق. فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له. ومن لبس جعلنا عليه لبسه. والله لا تلبسون إلا على أنفسكم، ونتحمله عنكم ؟ هو كما تقولون. وروى مالك فى الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البُكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتى. فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك. فقالا لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجاً غيرك. قال: إنما كان طلاقى إياها واحدة. فقال ابن عباس: إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. وفى الموطأ أيضاً فى هذه القصة: أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير. فقال: إن هذا الأمر مالنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبى هريرة، فإنى تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا. فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبى هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة. فقال أبو هريرة: الواحد تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره. وقال ابن عباس مثل ذلك.
(14/320)
ص -321- فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير. وفى الموطأ أيضا: عن النعمان بن أبى عياش عن عطاء بن يسار قال "جاء رجل يستفتى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:19 | |
| ص -327- عكرمة عن ابن عباس "أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً فى مجلس واحد، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إنما هى واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فار تجعها"، ثم ذكر حديث أبى الصهباء، وذكر بعض تأويلاته التى ذكرناها. الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوى حكى القولين فى كتابه "تهذيب الآثار" فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثاً معاً، ثم ذكر حديث أبى الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً معاً فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت فى وقت سنة، وذلك أن تكون طاهراً فى غير جماع، واحتجوا فى ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً أمر رجلاً أن يطلق امرأته فى وقت فطلقها فى غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع ؟ إذ كان قد خالف ما أمر به. ثم ذكر حجج الآخرين والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين فى إنصاف مخالفيهم والبحث معهم،. ولم يسلك طريق جاهل ظالم متعد يبرك على ركبتيه، ويفجر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق، ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجرى معه فى ميدانه، والله سبحانه عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل. الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبى البركات: أنه كان يفتى بذلك أحيانا سراً، وقال فى بعض مصنفاته: هذا قول بعض أصحاب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد. قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبى حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبى حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، و إلا فلم أقف على نقل لأحد منهم. الوجه الثامن عشر: قال
(14/329)
أبو الحسن النسفى فى وثائقه وقد ذكر الخلاف فى المسألة،
(14/330)
ص -328- ثم قال: ومن بعض حججهم أيضاً فى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]. وإذا جمع الإنسان ذلك فى كلمة واحدة وكان ما زاد عليها لغواً، كما جعل مالك رحمه الله رمى السبع الجمرات فى مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقى، ومحمد بن عبد السلام الخشنى، وابن زنباع مع غيرهم من نظرائهم، هذا لفظه. الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبى صاحب كتاب "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام" ذكر الخلاف بين السلف والخلف فى هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها فى مذهب مالك نفسه. وذكر من كان يفتى بها من المالكية. والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جداً، ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر فى العلم باعه وطال فى الجهل والظلم ذراعه، يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة جهلاً منه وظلماً ويحق له وهو الدعى فى العلم وليس منه أقرب رحماً. قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة. فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذى ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها فى حيض أو نفاس، أو ثلاثاً فى كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق. فقال على بن أبى طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس. وقال: قوله "ثلاثاً" لا معنى له: لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله فى "ثلاث" إذا كان مخبراً عما مضى فيقول طلقت ثلاثاً، بخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه فى ثلاثة أوقات كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح.
(14/331)
ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذباً. وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثاً يردد الحلف، كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثاً، لم يكن حلف إلا يمينا واحدة. فالطلاق مثله. ومثله
(14/332)
ص -329- قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما، روينا ذلك كله عن ابن وضاح. وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن بقى بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشنى فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة. وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق فى كتابه لفظ الطلاق، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان} [البقرة: 229]. يريد أكثر الطلاق الذى يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة فى العدة، ومعنى قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضى عدتها، وفى ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى: {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]. يريد الندم على الفرقة والرغبة فى المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن، لأنه ترك المندوحة التى وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقاً. فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد فتدبره. وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك. من ذلك: قول الرجل: مالى صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه. هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفترى الجاهل الظالم المعتدى يجعل هؤلاء كلهم كفاراً مباحة دماؤهم ؟ سبحانك، هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى، أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضى به المقلدون، وردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله. وَتِلْكَ شَكاةٌُ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود، وأصحابه. وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس وراء ظهورهم، فلم يعبئوا به شيئاً، وخالفهم أبو محمد بن حزم فى ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها. فهذه عشرون وجها فى إثبات النزاع فى هذه المسألة
(14/333)
بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذى لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن على وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن
(14/334)
ص -330- بن عوف وابن عباس. ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلى وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة. ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك، فلذلك لم نعد ما حكى عنهم فى الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه فى مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق. فإن قيل: فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم، فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين، وثانى الخلفاء الراشدين المحدث الملهم، الذى أمرنا باتباع سنته والاقتداء به ؟ أفتظنون به أنه كان يرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة ؟ مع أنه أيسر على الأمة وأسهل، وأبعد من الحرج، ثم يعمد إلى مخالفة ذلك برأيه ويلزم الأمة بالثلاث من قبل نفسه، فيضيق عليهم ما وسعه الله تعالى ويعسر ما سهله ويسد ما فتحه ويحرج ما فسحه، ثم يتابعه على ذلك أكابر الصحابة، ويوافقونه ولا يخالفونه ؟، ثم هب أنهم خافوا منه في حياته، وكلا، فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك. وكان إذا بينت له المرأة ما خفى عليه من الحق رجع إليه. وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق، وأن يمسكوا عنه خوفاً من عمر رضى الله عنه. فقد دار الأمر بين القدح فى عمر رضى الله عنه والصحابة معه، وبين رد تلك الأحاديث إما لضعفها وإما لنسخها وخفى علينا الناسخ، وإما بتأويلها وحملها على محمل يصح. ولا ريب أن هذا أولى لتوفية حق الصحابة الذين هم أعلم بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من جميع من بعدهم ؟ قيل: لعمر الله، وإن هذا لسؤال يورد أمثاله أهل العلم، وإنه ليحتاج إلى جواب شاف كاف، فيقول: الناس هنا طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومن وافقه. وطائفة اعتذرت عن عمر رضى الله عنه ولم ترد
(14/335)
الأحاديث. فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود
(14/336)
ص -331- المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثانى: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها. فإن الشارع بنوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر فى المرة الرابعة. وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدى العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية. وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب. وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله.
(14/337)
ص -332- وعزر بالعقوبات المالية فى عدة مواضع. وعزر من مثل بعبده بإخراجه عنه وإعتاقه عليه. وعزر بتضعيف الغرم على سارق مالاً قطع فيه، وكاتم الضالة. وعزر بالهجر ومنع قربان النساء. ولم يعرف أنه عزر بدرة، ولا حبس، ولا سوط، وإنما حبس فى تهمة، ليتبين حال المتهم. وكذلك أصحابه تنوعوا فى التعزيرات بعده. فكان عمر رضى الله عنه يحلق الرأس وينفي ويضرب، ويحرق حوانيت الخمارين
(14/338)
ص -333- والقرية التى تباع فيها الخمر وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية. وكان له رضى الله تعالى عنه فى التعزير اجتهاد وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة، وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم، لم يكن مثلها على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو كانت، ولكن زاد الناس عليها وتتابعوا فيها. فمن ذلك: أنهم لما زادوا فى شرب الخمر وتتابعوا فيه، وكان قليلاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، جعله عمر رضى الله عنه ثمانين ونفى فيه. ومن ذلك: اتخاذه درة يضرب بها من يستحق الضرب. ومن ذلك: اتخاذه داراً للسجن. ومن ذلك: ضربه لنوائح حتى بدا شعرها. وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التى لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدماً. ومن ذلك: أنه رضى الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، رأى إلزامهم بها عقوبة لهم، ليكفوا عنها. وذلك إما من التعزير العارض الذى يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب فى الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس، وينفى عن الوطن، وكما منع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه. وإما ظناً أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك فى متعة الحج، إما مطلقاً، وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.
(14/339)
ص -334- وإما لقيام مانع قام فى زمنه منع من جعل الثلاث واحدة كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بنى تغلب وغير ذلك. فهذا وجه ثالث: فإن الحكم ينتفى لانتفاء شروطه، أو لوجود مانعه. والإلزام بالفرقة فسخاً أو طلاقاً لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن تارة يكون حقاً للمرأة، كما فى العنة والإيلاء والعجز عن النفقة والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك. وتارة يكون حقاً للزوج، كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه أو كماله. وتارة يكون حقاً لله تعالى كما فى تفريق الحكمين بين الزوجين عند من يجعلهما وكيلين، وهو الصواب وكما فى وقوع الطلاق بالمولى إذا لم يفئ فى مدة التربص عند كثير من السلف والخلف وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله: إنهما إذا تطاوعا على الإتيان فى الدبر فرق بينهما. وقريب من ذلك: أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه، كما قاله أحمد رحمه الله وغيره. واحتجوا بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "أمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ، لَمّا أَمَرَهُ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ".
(14/340)
ص -335- فالإلزام إما من الشارع، وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد. وأصل هذا: أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضى عدوه إبليس حيث يفرح بذلك، ويلتزم من يكون على يديه من أولاده ويدنيه منه، ومفارقة طاعته بالنكاح الذى هو واجب أو مستحب، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق. وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه، شرعه على وجه تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة، وحرمه على غير ذلك الوجه. فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة. فشرع له أن يطلقها طاهراً من غير جماع طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها، فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة، كان له سبيل إلى لم الشعث وإعادة الفراش، كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسه تركها فنكحت من شاءت. وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار. فهذا هو الذى شرعه وأذن فيه. ولم يأذن فى إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضى بالفسخ والافتداء، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقى له طلقة واحدة. فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه عقوبة له، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبته تصير إلى غيره فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق. فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثاً بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم وبغضه له. فوافقه أمير المؤمنين فى عقوبته لمن طلق ثلاثاً جميعاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذى يترتب عليه.
(14/341)
ص -336- قيل: نعم لعمر الله، قد كان يمكنه ذلك ولذلك ندم عليه فى آخر أيامه، وود أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلى فى مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى: حدثنا صالح ابن مالك: حدثنا خالد بن يزيد بن أبى مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما ندمت على شىء ندامتى على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالى، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح. ومن المعلوم أنه رضى الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعى، الذى أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جوازه. ولا الطلاق المحرم الذى أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق فى الحيض، وفى الطهر المجامع فيه. ولا الطلاق قبل الدخول الذى قال الله تعالى فيه: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَّلْقتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضى الله عنه أراده: فتعين قطعاً أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا فى شئ كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم ؟ وهذا كالصريح فى أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى فى التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ. فأمضاه عمر رضى الله عنه عليه، فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه. وهذا مذهب الأكثرين: مالك، وأحمد، وأبى حنيفة رحمهم الله. فرأى عمر رضى الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به. فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عُدوله إلى تحريم الثلاث الذى يدفع المفسدة من أصلها. واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر فى زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
(14/342)
وأبى بكر، وأول خلافة عمر رضى الله عنهما أولى من ذلك كله. ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة ولا يصلح الناس سواه، ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لابد لهم منهما: إما الدخول فيما لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعله وتابع عليه اللعنة، وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة.
(14/343)
ص -337- والذى شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأتى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده، الراغبين عن تقواه وطاعته أبواب اليسر والفرج السهولة. فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله، كما قال تعالى فى السورة التى بين فيها الطلاق، وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وقال فيها {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] وقال فيها {وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاَتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5]. فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقاً أن لا يجعل الله له مخرجاً وأن لا يجعل له من أمره يسراً. وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس، وابن مسعود، لمن طلق ثلاثاً جميعاً: إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً. وقال شعبة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: عصيت ربك: وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً. {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]. وقال الأعمش: عن مالك بن الحارث عن ابن عباس: أن رجلاً أتاه فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثاً، فقال: إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجاً، فاندمه الله تعالى، أطاع الشيطان فقال: أفلا يحللها له رجل ؟ فقال من يخادع الله يخدعه. والله تعالى قد جرت سنته فى خلقه بأن يحرم الطيبات شرعاً وقدرَاً على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره، وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله، واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه، كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى. فهذا نهاية إقدام الناس فى باب الطلاق. يبقى أن يقال: فإذا خفى على أكثر الناس حكم الطلاق، ولم يفرقوا بين الحلال والحرام
(14/344)
منه جهلاً، وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به،
(14/345)
ص -338- لكونهم لم يتعلموا دينهم الذى أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم كيف يطلقون ؟ وماذا أبيح لهم من الطلاق ؟ وماذا يحرم عليهم منه ؟ أم يقال لا يستحقون العقوبة، لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعاً ولا قدراً إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]. وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها، والتعزيرات ملحقة بالحدود. فهذا موضع نظر واجتهاد، وقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ". فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلاً، ثم علم به فندم وتاب، فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذى جعله الله تعالى لمن اتقاه، ويجعل له من أمره يسراً. والمقصود: أن الناس لابد لهم فى باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها. أحدها: باب العلم والاعتدال الذى بعث الله تعالى به رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم. والثانى: باب الآصار والأغلال، الذى فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه. والثالث: باب المكر والاحتيال الذى فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى، واتخاذ آياته هزواً ما فيه، ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم. فصل ومن مكايده التى كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذى يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته فى أمره ونهيه، وهى من الرأى الباطل الذى اتفق السلف على ذمه
(14/346)
ص -339- فإن الرأى رأيان: رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذى اعتبره السلف، وعملوا به. ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذى ذموه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً والباطل حقاً، فهذا النوع الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. وقال الإمام أحمد رحمة الله: لا يجوز شئ من الحيل فى إبطال حق مسلم. وقال الميمونى: قلت لأبى عبد الله: من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة ؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. قلت: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولا فى شئ اتبعناه ؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة ؟ قال: نعم. فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السلف فى معانى الأسماء التى علقت بها الأحكام ليس بمحتال الحيل المذمومة.. وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها. وغرض الإمام أحمد بهذا: الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التى شرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التى تسلك لإبطال مقصوده. فهذا هو سر الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن فى النوع الثانى. قال شيخنا: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه: الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ
(14/347)
ص -340- وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 8-9] وقال تعالى: {إِنَّ الُمْنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهٌمْ} [النساء: 142]. وقال فى أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62]. فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون، وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه، وأنه يكفى المخدوع شر من خدعه. والمخادعة: هى الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخادع. وهذا موافق لاشتقاق اللفظ فى اللغة. فإنهم يقولون: طريق خيدع، إذا كان مخالفاً للقصد لا يشعر به ولا يفطن له، ويقال للسراب الخيدع، لأنه يغر من يراه، وضب خدَعِ، أى مراوغ. كما قالوا: أخدع من ضب، ومنه: "الحرب خدعة" وسوق خادعة، أى متلونة، وأصله: الإخفاء والستر. ومنه سميت الخزانة مخدعاً. فلما كان القائل "آمنت" مظهراً لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعاً، بل مريد لحكمها وثمرتها فقط مخادعاً، كان المتكلم بلفظ "بعت" و "اشتريت" و "طلقت" و "نكحت" و"خالعت" و "آجرت"، و "ساقيت" و "أو صيت" غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعاً، بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له، أو ضد ما شرعت له مخادعاً. ذاك مخادع فى أصل الإيمان، وهذا مخادع فى أعماله وشرائعه. قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق فى آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق فى أصل الدين. يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما "أنه جاءه رجل فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثا، أيحلها له رجل ؟ فقال: من يخادع الله يخدعه". وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن العينة، يعنى بيع الحريرة ؟ فقال: إن الله تعالى لا يخدع، هذا ما حرم الله تعالى ورسوله. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان
(14/348)
الحافظ المعروف بمُطَين فى كتاب البيوع له. وعن ابن عباس: أنه سئل عن العِينة، يعنى بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله تعالى ورسوله، رواه الحافظ أبو محمد النخشى.
(14/349)
ص -341- فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصود به الربا خداعاً لله، وهم المرجوع إليهم فى هذا الشأن والمعوّل عليهم فى فهم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا فى المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دِلسة. قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة. وقال أيوب السختيانى فى المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عياناً كان أهون علىّ. وقال شريك بن عبد الله القاضى فى كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة. وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنهم يريدون سلمه، وهم يقصدون بذلك المكُر به من حيث لا يشعر. فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه. كما أن المحلل والمرابى يظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا الطلاق بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد، من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل، فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعاً أو عرفاً خديعة. قال: وتلخيص ذلك أن مخادعة الله تعالى حرام، والحيل مخادعة لله. بيان الأول: أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم، وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم. وبيان الثانى: أن ابن عباس وأنساً وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى، وهم أعلم بكتاب الله تعالى. الثانى: أن المخادعة إظهار شئ من الخير وإبطان خلافه كما تقدم. الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام، ومراده غيره، سمى مخادعا لله تعالى، وكذلك المرابى. فإن النفاق والربى من باب واحد. فإذا كان هذا الذى أظهر قولاً غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه، وهذا الذى أظهر فعلاً غير معتقد ولا مريد لما شرع له مخادعاً. فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذى شرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذى شرع له. وإذا كان مشاركاً لهما فى المعنى الذى
(14/350)
سميا به مخادعين وجب أن يشركهما فى اسم الخداع، وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق.
(14/351)
ص -342- الوجه الثانى: أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التى جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التى يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التى بين المتعاقدين وهو يريد بها حقائقها المقومة لها، ولا مقاصدها التى جعلت هذه الألفاظ محصلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسئ عشرتها ولا حاجة فى نكاحها، أو ينكحها ليحلها لمطلقها، لا ليتخذها زوجاً، أو يخلعها ليلبسها، أو يبيع بيعاً جائزاً ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزواً. يوضحه: الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته ؟ طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك؟" فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئاً بآيات الله تعالى، متلاعباً بحدوده. ورواه ابن بطة بإسناد جيد، ولفظة "خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك". الوجه الرابع: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد "أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟" الحديث، وقد تقدم. فجعله لاعباً بكتاب الله، مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به، فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقاً يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقاً لا يملك فيه ردها. وأيضاً فإن المرتين والمرات فى لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم: لما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات فى مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى وما دل عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذى رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع ؟. الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم ما
(14/352)
بلاهم به فى سورة
(14/353)
ص -343- ن وهم قوم كان للمساكين حق فى أموالهم، إذا جذوا نهاراً، بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق لئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهم نائمون فأصبحت كالصريم. وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجئ المساكين، فكان فى ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده. الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر [ الأعراف: 163 167 ] عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففى هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهى الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها، ليس المحتال على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه. ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا والله أعلم مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفى بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له فى الحد والحقيقة. فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين فى بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردة، يشبهونهم فى بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقاً، يوضحه: الوجه السابع: أن بنى إسرائيل كانوا أكلى الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله
(14/354)
ص -344- تعالى فى كتابه، وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام فى يوم بعينه، ولذلك كان الربا والظلم حراماً فى شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم أن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة. فيشبه، والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرماً إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته. ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يقضى به إلى خير ورحمة. ومن أكله مستحلاً له بنوع احتيال تأول فيه، فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد فى حل الحرام، وذلك قد يفضى به إلى شر طويل. وقد جاء ذكر المسخ فى عدة أحاديث قد تقدم بعضها فى هذا الكتاب كقوله فى حديث أبى مالك الأشعرى، الذى رواه البخارى فى صحيحه: "وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يوْمِ الْقِيَامَةِ". وقوله فى حديث أنس: "لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ". وفى حديث أبى أمامة أيضا: "يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الامَّةِ عَلَى طعْمٍ وَشرْبٍ وَلَهْوٍ فَيٍُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ". وفى حديث عمران بن حصين: "يَكُونَ فى أُمَّتِى قَذْفٌ وَمَسْخٌ وَخَسْفٌ". وكذلك فى حديث سهل بن سعد وكذلك فى حديث على بن أبى طالب، وقوله: "فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وخسفاً، ومسخاً".
(14/355)
ص -345- وفى حديثه الآخر: "يمسخ طائفة من أمتى قردة وطائفة خنازير". وفى حديث أنس رضى الله عنه "ليكونن فى هذه الأمة خسف وقذف ومسخ". وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه "يمسخ قوم من هذه الأمة فى آخر الزمان قردة وخنازير. قالوا: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ؟ قال: بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون. قالوا: فما بالهم لله ؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، القينات، فباتوا على شربهم ولهوهم. فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير". وفى حديث جبير بن نفير: ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف. فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف، والقذف، والمسخ، والصواعق. وقال سالم بن أبى الجعد: ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم، فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قرداً أو خنزيراً، وليمرن الرجل على الرجل فى حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قرداً أو خنزيراً. وقال أبو هريرة: لا تقوم الساعة حتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً. فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى إلى شأنه ذلك حتى يقضى شهوته، وحتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى لشأنه ذلك، حتى يقضى شهوته منه. وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: "يُوشِكُ أَنْ يْقعُدَ أُثْنَانِ عَلَى ثِفَالِ رَحىً يَطْحَنَانِ، فَيُمْسَخُ أحَدُهُمَا وَالآخَرُ يَنْظُرُ". وقال مالك بن دينار: بلغنى أن ريحاً تكون فى آخر الزمان، وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا. وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبى الدنيا فى كتاب ذم الملاهى. فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع فى هذه الأمة ولا بد وهو فى طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه. فقلب الله
(14/356)
تعالى صورهم كما قلبوا دينه. والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم. ومن لم يمسخ منهم فى الدنيا مسخ فى قبره أو يوم القيامة.
(14/357)
ص -346- وَقد جاءَ فى حديثٍ الله أَعلم بحَالهِ: "يُحشَرُ أكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فى صَوَرِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلابِ مِنْ أَجْلِ حِيَلهِمْ عَلَى الرِّبَا كمَا مُسِخَ أصحاب دَاوُدَ لاحْتِيَالِهمْ عَلَى أخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ". وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء فى أحاديث كثيرة. قال شيخنا: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة. فإنهم لو استحلوها مع اعتقد أن الرسول حرمها كانوا كفار ولم يكونوا من أمته. ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصى، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: يستحلون. فإن المستحل للشئ هو الذى يفعله معتقداً حله. فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر، يعنى أنهم يسمونها بغير اسمها، كما جاء فى الحديث. فيشربون الأنبذة المحرمة، ولا يسمونه خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة. وهذا لا يحرم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال فى بعض الصور كحال الجرب وحال الحكة. فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون: لا فرق بين حال وحال. وهذه التأويلات ونحوها واقعة فى الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله: وَهَلْ أَفسدَ الدِّينَ إِلا الملُو كُ وَأحبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا ومعلوم أنها لا تغنى عن أصحابها من الله شيئاً بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه
(14/358)
ص -347- الأشياء بيانا قاطعاً للعذر مقيما للحجة. والحديث الذى رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ليشربن ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله تعالى بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير". الوجه الثامن: أن النبى صلى الله تعالى وآله وسلم قال: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" الحديث. وهو أصل فى إبطال الحيل وبه احتج البخارى على ذلك. فإن من أراد أن يعامل رجلاً معاملة يعطيه فيها ألفاً بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة، وباعه ثوباً بستمائة يساوى مائة، إنما نوى بإقراض التسعمائة تحصيل الربح الزائد. وإنما نوى بالستمائة التى أظهر أنها ثمن الثوب الربا. والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه، ومن عامله يعلمه، ومن أطلع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة، وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللاً لهذا المحرم. الوجه التاسع: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "البَيِّعَانِ بِالخْيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلا أنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ. وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أنْ يَسْتَقِلهُ". رواه أحمد وأهل السنن، وحسنه الترمذى. وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل. ووجه ذلك: أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذى يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما. فحرم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهى طلب الفسخ، سواء كان العقد جائزا أو لازماً، لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق فى العرف له. فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرق
(14/359)
لذلك. وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما فى حاجته ومصلحته.
(14/360)
ص -348- الوجه العاشر: ما روى محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكبَتِ الْيَهُودُ، وَتَسْتَحِلُّواً مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ". رواه أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام حدثنا الحسن بن الصباح الزعفرانى حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو، وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذى. وهو نص فى تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل. وإنما ذكر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذى قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه. فمن أسهل الحيل على من أراد فعله: أن يعطيه مثلاً ألفاً إلا درهماً باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوى درهماً بخمسمائة. وكذلك المطلق ثلاثاً: من أسهل الأشياء عليه أن يعطى بعض السفهاء عشرة دراهم مثلاً. ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعى. فإنه يصعب معه عودها حلالاً إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن التشبه باليهود، وقد كانوا احتالواً فى الاصطياد يوم السبت، بأن حفرواً خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز. لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة. ومن احتيالهم: أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم، تأولواً أن المراد نفس إدخاله الفم، وأن الشحم هو الجامد دون المذاب، فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا فى أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشئ فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله، إذ البدل يسد مسده. فلا فرق بين حال جامده وودكه، فلو كان ثمنه حلالاً لم يكن فى تحريمه كثير أمر، وهذا هو:
(14/361)
ص -349- الوجه الحادى عشر: وهو ما روى ابن عباس قال: "بَلَغَ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ أنّ فُلاناً بَاعَ خَمْراً. فقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاناً، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وسّلمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا" متفق عليه. قال الخطابى: "جملوها" معناه: أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال: جملت الشحم، وأجملته، واجتملته. والجميل: الشحم المذاب. وعن جابر بن عبد الله: أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه و آله وسلم يقول: "إِنّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمرِ وَالمَيْتَةِ، وَالْخَنْزِيرِ، وَالأَصّنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ فإِنّهَا يُطْلَى بهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِح بهَا النّاسُ ؟ فَقَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثمَنَهُ" رواه البخارى وأصله متفق عليه. قال الإمام أحمد، فى رواية صالح، وأبى الحارث فى أصحاب الحيل: عمدواً إلى السنن، فاحتالوا فى نقضها، فالشئ الذى قيل إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه. ثم احتج بهذا الحديث، وحديث: "لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ". قال الخطابى قد ذكر حديث الشحوم: فى هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئة وتبديل اسمه، وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تقرب مال اليتيم، فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال: لم آكل نفس مال اليتيم. أو اشترى شيئاً فى ذمته ونقده وقال: هذا قد ملكته وصار عوضه دينا فى ذمتى، فإنما أكلت ما هو ملكى باطناً وظاهراً. ولو لا أن الله سبحانه
(14/362)
رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم ع | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:21 | |
| ص -351- يستحل الشراب المسكر، زاعما أنه ليس خمراً مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا. فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديث عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من وجوه أخرى. منها: ما رواه النسائى عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها" وإسناده صحيح. ومنها: ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها" ورواه الإمام أحمد، ولفظه: "ليستحلنّ طائفة من أمتى الخمر". ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضاً من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تذهب الليالى والأيام حتى تشرب طائفة من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها". فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالاً لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه. وكذلك شبهتهم فى استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة، وفى الحرب. وقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الّتِى أخْرَجَ لِعبَادِهِ} [الأعراف: 32]. والمعازف قد أبيح بعضها فى العرس ونحوه، وأبيح الحداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل. فإذا كان من عقوبة هؤلاء: أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم، وفعلهم أقبح؟ فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون،. إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذى استحلواً به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضواً عن مقصود الشارع وحكمته فى تحريم هذه الأشياء. ولذلك مسخواً قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذى استحلواً به المحارم، وخسف ببعضهم كما خسف بقارون، لأن فى الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما فى الزينة التى خرج فيها قارون على قومه، فلما
(14/366)
مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين
(14/367)
ص -352- فصل وقد أخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن استحلالهم الخمر باسم آخر. فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ". يعنى العينة، وهذا وإن كان مرسلاً فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهى الأحاديث الدالة على تحريم العينة. فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعاً، وفى هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح، وإنما استحل باسم البيع وصورته، فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه. ومن المعلوم أن الربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة فى الحيل الربوية كقيامها فى صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفس الربا، وإنما توسلاً إليه بعقد غير مقصود وسمياه باسم مستعار غير اسمه. ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التى حرم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة. منها: أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربى صريحاً، لأنه واثق بصورة العقد واسمه. ومنها: أنه يطالبه مطالبه معتقد حل تلك الزيادة وطيبها بخلاف مطالبه المربى صريحا. ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة. والنفوس أرغب شئ فى التجارة، فهو فى ذلك بمنزلة من أحب امرأة حباً شديداً ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه. فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته، فصار
(14/368)
ص -353- يأتيها آمنا. وهما يعلمان فى الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان بها إلى الغرض. ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التى حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم. والدين اللازم الذى لا ينفك عنه. وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع فى الواقع. فالربا أخو القمار الذى يجعل المقمور سليبا حزينا محسوراً. فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد تحريمه، وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حرم التفرق فى الصرف قبل القبض، وأن يبيعه درهماً بدرهم إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافاً مضاعفة ؟ ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم. فإن ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له، فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذى بتغيير صورته، مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه، ازداد المريض بتناوله مرضاً إلى مرضه، وترامى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه. وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورتها وأسمائها، والوجدان شاهد بذلك. فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين، ولم يحومها لأجل أسمائها وصورها. ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها،
(14/369)
ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن
(14/370)
ص -354- الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا لم نأكله. وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد. فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة فى المفسدة التى حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يحرم الشئ لمفسدة ويبيحه لأعظم منها. ولهذا قال أيوب السختيانى: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون. وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بأَدْنَى الْحِيَلِ". وقال بشر بن السرى وهو من شيوخ الإمام أحمد: نظرت فى العلم، فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت فى الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنة والنار، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام وجماع الخير. ونظرت فى الرأى فإذا فيه المكر والخديعة، والتشاح، واستقصاء الحق والمماراة فى الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطيعة الأرحام، والتجرؤ على الحرام. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر أصحاب الحيل فقال: يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. والرأى الذى اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله هو الذى اتفق السلف على ذمه وعيبه. فروى حرب عن الشعبى قال: قال ابن مسعود رضى الله عنه: إياكم وأرأيت، أرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت، ولا تقيسواً شيئاً بشئ فتزل قدم بعد ثبوتها. وعن الشعبى عن مسروق قال: قال عبد الله: ليس من عام إلا والذى بعده شر
(14/371)
ص -355- منه، لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام وينثلم. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إياكم وأصحاب الرأى، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم. فعارضوها برأيهم، فإياكم وإياهم. وقال أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد: لا يجوز شئ من الحيل. وفى رواية صالح ابنه: الحيل لا نراها. وقال فى رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمر فى حديث: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ وَلا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتقَيلَهُ" قال فيه إبطال الحِيل. وقال فى رواية أبى الحارث: هذه الحيل التى وضعها هؤلاء، احتالوا فى الشئ الذى قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحلوه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها" فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم. وقد لعن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المحلل والمحلل له. وقال فى رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقَالَ تعَالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]. وقال فى رواية أبى طالب فى التحيل لإسقاط العدة "سبحان الله، ما أعجب هذا،
(14/372)
ص -356- أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العدة من الحمل، فليس من امرأة تطلق، أو يموت زوجها، إلا تعتد من أجل الحمل، ففرج يوطأ، ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملا، كيف يصنع ؟ يطؤها رجل اليوم، ويطؤها الآخر غداً ؟ هذا نقض لكتاب الله والسنة، قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ تَحِيضَ" فلا يدرى هى حامل أم لا؟ سبحان الله ما أَسْمجَ هذا. وقال فى رواية حبيش بن سندى فى الرجل يشترى الجارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها: أيطؤها من يومه ؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب وقال: هذا أخبث قول. وقال فى رواية الميمونى: إذا حلف على شئ ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه. وقال فى رواية الميمونى، فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها: هل يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. فقال له الميمونى: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا ؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولاً اتبعناه ؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة ؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون فى رجل حلف على امرأته، وهى على درجة: إن صعدت أو نزلت فأنت طالق. قالوا: تحمل حملاً ولا تنزل. فقال: هذا الحنث بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحنث. وذكر لأحمد: أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارتددت عن الإسلام بنت منه، ففعلت، فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علمه أو رضى به فهو كافر. وكذلك قال عبد الله بن المبارك ثم قال: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم. وقال يزيد بن هارون: أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان
(14/373)
ص -357- قبيحاً. أفتواً رجلاً حلف أن لا يطلق امرأته بوجه من الوجوه فبذلت له مالاً كثيراً فى طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يباشرها. وذكرت الحيلة عند شريك، فقال: من يخادع الله يخدعه. وقال النضر بن شميل: فى كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون مسألة كلها كفر. وقال حفص بن غياث: ينبغى أن يكتب عليه: كتاب الفجور. وقال عبد الله بن المبارك فى قصة بنت أبى روح حيث أمرت بالارتداد فى أيام أبى غسان فارتدت ففرق بينهما وأودعت السجن: فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده، أو فى بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هويه ولم يأمر به فهو كافر. وقال أيوب السختيانى: ويل لهم، من يخدعون ؟ يعنى أصحاب الحيل. وقال بعض أصحاب الحيل: ما تنقمون منا إلا أنا عمدنا إلى أشياء كانت عليكم حراما فاحتلنا فيها حتى صارت حلالاً. وقال زاذان. قال على رضى الله عنه، يعنى وقد رأى مبادئ الحيل: إنى أراكم تحلون أشياء قد حرمها الله، وتحرمون أشياء قد حللها الله. قلت: ومن تأمل الشريعة ورزق فيها فقه نفس رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم وقابلتهم بنقيضها، وسدت عليهم الطرق التى فتحوها للتحيل الباطل.
(14/374)
ص -358- فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيل على الميراث بقتل مورثه ميراثه، ونقله إلى غيره دونه لما احتال عليه بالباطل. ومن ذلك: بطلان وصية الموصى له بمال إذا قتل الموصى. ومن ذلك: بطلان تدبير المدَبَّر إذا قتل سيده ليعجل العتق. ومن ذلك: تحريم المنكوحة فى عدتها على الزوج، تحريما مؤبداً، عند عمر ابن الخطاب، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، لما احتال على وطئها بصورة العقد المحرم. ومن ذلك: ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها ترثه مادامت فى العدة، عند طائفة، وعند آخرين ترثه وإن انقضت عدتها، ما لم تتزوج، وعند طائفة: ترث وإن تزوجت. ومن ذلك: بطلان إقرار المريض لوارثه بمال لأنه يتخذه حيلة على الوصية له. ونظائر ذلك كثيرة: فالمحتال بالباطل معامل بنقبض قصده شرعاً وقدراً. وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمَكْرِمَاتَ بالفقر. ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها. وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير. وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله. كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبى الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. فلا بد أن يمحق مال المرابى ولو بلغ ما بلغ. وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه. وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول: حرمانه سهمه، وإحراق متاعه.
(14/375)
ص -359- وجعل عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الإحرام: تحريم أكل ما صاده، وتغريمه نظيره. وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق. وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته: أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته. وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تقطع أطرافه، وتقطع عليه الطرق كلها بالنفى من الأرض، فلا يسير فيها إلا خائفاً. وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطء الحرام: إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة. وشرع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عقوبة من اطلع فى بيت غيره: أن تقلع عينه بعود ونحوه، إفساداً للعضو الذى خانه، وأولجه بيته بغير إذنه، واطلع به على حرمته. وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه المقصوده وإن نال بعضه، فالذى ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته: {وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]. وعاقب من حرص على الولاية، والإمارة والقضاء، بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنَّا لا نُوَلّى عَمَلَنَا هذَا مَنْ سَأَلهُ". ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام: بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمله. وعاقب من اتخذ معه إلها آخر، ينتصر به، ويتعزز به: بأن جعله عليه ضدا يذل به، ويخذل به. كما قال تعالى: {وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81-82] وقال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مْحُضَرُونَ} [يس: 74-75]
(14/376)
ص -360- وقال تعالى {لا تَجْعَل مَعَ اللهِ إلهَا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولا} [الإسراء: 22]. ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح. وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا. وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوى غيهم وفقيرهم فى الحاجة. وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وطلبوا الهدى من غيره: بأن يضلهم، ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى حديث على رضى الله عنه الذى رواه الترمذى وغيره، وذكر القرآن: "مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الُهْدَى فى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ". فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا، فجزاؤه أن يقصمه الله، أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه أن يضله الله. وهذا باب واسع جدا عظيم النفع. لمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعاً وقدراً، دنيا وآخره. وقد اطردت سنته الكونية سبحانه فى عباده، بأن من مكر بالباطل مكربه، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خدع. قال الله تعالى: {إِنّ المُنَافِقينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال تعالى {وَلا يَحِيقُُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه} [فاطر: 43]. فلا تجد ما كراً إلا وهو ممكور به، ولا مخادعا إلا وهو مخدوع، ولا محتالا إلا وهو محتال عليه.
(14/377)
ص -361- فصل وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها. فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك. فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه. فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه ؟ فنهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا، على وجه المقابلة. وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن: "مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قَالُوا: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ: نَعمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ. وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ". ولما جاءت صفية رضى الله تعالى عنها تزوره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال: "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍ. فَقَالا: سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. إنى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فى قُلُوبِكُمَا شَراً". فسد الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية. وأمسك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة، لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: "إِنّ مُحَّمداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ". وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها.
(14/378)
ص -362- وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة، لئلا تفضى مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها. ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ فى الأوعية التى لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسماً للمادة وسدا للذريعة. وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة، حسماً للمادة وسدا للذريعة. ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور. ومنعهن من التسبيح فى الصلاة لنائبة تنوب، بل جعل لهن التصفيق. ومنع المعتدة من الوفاة، من الزينة والطيب والحلى. ومنع الرجل من التصريح بخطبتها فى العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضاءها. ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها. ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله. ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها. ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها، وإيقاد المصابيح عليها. كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثاناً. وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده، بل على من قصد خلافه، سدا للذريعة. ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هذين الوقتين وقته سجود الكفار للشمس. ففى الصلاة نوع تشبه بهم فى الظاهر. وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة فى الباطن، وأكد كذلك بالنهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة فى هذا المقصود، وحماية لجانب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك بكل ممكن. ومنع من التفرق فى الصرف قبل التقابض، وكذلك الربوى إذا بيع بربوى آخر، من غير جنسه، سدا لذريعة النَّساء، الذى هو صلب الربا ومعظمه، بل منع من بيع الدرهم
(14/379)
ص -363- بالدرهمين نقداً سداً لذريعة ربا النَّساء، كما علل بذلك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، وهذا أحسن العلل فى تحريم ربا الفضل. وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح فى السلف، بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع. ومنع البائع أن يشترى السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به، وهى مسألة العينة وإن لم يقصد الربا، لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقداً. وحرم جمع الشرطين فى البيع، لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة. ومنع من القرض الذى يجر النفع وجعله ربا. ومنع المقرض من قبول هدية المقترض، ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض. ففى سنن ابن ماجه عن يحيى بن أبى إسحاق الهنائى. قال سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال، فيهدى إليه ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضاً فأَهْدَى إِلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابّةِ فَلا يَرْكَبَنّهَا، وَلا يَقْبَلهُ إلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذلِكَ". وروى البخارى فى تاريخه عن يزيد بن أبى يحيى الهنائى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلا يأْخُذْ هَدِيّةً". وفى صحيح البخارى عن أبى بردة عن أبى موسى قال: "قَدِمْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ فقَالَ لى: إِنّكَ بأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ، فَإِذَا كانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَق فأَهْدَى إِلَيْكَ حمل تبن أو حْمِل شَعِيرٍ، أوْ حُمِلَ قَتٍّ، فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنّهُ رِباً". وروى سعيد بن منصور فى سننه هذا المعنى عن أبى بن كعب. وجاء عن ابن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو رضى الله عنهم نحوه.
(14/380)
ص -364- وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة فى القرض الذى موجبه رد المثل. ونهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر، لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فلو كان الدينان حالين لم يمتنع، لأنهما يسقطان جميعاً من ذمتيهما، وفى الصورة المنهى عنها ذريعة إلى تضاعف الدين فى ذمة كل واحد منهما فى مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا [النسيئة] بعينها. ونهى الله سبحانه وتعالى النَّساء أنْ {يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيْعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينتِهِنَّ} [النور: 31]. فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذى هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه. وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التى هى ذريعة إلى مواقعة المحظور. وحرم التجارة فى الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها، فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها، ولهذا لما نزلت الآيات فى تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وقرن بها تحريم التجارة فى الخمر، فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال. والخمر ذريعة إلى إفساد العقول. فجمع بين تحريم التجارة فى هذا وهذا. ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين، لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة فى الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب. ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار فى مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فإنه إذا أشبه الهدى الهدى أشبه القلب القلب. وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "خَالَفَ هَدْيُنَا هَدْىَ الْكفَّارِ". وفى المسند مرفوعاً: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". وحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم. وبهذه العلة بعينها علل رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله وسلم فقال: "إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ
(14/381)
ص -365- ذلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكمْ". وأمر بالتسوية بين الأولاد فى العطية، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغى الشهادة عليه. وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم، كما هو المشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التى لا معارض لها بالمنع منه، لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضى تحريمه. ومنع من نكاح الأمة، لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها يملك اليمين لزوال هذه المفسدة. ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن، وقصر الرجال على الأربع، فسحة لهم فى التخلص من الزنا، وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى. ومنع من عقد النكاح فى حال العدة وحال الإحرام، وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل، لكون العقد ذريعة إلى الوطء، والنفوس لا تصبر غالباً مع قوة الداعى. وشرط فى النكاح شروطاً زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما. واشتراط الولى، ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف، والصوت، والوليمة وأوجب فيه المهر.
(14/382)
ص -366- ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وسر ذلك: أن فى ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما فى الأثر: "إِنّ الزَّانِيَةَ هِىَ الّتِى تُزَوِّجُ نَفْسَهَا". فإِنه لا تشاء زانية تقول: زوجتك نفسى بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت. ومعلوم قطعاً أن مفسدة الرنا لا تنتفى بقولها: أنكحتك نفسى، أو زوجتك نفسى. أو أبحتك منى كذا وكذا. فلو انتفت مفسدة الزنا بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل. فعظم الشارع أمر هذا العقد. وسد الذريعة إلى مشابهته للزنا بكل طريق. ثم أكد ذلك، بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاماً من المصاهرة وحرمتها، ومن التوارث. ولهذا كان الراجح فى الدليل: أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية. ولا يثبت به النسب، ولا العدة على الصحيح. وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها، ولا يقع فيه طلاق، ولا ظهار، ولا إيلاء. ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها. فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها. فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب. وجمع بينهما فى قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54]. فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر. وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له. وليس المقصود استيفاء أدلة المسألة من الجانبين، وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سد الذرائع. ومن ذلك: نهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تقام الحدود فى دار الحرب. وأن تقطع الأيدى فى الغزو، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار. ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب، وخاف على نفسه الزنا عزل
(14/383)
ص -367- عن امرأته، نص عليه أحمد، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافراً. ومن ذلك: أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضى المساواة، لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء، وتعاون الجماعة على قتل المعصوم. ومن ذلك: أن السكران لو قتل اقتص منه، وإن كان فى هذه الحالة لا قصد له. لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص. ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله. ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104]. مع قصدهم المعنى الصحيح، وهو المراعاة، لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب، ولئلا يتشبهوا بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا. ومن ذلك: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة، أن يجعله على أحد حاجبيه، ولا يصمد له صمداً سداً لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى. ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يصلواً جلوساً إذا صلى إمامهم جالساً، سدا لذريعة التشبه بفارس والروم فى قيامهم على ملوكهم وهم قعود. ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه، وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه، فقال لمن سأله: عن ذلك: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ُائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة. ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه، ويقيم عذره، مع أن ذلك أيضاً ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته، فإن النفوس لا تقتصر فى الاستيفاء غالبا على قدر الحق. | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:21 | |
| ص -368- ومن ذلك: أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشترى سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان. وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر. فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه، وعدم تضرره هو. فإنه يأخذه بالثمن الذى يأخذه به الأجنبى، ولهذا كان الحق: أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة، ولا تسقط بالاحتيال. فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التى شرعت لها بالنقض والإبطال. ومن ذلك: أنه لا يقبل شهادة العدو، ولا الظنين فى تهمة أو قرابة. ولا الشريك فيما هو شريك فيه، ولا الوصى فيما هو وصى فيه، ولا الولد على ضرة أمه، ولا يحكم القاضى بعلمه. كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد. ومن ذلك: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع فى الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة. ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر بقطع الشجرة التى كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال، سدا لذريعة الشرك والفتنة. ونهى عن تعمد الصلاة فى الأمكنة التى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينزل بها فى سفره وقال "أتريدون أن تتخدوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فلا". ومن ذلك: جمع عثمان بن عفان رضى الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم فى القرآن. ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم. ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر الذى أرسل معه بهدية إذا عطب شئ منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذى قلده به بدمه، ويخلى بينه وبين
(14/385)
ص -369- المساكين، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته، قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه، أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر فى علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره. فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه. ومن ذلك: نهيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الذرائع التى توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال: "إذَا بُويِعَ لخِليَفَتْينِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا". سدا لذريعة الفتنة والفرقة. ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم، والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة فى بقايا تلك الشرور إلى الآن. ومن ذلك: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب، لئلا تفضى مشابهتهم للمسلمين فى ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين فى الإكرام والاحترام ففى إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة. ومن ذلك: منعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من بيع القلادة التى فيها خرز وذهب بذهب، لئلا يتخذ ذريعة إلي بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه. ولو لم يكن فى هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود، سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعى، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها
(14/386)
ص -370- بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعى إليها وتقاضى الطباع لها. وبالجملة، فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام. والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها. ففتح باب الذرائع فى النوع الأول كسد باب الذرائع فى النوع الثانى، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم تناقض. وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التى جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها. والتذرع إلى حصول المفاسد التى قصدت دفعها. وإذا كان الشئ الذى قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسه، لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم، يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله، فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراماً، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله، وأولى أن لا يعان فاعله عليه، وأن يعامل بنقيض قصده، وأن يبطل عليه كيده ومكره. وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم فى الشرع ومقاصده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن، والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع فى البيع والصرف والنكاح وغيرها، شروطاً سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا، وكمل بها مقصود العقود، ولم يمكن المحتال الخروج منها فى الظاهر. ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشئ الذى سد الشارع الذريعة إليه، لم يبق لتلك الشروط التى أتى بها فائدة ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة.
(14/387)
ص -371- قال: واعتبر هذا بالشفعة، فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه، والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها، إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة، وليس فى هذا التكميل ضرر على البائع، لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشترى، شريكاً كان أو أجنبياً، فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع، مضاد له فى حكمه. فالشارع يقول: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التى ظاهرها مكر وخداع، وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه، وتفويت نفس مقصود الشارع. والمصيبة الكبرى: إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع فى فعله، وأنه مكنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بين لمن تأمله. قال: والمقصود: بيان تحريم الحيل، وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى، وأليم عقابه. ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك فى كل حيلة بحسبها. فلا يخلو الاحتيال: إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر، فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا، كما في العينة حكم بفساد العقدين، ويرد إلى الأول رأس ماله، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا، لا يحل الانتفاع به، بل يجب رده إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة، أو شراكه أو مساقاة، أو مزارعة، وقرض، حكم بفسادهما، فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذى جعلاه قرضاً، والعقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة. وكذلك إن كان نكاحاً تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة. وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد، أو وقف فاسد،
(14/388)
مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به، فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبتها إياه، فانفسخ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان فى جميع الأحكام.
(14/389)
ص -372- وإن كان الاحتيال من واحد، فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه. فإن كانت عقداً كان فاسداً، مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة فى شئ من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة فى الباطن فقط. وإن كانت حيلة لا يستقل بها، مثل أن ينوى التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضراراً بها، أو يهب ماله إضراراً للورثة ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة، فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت. وإذا علم الموهوب له، و الموصى له غرضه باطلا: لم يحصل له الملك فى الباطن. فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه. وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذى لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر كثيرة فى الشريعة. وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث. فإنه إنما منع من قطع الإرث، لا من إزالة ملك البضع. وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى غرض له مثل أن يسافر فى الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر. قلت: ونظير هذا ما قالت المالكية: إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح، فلو مسح لذلك لم يجزه، وعليه إعادة الصلاة أبدا. وإنما تثبت الرخصة فى حق من لبسهما لحاجة، كالبرد والركوب ونحوهما. فيمسح عليهما لمشقة النزع. وخالفهم باقى الفقهاء فى ذلك، والمنع جار على أصول من راعى المقاصد. قال شيخنا: وإن كان يفضى إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه، لينفسخ نكاحه، أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها، أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم، فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها، لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى
(14/390)
يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا. والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد. وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن نجاسات
(14/391)
ص -373- المائعات بالمخالطة، وتحريم المصاهرة بالمباشرة، أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب. قلت: هذا كان قول الشيخ أولاً ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة. وحينئذ فصورة ذلك: أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة. لينفسخ نكاحها. فإن فسخ النكاح هاهنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد، بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم، فهو بمنزلة أن يلقى فى مائعه ما ينجسه. قال:وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلاً ليتزوج امرأته، أو يزوجها غيره. فهاهنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به. فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها، أو قتل بحق أو فى سبيل الله. وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها، فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع، من غير أن يطرح فيها شيئاً. والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى. وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال تحرم عليه مع حلها لغيره. ويشبه هذا: الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام، فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال. ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنع الإرث، ولا يمنعه غيره من الورثة. لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل. وكونه يقتله ليتزوجها، فهذا أقل. فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلاً حرمت عليه امرأته، كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه، فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده. وأكثر ما يقال فى رد هذا: أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل، كذبح الصيد، وتحليل الخمر، والتذكية فى غير المحل.
(14/392)
أما المحرم لحق الآدمى، كذبح المغصوب، فإنه بفيد الحل. أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه
(14/393)
ص -374- المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل، فحصل الحل صمنا وتبعاً. ويمكن أن يقال فى جواب هذا: إن قتل الآدمى حرام لحق الله تعالى وحق الآدمى. ولهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرم لمحض حق الآدمى. ولهذا لو أباحه حل، فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح. وقد اختلف فى الذبح بآلة مغصوبة، وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء فى ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكى. وفيه حديث رافع بن خديج فى ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر فى المرأة التى أضافت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها، فقال: "أَطعْمِوُهَا الأُسَارَى". وفى هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها: لا يحل أكلها، يعنى له، قلت لأبى: فإن ردها على صاحبها ؟ قال: تؤكل. فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له فى الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم. فهذا القول الذى دل عليه الحديث فى الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى. هذا كله كلام شيخنا.
(14/394)
ص -375- وبعد، فالتحريم مطرد على قواعد أحمد، ومالك من وجوه متعددة. منها: مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار، وقاتل مورثه، وقاتل الموصى، والمدبر إذا قتل سيده. ومنها: سد الذرائع. ومنها: تحريم الحيل. ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا، والله تعالى أعلم. قال: فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال، وأفعال. فالأقوال: يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة، وفاسدة أخرى. ثم ما ثبت حكمه، منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح. ومنه مالا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق. فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم، أو إسقاط واجب أمكن إبطاله، إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذى يبطل مقصود المحتال، بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فى طلاق الفار. وأما الأفعال: فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر للقصر والفطر. وإن اقتضت تحريماً على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال. وإن اقتضت حلاً عاماً إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب. وبالجملة: فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس أن لا يحل له أيضاً وإن حل لغيره. وقد دخل فى القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة، فهى لا تمشى غالبا إلا عند من يقول: الفرقة تنجز بنفس الردة، أو يقول: بأنها لا تقتل، فالواجب فى مثل هذه الحيلة: أن لا ينفسخ بها النكاح، وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما. وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل، غير مرتدة من حيث فساد النكاح، حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها فى حالة الردة، فإن
(14/395)
ص -376- الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت، لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت: إنما ارتدت لفسخ النكاح، لم يقبل هذا، فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ، ولأنها متهمة فى ذلك، ولأن الأصل أنها مرتدة فى جميع الأحكام. فصل وقد استدل البخارى فى صحيحه على بطلان الحيل بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةَ". فإن هذا النهى يعم ما قبل الحول وما بعده. واحتج بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الطاعون: "إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". وهذا من دقة فقهه رحمه الله، فإنه إذا كان قد نهى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الفرار من قدر الله تعالي إذا نزل بالعبد، رضا بقضاء الله تعالى وتسليماً لحكمه، فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد ؟. واحتج بأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ". فدل على أن الشئ الذى هو فى نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرماً. واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للمحلل، وبقوله "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل". واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله "فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه". واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختيانى، وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى. وقد قال الله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]. قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه.
(14/396)
ص -377- ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة، ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة فى التصرف والعادات، كما هى معتبرة فى القربات والعبادات، فيجعل الفعل حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وصحيحاً من وجه، فاسداً من وجه، كما أن القصد والنية فى العبادات تجعلها كذلك. وشواهد هذه القاعدة كثير ة جداً فى الكتاب والسنة. فمنها: قوله تعالى فى آية الرجعة: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]. وذلك نص فى أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار، فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة. ومنها: قوله تعالى فى آية الخلع: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَّمِا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيماَ حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله، وأن النكاح الثانى إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، فإنه شرط فى الخلع عدم خوف إقامة حدوده، وشرط فى العود ظن إقامة حدوده. ومنها: قوله تعالى فى آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مضُار} [النساء: 12]. فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة، فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراماً، وكان للورثة إبطالها، وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]. وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار فى هذه الآية دون التى قبلها. لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين، والإخوة. والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته، ولا يكاد يضار والديه
(14/397)
وولده. والضرار نوعان: جنف، وإثم. فإنه قد يقصد الضرار، وهو الإثم، وقد يضار من غير قصد، وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فللوارث رد هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها.
(14/398)
ص -378- فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصى أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية. وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصى أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]. وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحاً لا مفسدا. وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم، ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به، فإن الشارع قد رده وأبطله. فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه، فإن ذلك مضادة له ومناقضة. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنةٍ} [النساء: 19]. فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدى نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النَّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبعَضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]. فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئاً مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل. ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أى وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه. ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] [الزمر: 26]. ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل، لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة. ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره. قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية. فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا. قال الله سبحانه
(14/399)
وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفسهم قَالُوا
(14/400)
ص -379- فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كَنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلا المَسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيُعونَ حِيَلة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 97-99]. ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار، وهو حرام. فعلم أن الحيلة التى تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها. وعامة الحيل التى تنكرونها علينا هى من هذا الباب. فإنها حيل تخلص من الحرام، ولهذا سمى بعض من صنف فى ذلك كتابه: "المخارج الحرام والتخلص من الآثام" واعتبر هذا بحيلة العينة، فإنها تخلص من الربا المحرم. وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو حرام. وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذى هو حرام أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام. وكذلك هبة الرجل ماله قبل الحول لولده أو امرأته، يخلصه من إثم منع الزكاة، كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلص. فالحيل تخلص من الحرج وتخلص من الإثم. والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا، وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه، وفتح طريقه. ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك. كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله. فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال، فعل المحلوف عليه، فأى شئ أفضل من تخليصه من هذا وهذا ؟ وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته، ويرى
(14/401)
اتصالها بغيره أشد من موته، فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها، ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه، وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء العدة.
(14/402)
ص -380- قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وقد حلف ليجلدن امرأته مائة. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]. قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، وأرادها إبليس على شئ فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا ؟ وإنما حملها عليها الجوع. فحلف نبى الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة. فأبر الله تعالى نبيه. وخفف عن أَمتَه. وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مثلك المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشئ قبلته وأدخلته. وإن لم يأتها بشئ طردته وأغلقت بابها عنه. لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذى له منا نكفر به. إن أقامنى الله تعالى من مرضى لأجلدنك مائة. فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثاً، وهو الحزمة من الشئ، مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة. وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسر شئ وهذا أصلنا فى باب الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلاً. قالوا: وقد أرشد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم، ثم يشترى بتلك الدراهم تمراً. وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: "جَاءَ بِلالٌ إلى النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلمَ بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسلمَ: مِنْ أيْنَ هذَا ؟ قَالَ: كانَ عِنْدَنَا تمْرٌ رديء فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لنُطْعِمَ النّبَّى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فَقَالَ لَهُ النّبُّى صلى اللهُ تعَالى عليه وآله
(14/403)
وسَلم عِنْدَ ذلِكَ: أوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَن تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" متفق عليه. وفى لفظ آخر: "بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اُشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً". والجمع والجنيب نوعان من التمر.
(14/404)
ص -381- وفى لفظ لمسلم: "بِعْهُ بِسِلْعَةٍ، ثُمّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِكَ أَىَّ التَّمْرِ شِئتَ". فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاع بها تمراً. وهذا ضرب من الحيلة. ولم يفرق بين بيعه ممن يشترى منه التمر، أو من غيره. وقد جاء قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تَجَارَة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ} [البقرة: 282]. وهذا إرشاد إلى حيلة العِينة وما يشبهها. فإن السلعة تدور بين المتعاقدين، للتخلص من الربا. قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذى يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهى حيلة فى الأقوال، كما أن تلك حيلة فى الأعمال. فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: إن فى معاريض الكلام ما يغنى الرجل عن الكذب. وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما يسرنى بمعاريض الكلام حمر النعم. وقال الزهرى عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبى معيط، وكانت من المهاجرات الأول: "لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلمَ يُرَخِّصُ فى شَئْ مَّمِا يَقُولُ النَّاسُ إِنّهُ كَذِبٌ إِلا فى ثَلاثٍ: الرَّجُل يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالَّرجُلِ يَكْذِبُ لامْرَأَتِه، وَالْكَذِبِ فى الْحَرْبِ". ومعنى الكذب فى ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب. وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طليعة للمشركين، وهو فى نفر من أصحابه فقال المشركون: "مًمَّنْ أَنْتُمْ ؟ فقَالَ النَّبُى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ: نَحْنَ مِنْ مَاءٍ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ، لَعَلّهُمْ منهم، وَانْصَرَفُوا". وأراد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله "نحن من ماء" قوله تعالى: {خُلقَ مِنْ
(14/405)
مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]. ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته. فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها فى عنقك. فقال ما فعلت ؟ فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن. فقال:
(14/406)
ص -382- فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه. قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة. ويذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب ؟. ودعى أبو هريرة رضى الله عنه إلى طعام فقال: "إنى صائم ثم رأوه يأكل. فقالوا: ألم تقل: إنى صائم. فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صِيامَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهرِ". وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شئ معه، قال: أعطيك فى أحد اليومين إن شاء الله تعالى. فيظن أنه أراد يومه والذى يليه، وإنما أراد يومى الدنيا والآخرة. وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلاناً أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة ؟ فقال له: قل والله ما أبصر إلا ما سددنى غيرى، يعنى إلا ما أبصرك ربك. وقال حماد عن إبراهيم فى رجل أخذه رجل، فقال: إن لى معك حقاً. فقال: لا. فقال: احلف بالمشى إلى بيت الله، فقال احلف بالمشى إلى بيت الله واعن مسجد حَيِّك. وذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلاً كان يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح. فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام. فقال الرجل: أف أف. وسلمت بغلته. وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يقيمها. وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه: فيسأله عنه، فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيئ، يعنى ب"ما": الذى.
(14/407)
ص -383- وقال عقبة بن المعيرة: كنا نأتى إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا. ولا لنا به علم ولا فى أى موضع هو. واعنوا أنكم لا تدرون أى موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صدقتم. وجاءه رجل فقال: إنى اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها، ويريدون أن يحلفونى أنها الدابة التى اعترضت عليها ؟ فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكناً. ثم احلف أنها الدابة التى اعترضت عليها. وقال أبو عوانة عن أبى مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تعاتبه فى جارية له، وبيده مروحة، فقال: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها. قال: أما رأيتمونى أشير إلى المروحة ؟ إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها، وأنا أعنى المروحة. وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبى: من حلف على يمين لا يستثنى، فالبر والإثم فيها على علمه. قلت: ما تقول فى الحيل ؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شئ يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال. فما كان من هذا ونحوه، فلا بأس به، وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل فى حق لرجل حتى يبطله، أو يحتال فى باطل حتى يموهه، أو يحتال فى شئ حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل الذى قلنا فلا بأس بذلك. وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسى، ضرسى. ووجه الرشيد إلى شريك رجلاً ليحضره، فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره، ففعل. فحبسه الرشيد، ثم أرسل إليه رسولاً آخر فأحضره، وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله. فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول فى اليوم الذى أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثانى، فصدقه، وأمر بإطلاق الرجل. وأحضر الثورى إلى مجلس المهدى فأراد أن يقوم فمنع، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد، فقال المهدى: ألم
(14/408)
يحلف أنه يعود ؟ فقالوا:
(14/409)
ص -384- إنه عاد فأخذ نعله. قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل. فأبعد الناس عن القول بها مالك، وأحمد، وقد سئل أحمد عن المروزى وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمد إصبعه فى كفه، وقال: ليس المروزى هاهنا. وماذا يصنع المروزى هاهنا ؟،. وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق ليطأن امرأته فى نهار رمضان، فقال يسافر بها ويطؤها فى السفر. وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبى حكيم: حكى أن رجلاً سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر فى رمضان ؟ فقال له: اذهب إلى بشر ابن الوليد، فاسأله ثم ائتنى فأخبرنى، فذهب فسأله، فقال له بشر: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان وقت السحر، فكل، واحتج بقول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ المبَارَكِ" فاستحسنه أحمد. قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارق ووضع الصواع فى رحله، ولم يكن كذلك حقيقة. لكن أظهر ذلك توصلاً إلى أخذ أخيه وجعله عنده. وأجزه الله سبحانه أن ذلك كيد، كاده سبحانه ليوسف، ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذى رفع به درجات من يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه. فوق كل ذى علم عليم. فصل قال منكرو الحيل: الحيل ثلاثة أنواع: نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى. ونوع هو جائز مباح، لا حرج على فاعله، ولا على تاركه تركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.
(14/410)
ص -385- ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله، متضمن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرمه. وإنكار السلف والأئمة، وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع. فإن الحيلة لا تذم مطلقاً، ولا تحمد مطلقاً، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب فى العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة. وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك، وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل، فإن أهل العرف لهم تصرف فى تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه. فإن الحيلة فعلة، من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهى من ذوات الواو، وأصلها "حولة" فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء، كميزان، وميقات، وميعاد. قال فى المحكَم: الحْولُ، والحَيلْ، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلة، والحوِيل، والمحالة، والمحال، والاحتيال، والتَّحوُّل، والتَّحيُّل: كل ذلك: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على وجه التصرف. قال: والحول والحيل، والحيلات: جمع حيلة، ورجل حُوَل، وحُوَلةَ، وحول، وحُوَّلة، وحوالى، وحولول، وحُوَّلى: شديد الاحتيال. وما أحوله وأحيله، وهو أحول منك، وأحيل، انتهى. فالحيلة: فعلة من الحول، وهو التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمراً يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به حيلة يتوصل بها إليه. فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقاً ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرا حسناً كانت الحيلة حسنة. وإن كان قبيحاً كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك. وإن كانت معصية وفسوقاً كانت الحيلة عليه كذلك. ولما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا محَاَرِمَ اللهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيلِ". صارت فى عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل
(14/411)
التى تستحل بها المحارم كحيل اليهود. وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو لآدمى، فهى مما يستحل بها المحارم.
(14/412)
ص -386- ونظير ذلك: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم. ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الحرب خدعة" وقوله فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره: "كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، إِلا ثَلاثَ خِصَالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اُثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُمَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ فى خِدْعَةِ حَرْبٍ. ومن النوع المذموم قوله فى حديث عياض بن جمار، الذى رواه مسلم فى صحيحه: "أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِى إِلا وَهْوَ يَخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمِالِكَ". وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62]. ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبى رافع، عَدُوَّى رسول الله | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:23 | |
| ص -368- ومن ذلك: أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشترى سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان. وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر. فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه، وعدم تضرره هو. فإنه يأخذه بالثمن الذى يأخذه به الأجنبى، ولهذا كان الحق: أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة، ولا تسقط بالاحتيال. فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التى شرعت لها بالنقض والإبطال. ومن ذلك: أنه لا يقبل شهادة العدو، ولا الظنين فى تهمة أو قرابة. ولا الشريك فيما هو شريك فيه، ولا الوصى فيما هو وصى فيه، ولا الولد على ضرة أمه، ولا يحكم القاضى بعلمه. كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد. ومن ذلك: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع فى الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة. ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر بقطع الشجرة التى كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال، سدا لذريعة الشرك والفتنة. ونهى عن تعمد الصلاة فى الأمكنة التى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينزل بها فى سفره وقال "أتريدون أن تتخدوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فلا". ومن ذلك: جمع عثمان بن عفان رضى الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم فى القرآن. ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم. ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر الذى أرسل معه بهدية إذا عطب شئ منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذى قلده به بدمه، ويخلى بينه وبين
(14/385)
ص -369- المساكين، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته، قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه، أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر فى علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره. فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه. ومن ذلك: نهيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الذرائع التى توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال: "إذَا بُويِعَ لخِليَفَتْينِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا". سدا لذريعة الفتنة والفرقة. ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم، والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة فى بقايا تلك الشرور إلى الآن. ومن ذلك: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب، لئلا تفضى مشابهتهم للمسلمين فى ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين فى الإكرام والاحترام ففى إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة. ومن ذلك: منعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من بيع القلادة التى فيها خرز وذهب بذهب، لئلا يتخذ ذريعة إلي بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه. ولو لم يكن فى هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود، سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعى، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها
(14/386)
ص -370- بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعى إليها وتقاضى الطباع لها. وبالجملة، فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام. والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها. ففتح باب الذرائع فى النوع الأول كسد باب الذرائع فى النوع الثانى، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم تناقض. وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التى جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها. والتذرع إلى حصول المفاسد التى قصدت دفعها. وإذا كان الشئ الذى قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسه، لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم، يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله، فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراماً، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله، وأولى أن لا يعان فاعله عليه، وأن يعامل بنقيض قصده، وأن يبطل عليه كيده ومكره. وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم فى الشرع ومقاصده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن، والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع فى البيع والصرف والنكاح وغيرها، شروطاً سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا، وكمل بها مقصود العقود، ولم يمكن المحتال الخروج منها فى الظاهر. ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشئ الذى سد الشارع الذريعة إليه، لم يبق لتلك الشروط التى أتى بها فائدة ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة.
(14/387)
ص -371- قال: واعتبر هذا بالشفعة، فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه، والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها، إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة، وليس فى هذا التكميل ضرر على البائع، لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشترى، شريكاً كان أو أجنبياً، فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع، مضاد له فى حكمه. فالشارع يقول: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التى ظاهرها مكر وخداع، وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه، وتفويت نفس مقصود الشارع. والمصيبة الكبرى: إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع فى فعله، وأنه مكنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بين لمن تأمله. قال: والمقصود: بيان تحريم الحيل، وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى، وأليم عقابه. ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك فى كل حيلة بحسبها. فلا يخلو الاحتيال: إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر، فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا، كما في العينة حكم بفساد العقدين، ويرد إلى الأول رأس ماله، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا، لا يحل الانتفاع به، بل يجب رده إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة، أو شراكه أو مساقاة، أو مزارعة، وقرض، حكم بفسادهما، فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذى جعلاه قرضاً، والعقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة. وكذلك إن كان نكاحاً تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة. وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد، أو وقف فاسد،
(14/388)
مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به، فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبتها إياه، فانفسخ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان فى جميع الأحكام.
(14/389)
ص -372- وإن كان الاحتيال من واحد، فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه. فإن كانت عقداً كان فاسداً، مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة فى شئ من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة فى الباطن فقط. وإن كانت حيلة لا يستقل بها، مثل أن ينوى التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضراراً بها، أو يهب ماله إضراراً للورثة ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة، فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت. وإذا علم الموهوب له، و الموصى له غرضه باطلا: لم يحصل له الملك فى الباطن. فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه. وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذى لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر كثيرة فى الشريعة. وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث. فإنه إنما منع من قطع الإرث، لا من إزالة ملك البضع. وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى غرض له مثل أن يسافر فى الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر. قلت: ونظير هذا ما قالت المالكية: إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح، فلو مسح لذلك لم يجزه، وعليه إعادة الصلاة أبدا. وإنما تثبت الرخصة فى حق من لبسهما لحاجة، كالبرد والركوب ونحوهما. فيمسح عليهما لمشقة النزع. وخالفهم باقى الفقهاء فى ذلك، والمنع جار على أصول من راعى المقاصد. قال شيخنا: وإن كان يفضى إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه، لينفسخ نكاحه، أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها، أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم، فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها، لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى
(14/390)
يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا. والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد. وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن نجاسات
(14/391)
ص -373- المائعات بالمخالطة، وتحريم المصاهرة بالمباشرة، أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب. قلت: هذا كان قول الشيخ أولاً ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة. وحينئذ فصورة ذلك: أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة. لينفسخ نكاحها. فإن فسخ النكاح هاهنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد، بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم، فهو بمنزلة أن يلقى فى مائعه ما ينجسه. قال:وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلاً ليتزوج امرأته، أو يزوجها غيره. فهاهنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به. فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها، أو قتل بحق أو فى سبيل الله. وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها، فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع، من غير أن يطرح فيها شيئاً. والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى. وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال تحرم عليه مع حلها لغيره. ويشبه هذا: الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام، فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال. ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنع الإرث، ولا يمنعه غيره من الورثة. لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل. وكونه يقتله ليتزوجها، فهذا أقل. فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلاً حرمت عليه امرأته، كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه، فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده. وأكثر ما يقال فى رد هذا: أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل، كذبح الصيد، وتحليل الخمر، والتذكية فى غير المحل.
(14/392)
أما المحرم لحق الآدمى، كذبح المغصوب، فإنه بفيد الحل. أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه
(14/393)
ص -374- المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل، فحصل الحل صمنا وتبعاً. ويمكن أن يقال فى جواب هذا: إن قتل الآدمى حرام لحق الله تعالى وحق الآدمى. ولهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرم لمحض حق الآدمى. ولهذا لو أباحه حل، فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح. وقد اختلف فى الذبح بآلة مغصوبة، وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء فى ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكى. وفيه حديث رافع بن خديج فى ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر فى المرأة التى أضافت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها، فقال: "أَطعْمِوُهَا الأُسَارَى". وفى هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها: لا يحل أكلها، يعنى له، قلت لأبى: فإن ردها على صاحبها ؟ قال: تؤكل. فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له فى الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم. فهذا القول الذى دل عليه الحديث فى الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى. هذا كله كلام شيخنا.
(14/394)
ص -375- وبعد، فالتحريم مطرد على قواعد أحمد، ومالك من وجوه متعددة. منها: مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار، وقاتل مورثه، وقاتل الموصى، والمدبر إذا قتل سيده. ومنها: سد الذرائع. ومنها: تحريم الحيل. ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا، والله تعالى أعلم. قال: فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال، وأفعال. فالأقوال: يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة، وفاسدة أخرى. ثم ما ثبت حكمه، منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح. ومنه مالا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق. فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم، أو إسقاط واجب أمكن إبطاله، إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذى يبطل مقصود المحتال، بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فى طلاق الفار. وأما الأفعال: فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر للقصر والفطر. وإن اقتضت تحريماً على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال. وإن اقتضت حلاً عاماً إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب. وبالجملة: فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس أن لا يحل له أيضاً وإن حل لغيره. وقد دخل فى القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة، فهى لا تمشى غالبا إلا عند من يقول: الفرقة تنجز بنفس الردة، أو يقول: بأنها لا تقتل، فالواجب فى مثل هذه الحيلة: أن لا ينفسخ بها النكاح، وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما. وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل، غير مرتدة من حيث فساد النكاح، حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها فى حالة الردة، فإن
(14/395)
ص -376- الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت، لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت: إنما ارتدت لفسخ النكاح، لم يقبل هذا، فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ، ولأنها متهمة فى ذلك، ولأن الأصل أنها مرتدة فى جميع الأحكام. فصل وقد استدل البخارى فى صحيحه على بطلان الحيل بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةَ". فإن هذا النهى يعم ما قبل الحول وما بعده. واحتج بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الطاعون: "إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". وهذا من دقة فقهه رحمه الله، فإنه إذا كان قد نهى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الفرار من قدر الله تعالي إذا نزل بالعبد، رضا بقضاء الله تعالى وتسليماً لحكمه، فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد ؟. واحتج بأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ". فدل على أن الشئ الذى هو فى نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرماً. واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للمحلل، وبقوله "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل". واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله "فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه". واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختيانى، وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى. وقد قال الله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]. قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه.
(14/396)
ص -377- ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة، ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة فى التصرف والعادات، كما هى معتبرة فى القربات والعبادات، فيجعل الفعل حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وصحيحاً من وجه، فاسداً من وجه، كما أن القصد والنية فى العبادات تجعلها كذلك. وشواهد هذه القاعدة كثير ة جداً فى الكتاب والسنة. فمنها: قوله تعالى فى آية الرجعة: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]. وذلك نص فى أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار، فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة. ومنها: قوله تعالى فى آية الخلع: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَّمِا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيماَ حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله، وأن النكاح الثانى إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، فإنه شرط فى الخلع عدم خوف إقامة حدوده، وشرط فى العود ظن إقامة حدوده. ومنها: قوله تعالى فى آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مضُار} [النساء: 12]. فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة، فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراماً، وكان للورثة إبطالها، وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]. وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار فى هذه الآية دون التى قبلها. لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين، والإخوة. والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته، ولا يكاد يضار والديه
(14/397)
وولده. والضرار نوعان: جنف، وإثم. فإنه قد يقصد الضرار، وهو الإثم، وقد يضار من غير قصد، وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فللوارث رد هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها.
(14/398)
ص -378- فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصى أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية. وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصى أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]. وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحاً لا مفسدا. وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم، ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به، فإن الشارع قد رده وأبطله. فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه، فإن ذلك مضادة له ومناقضة. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنةٍ} [النساء: 19]. فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدى نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النَّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبعَضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]. فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئاً مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل. ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أى وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه. ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] [الزمر: 26]. ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل، لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة. ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره. قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية. فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا. قال الله سبحانه
(14/399)
وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفسهم قَالُوا
(14/400)
ص -379- فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كَنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلا المَسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيُعونَ حِيَلة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 97-99]. ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار، وهو حرام. فعلم أن الحيلة التى تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها. وعامة الحيل التى تنكرونها علينا هى من هذا الباب. فإنها حيل تخلص من الحرام، ولهذا سمى بعض من صنف فى ذلك كتابه: "المخارج الحرام والتخلص من الآثام" واعتبر هذا بحيلة العينة، فإنها تخلص من الربا المحرم. وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو حرام. وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذى هو حرام أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام. وكذلك هبة الرجل ماله قبل الحول لولده أو امرأته، يخلصه من إثم منع الزكاة، كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلص. فالحيل تخلص من الحرج وتخلص من الإثم. والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا، وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه، وفتح طريقه. ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك. كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله. فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال، فعل المحلوف عليه، فأى شئ أفضل من تخليصه من هذا وهذا ؟ وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته، ويرى
(14/401)
اتصالها بغيره أشد من موته، فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها، ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه، وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء العدة.
(14/402)
ص -380- قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وقد حلف ليجلدن امرأته مائة. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44]. قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، وأرادها إبليس على شئ فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا ؟ وإنما حملها عليها الجوع. فحلف نبى الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة. فأبر الله تعالى نبيه. وخفف عن أَمتَه. وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مثلك المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشئ قبلته وأدخلته. وإن لم يأتها بشئ طردته وأغلقت بابها عنه. لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذى له منا نكفر به. إن أقامنى الله تعالى من مرضى لأجلدنك مائة. فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثاً، وهو الحزمة من الشئ، مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة. وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسر شئ وهذا أصلنا فى باب الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلاً. قالوا: وقد أرشد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم، ثم يشترى بتلك الدراهم تمراً. وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: "جَاءَ بِلالٌ إلى النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلمَ بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسلمَ: مِنْ أيْنَ هذَا ؟ قَالَ: كانَ عِنْدَنَا تمْرٌ رديء فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لنُطْعِمَ النّبَّى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فَقَالَ لَهُ النّبُّى صلى اللهُ تعَالى عليه وآله
(14/403)
وسَلم عِنْدَ ذلِكَ: أوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَن تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" متفق عليه. وفى لفظ آخر: "بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اُشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً". والجمع والجنيب نوعان من التمر.
(14/404)
ص -381- وفى لفظ لمسلم: "بِعْهُ بِسِلْعَةٍ، ثُمّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِكَ أَىَّ التَّمْرِ شِئتَ". فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاع بها تمراً. وهذا ضرب من الحيلة. ولم يفرق بين بيعه ممن يشترى منه التمر، أو من غيره. وقد جاء قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تَجَارَة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ} [البقرة: 282]. وهذا إرشاد إلى حيلة العِينة وما يشبهها. فإن السلعة تدور بين المتعاقدين، للتخلص من الربا. قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذى يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهى حيلة فى الأقوال، كما أن تلك حيلة فى الأعمال. فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: إن فى معاريض الكلام ما يغنى الرجل عن الكذب. وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما يسرنى بمعاريض الكلام حمر النعم. وقال الزهرى عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبى معيط، وكانت من المهاجرات الأول: "لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلمَ يُرَخِّصُ فى شَئْ مَّمِا يَقُولُ النَّاسُ إِنّهُ كَذِبٌ إِلا فى ثَلاثٍ: الرَّجُل يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالَّرجُلِ يَكْذِبُ لامْرَأَتِه، وَالْكَذِبِ فى الْحَرْبِ". ومعنى الكذب فى ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب. وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طليعة للمشركين، وهو فى نفر من أصحابه فقال المشركون: "مًمَّنْ أَنْتُمْ ؟ فقَالَ النَّبُى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ: نَحْنَ مِنْ مَاءٍ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ، لَعَلّهُمْ منهم، وَانْصَرَفُوا". وأراد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله "نحن من ماء" قوله تعالى: {خُلقَ مِنْ
(14/405)
مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]. ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته. فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها فى عنقك. فقال ما فعلت ؟ فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن. فقال:
(14/406)
ص -382- فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه. قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة. ويذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب ؟. ودعى أبو هريرة رضى الله عنه إلى طعام فقال: "إنى صائم ثم رأوه يأكل. فقالوا: ألم تقل: إنى صائم. فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صِيامَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهرِ". وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شئ معه، قال: أعطيك فى أحد اليومين إن شاء الله تعالى. فيظن أنه أراد يومه والذى يليه، وإنما أراد يومى الدنيا والآخرة. وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلاناً أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة ؟ فقال له: قل والله ما أبصر إلا ما سددنى غيرى، يعنى إلا ما أبصرك ربك. وقال حماد عن إبراهيم فى رجل أخذه رجل، فقال: إن لى معك حقاً. فقال: لا. فقال: احلف بالمشى إلى بيت الله، فقال احلف بالمشى إلى بيت الله واعن مسجد حَيِّك. وذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلاً كان يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح. فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام. فقال الرجل: أف أف. وسلمت بغلته. وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يقيمها. وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه: فيسأله عنه، فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيئ، يعنى ب"ما": الذى.
(14/407)
ص -383- وقال عقبة بن المعيرة: كنا نأتى إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا. ولا لنا به علم ولا فى أى موضع هو. واعنوا أنكم لا تدرون أى موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صدقتم. وجاءه رجل فقال: إنى اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها، ويريدون أن يحلفونى أنها الدابة التى اعترضت عليها ؟ فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكناً. ثم احلف أنها الدابة التى اعترضت عليها. وقال أبو عوانة عن أبى مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تعاتبه فى جارية له، وبيده مروحة، فقال: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها. قال: أما رأيتمونى أشير إلى المروحة ؟ إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها، وأنا أعنى المروحة. وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبى: من حلف على يمين لا يستثنى، فالبر والإثم فيها على علمه. قلت: ما تقول فى الحيل ؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شئ يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال. فما كان من هذا ونحوه، فلا بأس به، وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل فى حق لرجل حتى يبطله، أو يحتال فى باطل حتى يموهه، أو يحتال فى شئ حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل الذى قلنا فلا بأس بذلك. وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسى، ضرسى. ووجه الرشيد إلى شريك رجلاً ليحضره، فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره، ففعل. فحبسه الرشيد، ثم أرسل إليه رسولاً آخر فأحضره، وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله. فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول فى اليوم الذى أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثانى، فصدقه، وأمر بإطلاق الرجل. وأحضر الثورى إلى مجلس المهدى فأراد أن يقوم فمنع، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد، فقال المهدى: ألم
(14/408)
يحلف أنه يعود ؟ فقالوا:
(14/409)
ص -384- إنه عاد فأخذ نعله. قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل. فأبعد الناس عن القول بها مالك، وأحمد، وقد سئل أحمد عن المروزى وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمد إصبعه فى كفه، وقال: ليس المروزى هاهنا. وماذا يصنع المروزى هاهنا ؟،. وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق ليطأن امرأته فى نهار رمضان، فقال يسافر بها ويطؤها فى السفر. وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبى حكيم: حكى أن رجلاً سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر فى رمضان ؟ فقال له: اذهب إلى بشر ابن الوليد، فاسأله ثم ائتنى فأخبرنى، فذهب فسأله، فقال له بشر: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان وقت السحر، فكل، واحتج بقول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ المبَارَكِ" فاستحسنه أحمد. قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارق ووضع الصواع فى رحله، ولم يكن كذلك حقيقة. لكن أظهر ذلك توصلاً إلى أخذ أخيه وجعله عنده. وأجزه الله سبحانه أن ذلك كيد، كاده سبحانه ليوسف، ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذى رفع به درجات من يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه. فوق كل ذى علم عليم. فصل قال منكرو الحيل: الحيل ثلاثة أنواع: نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى. ونوع هو جائز مباح، لا حرج على فاعله، ولا على تاركه تركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.
(14/410)
ص -385- ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله، متضمن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرمه. وإنكار السلف والأئمة، وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع. فإن الحيلة لا تذم مطلقاً، ولا تحمد مطلقاً، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب فى العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة. وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك، وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل، فإن أهل العرف لهم تصرف فى تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه. فإن الحيلة فعلة، من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهى من ذوات الواو، وأصلها "حولة" فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء، كميزان، وميقات، وميعاد. قال فى المحكَم: الحْولُ، والحَيلْ، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلة، والحوِيل، والمحالة، والمحال، والاحتيال، والتَّحوُّل، والتَّحيُّل: كل ذلك: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على وجه التصرف. قال: والحول والحيل، والحيلات: جمع حيلة، ورجل حُوَل، وحُوَلةَ، وحول، وحُوَّلة، وحوالى، وحولول، وحُوَّلى: شديد الاحتيال. وما أحوله وأحيله، وهو أحول منك، وأحيل، انتهى. فالحيلة: فعلة من الحول، وهو التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمراً يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به حيلة يتوصل بها إليه. فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقاً ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرا حسناً كانت الحيلة حسنة. وإن كان قبيحاً كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك. وإن كانت معصية وفسوقاً كانت الحيلة عليه كذلك. ولما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا محَاَرِمَ اللهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيلِ". صارت فى عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل
(14/411)
التى تستحل بها المحارم كحيل اليهود. وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو لآدمى، فهى مما يستحل بها المحارم.
(14/412)
ص -386- ونظير ذلك: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم. ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الحرب خدعة" وقوله فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره: "كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، إِلا ثَلاثَ خِصَالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اُثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُمَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ فى خِدْعَةِ حَرْبٍ. ومن النوع المذموم قوله فى حديث عياض بن جمار، الذى رواه مسلم فى صحيحه: "أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِى إِلا وَهْوَ يَخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمِالِكَ". وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62]. ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبى رافع، عَدُوَّى رسول الله | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| |
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:25 | |
| ص -21- أخرى تسلم لها، وهى المقام فى دارها، أو بلدها، أو يكون الزوج لها وحدها، وهذا جار مجرى بعض صداقها. فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى. المثال الحادى والثلاثون: إذا زوج ابنته بعبده صح النكاح، فإن حضره الموت فخاف هو، أو المرأة، أن ترث جزءا منه، فينفسخ النكاح. فالحيلة فى بقائه: أن يبيع العبد من أجنبى، فإن شاء قبض ثمنه، وإن شاء جعله دينا فى ذمته، يكون حكمه حكم سائر ديونه، فإذا ورثت نصيبها من ثمنه، لم ينفسخ نكاحها. وإن باع العبد من أجنبى قبل العقد، ثم زوجه الابنة، أمن هذا المحذور أيضاً. وكذلك إذا أراد أن يزوج أمته بابنه، وخاف أن يموت فيرث الابن زوجته، فينفسخ النكاح، باعها من أجنبى، ثم زوجها الابن، أو يبيعها من الأجنبى بعد العقد. المثال الثانى والثلاثون: إذا أحاله بدينه، وخاف المحتال أن يبور ماله عند المحال عليه، وأراد التوثق لماله. فالحيلة فى ذلك، أن يقول: لا تحلنى بالمال، لكن وكلنى فى المطالبة به، واجعل ما أقبضه فى ذمتى قرصاً، فييرآن جميعاً بالمقاصة. فإن خاف المحيل أن يهلك المال فى يد الوكيل قبل اقتراضه، فيرجع عليه بالدين. فالحيلة له: أن يقول للمحال عليه: اضمن عنى هذا الدين لهذا الطالب، فيضمنه فإذا قبضه قبضه لنفسه. فإن امتنع المحال عليه من الضمان احتال الطالب عليه على أنه إن لم يوفه حقه إلى وقت كذا وكذا، فالمحيل ضامن لهذا المال، ويصح تعليق الضمان بالشرط. فإن وفاه المحيل عليه وإلا رجع إلى المحال، وأخذه بالمال. المثال الثالث والثلاثون: إذا كان له دين على رجل فرهنه به عبداً، فخاف أن يموت العبد، فيحاكمه إلى من يرى سقوط الدين بتلف الرهن. فالحيلة فى تخليصه من هذا المحذور: أن يشترى العبد منه بدينه، ولا يقبض العبد فإن وفاه دينه أقاله فى البيع. وإن لم يوفه الدين طالبه بالتسليم، وإن تلف العبد كان من ضمان البائع، ورجع المشترى إلى دينه الذى هو ثمنه. المثال الرابع
(15/27)
والثلاثون: إذا كان له عليه دين، فرهنه به رهنا، ثم خاف أن يستحق الرهن فتبطل الوثيقة.
(15/28)
ص -22- فالحيلة فيه: أن يضمن دينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن. فإذا استحقه عليه طالبه بالمال، أو يضمنه درك الرهن، أو يشهد عليه أنه لا حق له فيه. ومتى ادعى فيه حقاً فدعواه باطلة. المثال الخامس والثلاثون: إذا كان له عليه مائة دينار خمسون منها بوثيقة، وخمسون بغير وثيقة، وجحده الغريم القدر الذى بغير وثيقة. فالحيلة له فى تخليص ماله: أن يوكل رجلاً غريباً بقبض المال الذى بالوثيقة. ويشهد على وكالته علانية، ثم يشهد شهودا آخرين: أنه قد عزله عن الوكالة، ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال، ويثبت شهود وكالته. فإذا قبض الخمسين ديناراً دفعها إلى مستحقها وغاب، ثم يطالبه المستحق بهذه الخمسين. فإن قال: دفعتها إلى وكيلك. أقام البينة أنه كان قد عزله عن الوكالة، فيلزمه الحاكم بالمال، ويقول له: اتْبَعِ القابض، فخذ مالك منه. فإن كان الغريم حذرا لم يدفع إلى الوكيل شيئاً خشية مثل هذا. ويقول: لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكل وإقراره أنك وكيله، فتبطل هذه الحيلة. المثال السادس والثلاثون: إذا حضره الموت، ولبعض ورثته عليه دين، وأراد تخليص ذمته. فإن أقر له به، لم يصح إقراره، وإن وصى له به، كانت وصية لوارث. فالحيلة فى خلاصه: أن يواطئه على أن يأتى بمن يثق به، فيقر له بذلك الدين، فإذا قبضه أوصله إلى مستحقه، فإن خاف الأجنبى أن يلزمه الحاكم أن يحلف أن هذا الدين واجب لك على الميت، ولم تبرئه منه، ولا من شئ منه لم يجز له أن يحلف على ذلك. وانتقلنا إلى حيلة أخرى، وهى أن يقول له المريض: بع دارك، أو عبدك من وارثى، بالمال الذى له على فيفعل. فإذا لزمته اليمين بعد هذا حلف على أمر صحيح، فإن لم يكن له ما يبيعه إياه وهب له الوارث عبدا أو أمة، فقبضه، ثم باعه من الوارث بالدين على الميت. المثال السابع والثلاثون: إذا نكح أمة، حيث يجوز له نكاح الإماء، وخاف أن يسترق سيدها ولده.
(15/29)
ص -23- فالحيلة فى ذلك: أن يسأل سيد الأمة أن يقول: كل ولد تلده منك فهو حر. فإذا قال فما ولدته منه فهم أحرار. المثال الثامن والثلاثون: إذا قال لامرأته: إن سألتنى الخلع، فأنت طالق ثلاثاً إن لم أخلعك. وقالت المرأة: كل مملوك لها حر، إن لم أسألك الخلع اليوم. فسئل أبو حنيفة عنها فقال للمرأة: سليه الخلع، فقالت: أسألك أن تخلعنى. فقال للزوج: قل خلعتك على ألف درهم، فقال ذلك. فقال أبو حنيفة للمرأة قولى: لا أقبل. فقالت: لا أقبل، فقال أبو حنيفة: قومى مع زوجك، فقد بر كل منكما فى يمينه. المثال التاسع والثلاثون: سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجاً أختين، فزفت امرأة كل واحد منهما إلى الآخر، فوطئها، ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا، فقيل له: ما الحيلة فى ذلك؟ فقال: أكل منهما راض بالتى دخل بها؟ قالوا: نعم، فقال: ليطلق كل واحد منهما امرأته طلقة، ففعلا، فقال: ليتزوج كل منهما المرأة التى وطئها، فطابت أنفسهما. المثال الأربعون: إذا كان لرجل على رجل مال وللذى عليه المال عقار، فأراد أن يجعل عقاره فى يد غريمه يستغله، ويقبض غلته من دينه جاز ذلك، لأنه توكيل له فيه، فإن خاف الغريم أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة. فالحيلة: أن يسترهنه منه ويستديم قبضه، ثم يأذن له فى قبض أجرته من دينه، ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصاً. وله حيلة أخرى: أن يستأجره منه بمقدار دينه، فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصاً. المثال الحادى والأربعون: إذا كان له جارية فأراد وطأها، وخاف أن تحبل منه فتصير أم ولد، لا يمكنه بيعها. فالحيلة: أن يبيعها لأبيه، أو أخيه، أو أخته، فإذا ملكها سأله أن يزوجه إياها فيطأها بالنكاح، ويكون ولده منها أحرارا يعتقون على البائع بالرحم، وهذا إذا كان ممن
(15/30)
ص -24- يجوز له نكاح الإماء، بأن لا يكون تحته حرة عند أبى حنيفة. أو يكون خائفاً للعنت عادماً لطَوْل حرة، عند الجمهور. المثال الثانى والأربعون: إذا بانت منه امرأته ببينونة صغرى، وأراد أن يجدد نكاحها فخاف إن أعلمها لم تتزوج به، فله فى ذلك حيل: إحداها: أن يقول: قد حلفت بيمين، ثم استفتيت، فقيل لى: جدد نكاحك، فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح، وإلا لم يضرك. فإن كان لها ولى جدد نكاحها، وإلا فالحاكم أو نائبه. ومنها: أن يظهر أنه يريد سفراً، وأنه يريد أن يجعل لها شيئاً من ماله، وأن الاحتياط أن يجعله صداقاً بعقد يظهره. ومنها: أن يظهر مرضاً، وأنه يريد أن يقر لها بمال، أو يوصى لها به، وأن ذلك لا يتم. والأحوط أن أظهر عقد نكاح وأجعل ذلك صداقاً فيه. فإن قيل: إذا بانت منه ملكت نفسها، ولم يصح نكاحها إلا برضاها، ولعلها لو علمت الحال لم ترض بالنكاح الثانى. قيل: رضاها بتجديد العقد للغرض الذى يريده يتضمن رضاها بالنكاح، وهى لو هزلت بالإذن صح إذنها وصح النكاح، مع أنها لم تقصده كما لو هزل الزوج بالقبول صح نكاحه، وهاهنا قد قصدت بقاء النكاح، ورضيت به، فهو أولى بالصحة. فإن قيل: فالرجل قاصد إلى النكاح، والمرأة غير قاصدة له؟ قيل: بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها، فلم تخرج بذلك عن القصد والرضا. ولو قال رجل لرجل، هزلاً ومزاحاً: زوجنى ابنتك على مائة درهم، أو قال: زوجنى موليتك، وهى تسمع، فقال له، مزاحاً وهزلاً: قد زوجتكها. انعقد النكاح وحل له وطؤها لحديث أبى هريرة الذى رواه أهل السنن عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ
(15/31)
ص -25- جِد، وَهَزْلهُنَّ جد: النَّكَاحُ، وَالطّلاقُ، وَالرَّجْعَةَ". المثال الثالث والأربعون: إذا كان الرجل حسن التصرف فى ماله، غير مبذر له،
(15/32)
ص -26- فرفع إلى الحاكم وشهد عليه أنه مبذر، فخاف أن يحجر عليه. فقال: إن حجرت على فعبيدى أحرار، ومالى صدقة على المساكين لم يملك القاضى أن يحجر عليه بعد ذلك، لأنه إنما يحجر عليه صيانة لماله، وفى الحجر عليه إتلاف ماله، فهو يعود على مقصود الحجر بالإبطال. المثال الرابع والأربعون: يصح الصلح عندنا، وعند أبى حنيفة، ومالك، على الإنكار، فإذا ادعى عليه شيئاً فأنكره ثم صالحه على بعضه جاز. والشافعى لا يصحح هذا الصلح، لأنه لم يثبت عنده شئ، فبأى طريق يأخذ ما صالحه عليه؟ بخلاف الصلح على الإقرار، فإنه إذا أقر له بالدين والعين، فصالحه على بعضه، كان قد وهبه، أو أبرأه من البعض الآخر. والجمهور يقولون: قد دل الكتاب والسنة والقياس على صحة هذا الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس. وأخبر أن الصلح خير وقال: {إِنَّمَا الُمْؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكمْ} [الحجرات: 10]. وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الصُّلْحُ بَيْنَ الُمْسْلِمينَ جَائزٌ، إِلا صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلالاً". وأما القياس: فإن المدعى عليه يفتدى مطالبته باليمين وإقامة البينة، وتوابع ذلك: بشيء من ماله يبذله، ليتخلص من الدعوى ولوازمها. وذلك غرض صحيح، مقصود عند العقلاء. وغاية ما يُقَدَّر أن يكون المدعى كاذباً، فهو يتخلص من تحليفه له، وتعريضه للنكول، فيقضى عليه به، أو ترد اليمين، بل عند الخِرَقى: لا يصح الصلح إلا على الإنكار، ولا يصح مع الإقرار، قال: لأنه يكون هضما للحق. فإذا صالحه مع الإنكار، فخاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل الصلح، فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يصالح أجنبى عن المنكر على مال، ويقر الأجنبى لهذا المدعى بما ادعاه على
(15/33)
ص -27- غريمه، ثم يصالحه من دعواه على مال، ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه، ولا وكالته، إن كان المدعى دينا، لأنه يقول: إن كان كاذباً فقد استنقذته من هذه الدعوى، وذلك بمنزلة فكاك الأسير، وإن كان صادقاً فقد قضيت عنه بعض دينه، وأبرأه المدعى من باقيه، وذلك لا يفتقر إلى إذنه. وإن كان المدعى عينا، لم يصح حتى يقول: قد وكلنى المنكر. لأنه يقول: قد اشتريت له هذه العين المدعاة بالمال الذى أصالحك عليه، فإن لم يعترف أنه وكله، وإلا لم يصح. فإن لم يعترف بوكالته، فطريق الصحة: أن يصالح الأجنبى لنفسه، فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة. فإن اعترف بها المدعى باطنا، صار هو الخصم فيها. وإن لم يعترف بها له لم يسعه أن يخاصم فيها المدعى عليه، ويكون اعترافه له بها ظاهراً حيلة على تصحيح الصلح. وعلى هذا، فإن كان المدعى دار خلفها الميت لابنه وامرأته، فادعاها رجل فصالحاه من دعواه على مال، فإن كان صلحاً على الإنكار فالدار بينهما على ثمانية أسهم، على المرأة الثمن، وعلى الابن سبعة أثمان. وإن كان على الإقرار، فالمال بينهما نصفان والدار لهما نصفان. فإذا أراد لزوم الصلح على الإنكار، صالح عنهما أجنبى على الإقرار فلزم الصلح، وكان المال بينهما على سبعة أثمان، وكذلك الدار، فإنهما لم يقرا له بالدار وإقرار الأجنبى لا يلزمهما حكمه. المثال الخامس والأربعون: إذا ادعى عليه أرضا فى يده، أو داراً أو بستانا. فصالحه على عشرة أذرع، أو أقل، أو أكثر، جاز، وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو أخرى، جاز، لأنه يقول: قد أخذت بعض حقى وأسقطت البعض. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم حنفى، لا يرى جواز ذلك بناء على أنه لا يجوز بيع ذراع، ولا عشرة، من أرض أو دار. فطريق الجواز: أن يذرع الدار التى صالحه على هذا القدر منها، ثم ينسبه إلى المجموع، فما أخرجته النسبة أوقع الصلح عليه، ويصح ذلك ويلزم. المثال السادس والأربعون: إذا أوصى لرجل بخدمة
(15/34)
عبده مدة معينة، أو ما عاش، جاز
(15/35)
ص -28- ذلك. فإذا أراد الوارث أن يشترى من الموصى له خدمة العبد لم يصح، لأن الحق الموصى له به إنما هو فى المنافع، وبيع المنافع لا يجوز. والحيلة فى الجواز: أن يصالحه الوارث من وصيته على مال معين، فيجوز ذلك. وكذلك لو أوصى له بحمل شاته أو أمته، أو بما يحمل شجره عاماً. فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح، وله أن يصالحه عليه، فإن الصلح - وإن كان فيه شائبة من البيع - فهو أوسع منه. المثال السابع والأربعون: لو شجه رجل، فعفا المشجوج عن الشجة، وما يحدث منها ثم مات منها، لم يلزم الشاج شيئاً، ولو قال: عفوت عن هذه الجراحة، أو الشجة، ولم يقل: وما يحدث منها، فكذلك فى إحدى الروايتين، وفى الأخرى: تضمن بقسطها من الدية. ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، فلا شئ له فى السراية، رواية واحدة. وعند أبى حنيفة له المطالبة بالدية فى ذلك كله، إلا إذا قال: عفوت عنها، وعما يحدث منها. فالحيلة فى تخلص المعفو عنه: أن يشهد على المجنى عليه: أنه عفا عن هذه الجناية أو الشجة وما يحدث منها، فيتخلص عند الجميع. المثال الثامن والأربعون: إذا مات وترك زوجة وورثة، فأرادت الزوجة أن يصالحها الورثة عن حقها نظرنا فى التركة، وفى الذى وقع عليه الصلح، فإن كان فى التركة أثمان: ذهب وفضة، فصالحتهم على شئ من الأثمان لم يصح، لإفضائه إلى الربا. لأن صلحها بيع نصيبها منهم. وإن صالحتهم على عرض أو عقار، أو كان فى التركة دراهم، فصالحتهم بدنانير، أو بالعكس جاز. ولا تضر جهالة حقها، لأن عقد الصلح أوسع من البيع كما تقدم. فإن كان فى التركة ديون لم يصح، لأن بيع الدين من غير الذى هو فى ذمته لا يصح. ويحتمل أن يقول بصحته، كما يصح عن المجهول، وإن لم يصح بنفسه. فالحيلة فى صلحها عن الدين أيضاً: أن يعجل لها حصتها من الدين، يقرضها الورثة
(15/36)
ص -29- ذلك، وتوكلهم فى اقتضائه، ثم تصالحهم من الأعيان، على ما اتفقوا عليه، لأنهم إذا أقرضوها حصتها من الدين ثم وكلتهم بقبض حصتها من الدين، فإذا قبضوا حصتها من الدين فقد حصل فى أيديهم بمالها من جنس مالهم عليها فيتقاصان. ويكون عقد الصلح قد وقع على العروض والمتاع خاصة. فإن لم تطب أنفسهم أن يقرضوها قدر حصتها من الدين، وأحبت تعجيل الصلح صالحتهم عن حقها من المتاع والعروض، دون الديون. وكلما قبض من الدين شئ أخذت حقهاً منه، فإن تعسر ذلك، وشق عليها، وأحبت الخلاص. حاسبوها فى الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها، وأقرت أن الدين حق للورثة دونها، من ثمن متاع باعه الميت لهم. فإن أرادوا قسمة الدين فى الذمم. فالمشهور: أنه لا يصح لأن الذمم لا تتكافأ، وفيه رواية أخرى تجوز قسمته، وهى الصحيحة. فإن قد تكون مصلحة الورثة والغرماء فى ذلك، وتفاوت الذمم لا يمنع القسمة، فإن التفاوت فى المحل، والمقسوم واحد متماثل، وإن اختلفت محاله. وإذا كان الغرماء كلهم موسرين أو معسرين، أو بعضهم موسراً، وبعضهم معسراً، فأخذ كل من الورثة موسراً ومعسراً، كان هذا عدلاً غير ممتنع وقد تراضوا به فلا وجه لبطلانه، وبالله التوفيق. المثال التاسع والأربعون: إذا كان لرجل على رجل دين، فقال: تصدق به عنى ففعل لم يبرأ، وكانت الصدقة عن المخرج ودينه باقياً، قاله أصحابنا لأنه لم يتعين، ولأنه لا يكون مبرئا لنفسه بفعله. قالواً: وطريق الصحة أن يقول: تصدق عنى بكذا، بقدر دينه، ويكون ذلك إقراضاً منه. فإذا فعل ثبت له فى ذمته ذلك القدر، وعليه له مثله، فيتقاصان
(15/37)
ص -30- وكذلك لو قال له: ضارب بالمال الذى عليك والربح بيننا، لم يصح. والحيلة فى صحته: أن يقول: أذنت لك فى دفعه إلى ابنك، أو زوجتك وديعة ثم وكلتك فى أخذه والمضاربة به. والظاهر: أنه لا يحتاج إلى شئ من ذلك. ويكفى قبضه من نفسه لرب الناس. وإذا تصدق عنه بالذى قال، كان عن الآمر. هذا هو الصحيح، وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة، فإذا عينه بالنية تعين، وكان قابضاً من نفسه لموكله، وأى محذور فى ذلك؟. المثال الخمسون: يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا، وكذلك الدابة بعلفها وكذلك المرضعة، وهو مذهب مالك، وقال الشافعى: لا يجوز فيهما، وجوزه أبو حنيفة فى الظئر خاصة. فإذا عقد الإجارة كذلك، ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانها، فيلزمه بأجرة مثله، فالحيلة فى تصحيح ذلك: أن يستأجر بنقد معلوم، يكون بقدر الطعام والكسوة، ثم يشهد عليه أنه وكله فى إنفاق ذلك على نفسه وكسوته، وكذلك فى الدابة. المثال الحادى والخمسون: يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره المؤجر، كما يجوز لغيره. وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة. فالحيلة فى لزومها: أن يؤجر ذلك لأجنبى غير المؤجر، ثم يؤجره إياها الأجنبى. المثال الثانى والخمسون: إذا كفل اثنان واحدا، فسلمه أحدهما برئ الآخر، كما لو ضمنا دينا، فقضاه أحدهما، فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك، ويلزم الآخر بتسليمه. فالحيلة فى خلاصه: أن يكفلا هذا المكفول به، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعاً بريئان، أو يشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه فى دفع المكفول به إلى الطالب، والتبرى إليه منه، فيبرآن على قول الجميع.
(15/38)
ص -31- المثال الثالث والخمسون: يصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب عندنا، كما يصح ضمان الدرك، فإذا قال: ما أعطيت لفلان فأنا ضامن له، صح ولزمه. وقال الشافعى: لا يصح. فالحلية فى صحته، لئلا يبطل ذلك حاكم يرى بطلانه: أن يقول: ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف، فأنا ضامن له. فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز، واستويا فى الغرم. فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث، وعلى الآخر الثلثين، جاز ذلك لأن المال إنما يجب على كل منها بالتزامه، فإذا التزماه على هذا الوجه صح. فان أراد أحد الضامنين أن يضمن الآخر ما لزمه من هذا الضمان، فيصير ضامناً، جاز ذلك أيضاً، لأن المال قد ثبت فى ذمة كل واحد منهما، فإذا ضمنه أحدهما جاز كما يجوز فى الأصل. المثال الرابع والخمسون: إذا اشترك رجلان شركة عنان، فسافر أحدهما بالمال بإذن شريكه، فخاف أن يموت المقيم، فيشترى بالمال بعد موته متاعاً، فيضمن، لأنه قد انتقل إلى الورثة، وبطلت الشركة. فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يشهد على شريكه المقيم أن حصته فى المال الذى بينه وبينه لولده الصغار، وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه، وأمره أن يشترى بها ما أحب فى حياته وبعد وفاته، فإن كان ولده كباراً أشهد على نفسه أن هذا المال لهم ثم يأمر ولده الكبار هذا الشريك أن يعمل لهم فى مالهم هذا بما يرى، ويشترى لهم ما أحب. المثال الخامس والخمسون: إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلا، فتزوجها أحدهما على نصيبه فى المال عليها صح النكاح، وبرئت ذمة المرأة من ذلك المقدار، ولم يلزم الزوج أن يضمن لصاحبه شيئاً منه، لأنه لم يقبض شيئاً من نصيبه، ولم يحصل فى ضمانه، فجرى مجرى إبرائها له منه. وبعض الفقهاء يضمنه نصيب شريكه من المهر، ويجعله كالمقبوض، لأنه عاوض عليه بالبضع، فهو كما لو اشترى منها به سلعة، فإنها تكون بينهما، وهاهنا تعذرت مشاركته فى البضع، فيشاركه فى بدله وهو المهر، فكأنها وفته نصيبه من الدين.
(15/39)
ص -32- وطريق الحيلة فى تخليصه من ذلك: أن يهب لها نصيبه مما عليها، ثم يتزوجها بعد ذلك على خمسمائة فى ذمته، ثم تهب له المرأة مالها عليه من الصداق، فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئاً، لأنه متبرع. فإن خاف أن يهبها أو يبرئها فتغدر به، ولا تتزوج به، فالحيلة له: أن يشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ، مادامت أجنبية منه، وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئاً من ذلك المال. وأكثر ما فيه: أنه يسميها زوجة قبل العقد برئت من الدين. فإن خاف أن لا تبرئه من الصداق، وتطالبه به، ويسقط حقه من المال الذى عليها، فالحيلة له: أن يشهد عليها فى العقد: أنه برئ إليها من الصداق، وأنها لا تستحق المطالبة به. المثال السادس والخمسون: إذا أراد أن يشترى جارية، وعرض له آخر يريد شراءها. فاستحلف أحدهما صاحبه: أنه إن اشتراها فهى بينه وبينه نصفين، فأراد أن يشتريها وتكون له. تأول فى يمينه: أنه إن اشتراها بنفسه فهى بينه وبينه. فإذا وكل من يشتريها له كانت له وحده. فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها، بطلت هذه الحيلة، فله أن يأمر من يثق به أن يشتريها لنفسه، ويؤدى هو عنه الثمن. ثم يزوجه إياها. فإذا أراد بيعها استبرأها، ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويرجع ثمنها إليه. المثال السابع والخمسون: إذا كان بينهما عرض من العروض، فاشتراه منهما أجنبى بمائه درهم وقبضه. ثم إن المشترى أراد أن يصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه، على أن يضمن له الدرك من شريكه، حتى يخلصه منه، أو يرد عليه جميع الثمن الذى وقع العقد عليه فقال القاضى: لا يجوز ذلك، لأن الضمان على شريكه إنما يجب بقبضه المال، وذلك لم يوجد، فلا يكون مضمونا عليه. فالحلية للمشترى: أن يكون بريئا. وإن أدركه درك من شريكه رجع به على الذى صالحه أن يحط الشريك المصالح عن المشترى نصيبه كله من الثمن ثم يدفع المشترى إليه نصيب صاحبه،
(15/40)
فصالحه على أنه ضامن لما أدركه من شريكه، حتى يخلصه منه، أو يرد عليه
(15/41)
ص -33- ما قبضه منه، ويبرئه هو من نصيبه، لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبق من الدين إلا نصيب صاحبه، فإذا قبضه كان مضمونا عليه، لأنه قبض دين الغير بغير أمره. المثال الثامن والخمسون: إذا كان عبد بين شريكين موسرين، فأراد كل منهما عتق نصيبه، وأن لا يغرم لشريكه شيئاً. فالحيلة: أن يوكلا رجلاً فيعتقه عنهما، ويكون ولاؤه بينهما. المثال التاسع والخمسون: إذا سأله عبده أن يزوجه أمته فحلف أن لا يفعل، ثم بداله فى تزويجه. فالحيلة: أن يبيع العبد والأمة لمن يثق به، ثم يزوجه المشترى، فإذا تم العقد أقاله فى البيع. ولا بأس هذه الحيلة، فإنها لا تتضمن إبطال حق، ولا تحليل محرم. وذلك غير ممتنع على أصلنا، لأن الصفة، وهى عقد النكاح قد وجدت فى حال زوال ملكه. فلا يتعلق بها حنث، ولا يحنث أيضاً باستدامة التزويج بعد ملكهما. لأن التزويج عبارة عن العقد، وقد انقضى، وإنما بقى حكمه. ولهذا لو حلف لا يتزوج فاستدام التزويج. لم يحنث، وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده أنه لا يدخل الدار، فباعه. ودخلها ثم ملكه. فإن دخلها حنث، لأنه ابتدأ الدخول واليمين باقية، ولو دخلها فى حال زوال ملكه وهو داخل فيها حنث، لأن الدخول الأول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك الثانى فيحنث به، كما لو كان موجودا فى الملك الأول. وقد قال أحمد فى رواية مهنا، فى رجل قال لامرأته: أنت طالق إن رهنت كذا وكذا. فإذا هى قد رهنته قبل يمينه، فقال: أخاف أن يكون حنث. قال القاضى: وهذا محمول على أنه قال إن كنت رهنته. وهذا تأويل منه لكلام أحمد: فظاهر كلامه أنه جعل استدامة الرهن بمنزلة ابتدائه، كالدخول. المثال الستون: إذا كان له عليه مال، فمرض المستحق وأراد أن يبرئه منه، وهو يخرج من ثلثه. فخاف أن تكتم الورثة ماله، ويقولوا: لم يدع إلا الدين الذى على هذا.
(15/42)
ص -34- فالحلية فى خلاصه: أن يخرج المريض من ماله بقدر الدين الذى على غريمه، فيملكه إياه، ثم يستوفيه منه، ويشهد على ذلك، وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبداً، وله مال يخرج من ثلثه، ويملكه ماله، فخاف أن يقول الورثة: لم يخلف الميت شيئاً غير هذا العبد وماله. فالحيلة: أن يبيع المريض العبد من رجل يثق به، ويقبض الثمن، فيهبه للمشترى ثم يعتقه المشترى. فإن كان على الميت دين وله وفاء وفضل يخرج العبد من ثلثه فخاف المريض أن يغيب الورثة ماله، ثم يقولوا: أعتق العبد ولا مال له غيره، فلا نجيز له ما صنع من ذلك. فالحيلة فيه: أن يبيع العبد من نفسه، ويقبض الثمن منه بمحضر من الشهود. ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه فى السر، فيأمن حينئذ من اعتراض الورثة، فإن لم يكن للعبد مال يشترى به نفسه، وهبه مالا فى السر، وأقبضه إياه، فيشترى به العبد نفسه من سيده. فإن لم يرد السيد عتقه، وأراد بيعه من بعض ورثته بمال على المريض ليست له به بينة. فالحيلة فى ذلك: أن يقبض وارثه ماله فى السر، ثم يبيعه العبد ويشهد له على ذلك، ويقبض الثمن بمحضر من الشهود، فيتخلص من اعتراض الورثة. المثال الحادى والستون: إذا أوصى إلى رجل، فخاف أن لا يقبل، فقال: إن لم يقبل فلان وصيتى فهى لفلان. صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الصحيحة الصريحة، التى لا تجوز مخالفتها حيث علق الإمارة بالشرط. فتعليق الوصية أولى، لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية. وبعض الفقهاء يبطل ذلك. فالحيلة فى ذلك: أن يشهد المريض أنهما جميعاً وصياه، فإن لم يقبل أحدهما، وقبل الآخر، فالذى قبل منهما وصى وحده. فإن قبلا جميعا، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف عن صاحبه، لأنه رضى بتصرف كل واحد منهما، قاله القاضى:
(15/43)
ص -35- فإن خاف أن يمنع ذلك من لا يرى انفراد أحدهما بالتصرف، ويقول: قد شرك بينهما وجعلهما بمنزلة وصى واحد. فالحيلة فى الجواز: أن يقول: أو صيت إليهما على الاجتماع والانفراد. المثال الثانى والستون: إذا تصرف الوصى وباع واشترى وأنفق على اليتيم. فللحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حاسب عماله، كما ثبت فى صحيح البخارى: "أنّهُ بَعَثَ ابْنَ الُّلتْبِيَّةِ عَامِلاً عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ". فإن أراد الوصى أن يتخلص من ذلك. فالحيلة له: أن يجعل غيره هو الذى يتولى بيع التركة، وقبض الدين والإنفاق، ولا يشهد على نفسه بوصول شئ من ذلك إليه، فإذا سأله الحاكم، قال: لم يصل إلى شئ من التركة، ولا تصرفت فيها. فإن كانت التركة قد بيعت بأمره وقبض ثمنها بأمره، وصرف بأمره. فحلفه الحاكم إنه لم يقبض، ولم يوكل من قبض وتصرف وأنفق. فإن كان محسنا قد وضع التركة موضعها ولم يخن، وسعه أن يتأول فى يمينه. وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله. المثال الثالث والستون: يصح وقف الإنسان على نفسه، على أصح الروايتين، ويجوز اشتراط النظر لنفسه، ويجوز أن يستثنى الإنفاق منه على نفسه ما عاش، أو على أهله. وغيرنا ينازعنا فى ذلك، فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه. فالحيلة له: أن يملكه لولده أو زوجته، أو أجنبى يقفه عليه، ويشترط له النظر فيه.
(15/44)
ص -36- وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغَلَّته، أو بالإنفاق عليه، فيصح حينئذ، ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل. المثال الرابع والستون: إذا اشترى جارية وقبضها، فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها، فأراد ردها. فصالحه البائع على أن يأخذ البائع الجارية بأقل من الثمن الذى اشتراها به. فقال القاضى: لا يجوز ذلك، لأن هذا الصلح فى معنى البيع، وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو كمسألة العينة، فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشترى جاز ذلك، لأن مقدار الحط يكون بإزاء العيب الذى حدث عند المشترى، فلا يؤدى إلى مسألة العينة. والحيلة فى جواز ذلك، فى الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة: أن يخرج الجارية من ملكه، فيبيعها لرجل بالثمن الذى يأخذها به البائع، فيصالح الذى فى يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذى وقع عليه العقد، ويجعل هذا الثمن الذى يأخذ به الجارية قضاء عن مشترى الجارية، لأن المشترى الثانى متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذى اشتريت به، فهو عقد جرى بينهما مبتدأ، من غير بناء أحد العقدين على الآخر، فإذا اشتراها البائع من هذا الثانى حصل ثمنها فى ذمته له، وله هو على المشترى الأول ثمنها، فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشترى الأول، فيتقاصان. المثال الخامس والستون: الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده، حيا كان المضمون عنه أو ميتا. وفيه رواية أخرى: أنه يبرئ ذمة الميت دون الحى، وهى مذهب أبى حنيفة. وفيه قول ثالث: أنه يبرئ ذمة الحى والميت، كالحوالة، وهو مذهب داود. فإذا أراد الضامن أن يكون مراجعه مبرئاً لذمة المضمون عنه، فالحيلة فى ذلك: أن يقول: لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه، فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له، ويصح تعليق الضمان بالشرط فى أقوى الوجهين، فإذا أبرأه صحت البراءة، ولزم الدين الضامن وحده. فإن خاف رب الدين أن
(15/45)
يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء، ولا يثبت له فى ذمة الضامن.
(15/46)
ص -37- فالحيلة له: أن يكتب ضمانه ضماناً مطلقاً، ويشهد عليه به من غير شرط، بعد إقراره ببراءة الأصيل، فيحصل مقصودهما. المثال السادس والستون: الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا فى صورة واحدة، وهى: أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلساً. وعند أبى حنيفة: إذا قرر المال على المحال عليه [ بأن جحده حقه، إذ قرار المحال على المحال عليه ]. فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلساً رجع على المحيل. وعند مالك: إن ظن ملاءته، فبان مفلساً، رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع. فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه، وأنه إن تقرر ماله على المحال عليه رجع على المحيل. فالحيلة له فى ذلك: أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء. فيقول للمحيل: أحلنى على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين، فيجيبه إلى ذلك. فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له فى استيفائه. فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال فى يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل فى قبضه. فالحيلة أن يقول له: ما قبضته فهو قرض فى ذمتك، فيثبت فى ذمته نظير ماله عليه، فيتقاصان. فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قبض محض، فهى وكالة، وحوالة استيفاء، وهى التى تنقل الحق، وحوالة إقراض. فالأولى لا تثبت المقبوض فى ذمة المحال، والثانية تجعل حقه فى ذمة المحال عليه، والثالثة تثبت المأخوذ فى ذمته بحكم الاقتراض. المثال السابع والستون: إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء. وعن مالك روايتان، إحداهما: كذلك. والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل. فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول: إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له. ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح.
(15/47)
ص -38- فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول، ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك. فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنت لك ما يتقرر لك على فلان، أو يعجز عن أدائه، فيصح ذلك، ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا تقرر المال على الأصيل، أو عجز عنه. المثال الثامن والستون: إذا بذت عليه امرأته، فقال: الطلاق يلزمنى منك لا تقولين لى شيئاً إلا قلت لك مثله، فقالت: أنت طالق ثلاثاً، فقال بعضهم: يقول لها: أنت طالق ثلاثاً بفتح التاء، ولا تطلق، لأن الخطاب لا يصلح لها، وهذا ضعيف جداً، لأن قوله: أنت طالق إما أن يعنيها به، أو يعنى غيرها، فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت بل يكون القول لغيرها فلا يبر به وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح لتاء لا يمنع صحة الخطاب، والمعنى: أنت أيها الشخص، أو الإنسان. ثم ما يقول هذا القائل: إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف، هل يكون باراً فى يمينه بذلك؟ فإن قال: لا يبر لزمه مثله فى الطلاق وإن قال: يبر، كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقاً لها. وأجود من هذا، أن يكون قوله على التراخى، ما لم يقيده بالفور، بلفظه أو نيته. وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن فعلت لما لا تقدر هى عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه، وفى هذا ضعف لا يخفى، لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهى زيادة فى اللفظ ونقصان فى المعنى، فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق، وصار كله كلاماً واحدا، وهى لم تعلق كلامها، وإنما نجزته. فالمماثلة تقتضى تنجيزا مثله. وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذى صدر منها فى يمينه، لأنه لم يرده قطعاً، ولا خطر بباله، فيمينه لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعرف، والعرف فى مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك، والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب، وهذا مطرد ظاهر
(15/48)
على أصول مالك وأحمد، فى اعتبارهم
(15/49)
ص -39- عرف الحالف ونيته وسبب يمينه، والله أعلم. المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها. ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة، والعلف عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون. وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا. لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظئر للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع فى استخلافه وحدوثه شيئاً بعد شئ ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة، وهو عين، ولأن اللبن حصل بعلفه وخدمته، فهو كحصول المغل ببذره وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر، فهذا من أصح القياس. وأيضاً فإنه يجوز أن يقفها، فينتفع الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو فى منفعة الموقوف مع بقاء عينه. وأيضاً فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها. وهى باقية على ملك المانح. فتجرى منحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحة المنافع، فإذا كان اللبن يجرى مجرى المنفعة فى الوقف والعارية، جرى مجراها فى الإجارة. وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنْ أرْضعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. فسمى ما تأخذه المرضعة فى مقابلة اللبن أجرا، ولم يسمه ثمنا. وأيضاً فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها، والماء لم يحصل بعمله، فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى. وأيضاً: فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز، لأنه معلوم بالعرف. وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان. وقياس المنع على تحريم بيع اللبن فى الضرع قياس فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره، وما يتحصل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز. والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئاً بعد شئ، فاللبن فى ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا، فهذا القول هو الصحيح.
(15/50)
ص -40- فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد. فالحيلة فى لزومه: أن يؤجره الحيوان مدة بدراهم مسماة، ثم يأذن له فى علفه بها، ويبيحه اللبن. وهذه الحيلة تتأتى فى إجارة البقرة، والناقة، والجاموس، إذ يمكن الحرث عليها وركوبها، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها، فالطريق فى ذلك: أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة، ويوكله فى النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها ويبيحه اللبن. المثال السبعون: إذا دفع إليه ثوبه وقال: بعه بعشرة، فما زاد فلك. فنص أحمد على صحته، تبعاً لعبد الله بن عباس، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم. ووجه الخلاف. أن فى هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد، ومن رجح جانب الإجازة أو المضاربة أبطله، لأن الأجرة والربح الذى جعل له مجهول. والصحيح: الجواز لأن العشرة تجرى مجرى رأس المال فى المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كله له، كان بمنزلة الإبضاع، إذا دفع إليه مالاً يضارب به، وقال: ما ربحت فهو لك، فليس العقد من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه. فالحيلة فى ذلك: أن يقول: وكلتك فى بيعه بعشرة، فإن بعته بأكثر فلا حق لى فى الزيادة، فيصح هذا. وتكون الزيادة للوكيل. المثال الحادى والسبعون: قال الإمام أحمد، فى رواية مهنا: "لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه، وهو أحب إلى من المقاطعة" يعنى أن يقاطعه على كيل معين، أو دراهم أو عروض. وكذلك نص فى رواية الأثرم وغيره، فى رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين: "أن ذلك جائز". وقال أحمد أيضاً: "لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع"، لحديث جابر: "أَنَّ النَّبَّى صلّى الله
(15/51)
ص -41- تعالى عليه وآله وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشّطْرِ". ونقل عنه أبو داود فيمن يعطى فرسه على النصف من الغنيمة: "أرجو أن لا يكون به بأس". وقال فى رواية إسحاق بن إبراهيم: "إذا كان على النصف والربع فهو جائز". ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه: "أنه جائز". ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها، وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز. ونص فى رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز. وقال فى "المغنى": وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها. وحكى عن ابن عقيل المنع منه. واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطّحَّانِ". قال الشيخ: وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته. وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل. وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها، والسمك بينهما نصفين.قال فى "المغنى": فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمك بينهما شركة. وقال ابن عقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها. ولو كان له على رجل مال، فقال لرجل: اقبضه منه، ولك ربعه، أو ثلثه، أو ما اقتضيته منه فلك منه الربع أو الثلث، فهو جائز
(15/52)
ص -42- وكذلك لو غصبت منه عين، فقال لرجل: خلصها لى، ولك نصفها، جاز أيضاً. ولو غرق متاعه فى البحر، فقال لرجل: ما خلصته منه، فلك نصفه، أو ربعه، جاز. ولو أبق عبده، فقال لرجل، أو قال: من رده على فله فيه نصفه، أو ربعه، أو شردت دابته فقال ذلك، صح ذلك كله. قلت: وكذلك يجوز أن يقول له: انقض لى هذا الزيتون بالسدس، أو الربع. أو اعصره بالثلث، أو الربع، أو اكسر هذا الحطب بالربع، أو اخبز هذا العجين بالربع، وما أشبه ذلك. فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله، وهو أحب من المقاطعة فى بعض الصور. ولم يجوز الشافعى وأبو حنيفة شيئاً من ذلك. وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعى ولك نصفه، فذلك جائز، وإن قال: احصد اليوم، فما حصدت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وفى العينية أنه يجوز. فإن قال: القط زيتونى فما لقطت فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سحنون أنه لا يجوز. ولو قال: انقض زيتونى، فما نقضت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب. فإن قال: اقبض لى المائة دينار التى على فلان، ولك عشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وهب. وعند أشهب لا يجوز. فلو قال: اقبض دينى الذى على فلان، ولك من كل عشرة واحد، ولم يبين قدر الدين، لم يجز عند ابن وهب. وأجازه ابن القاسم وأصبغ. والذين منعوا الجواز فى ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول، والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك. فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر. وقد دلت السنة على جواز ذلك، كما فى المسند والسنن عن رويفع بن ثابت، قال: "أنْ كانَ أَحَدُنَا فى زَمَنِ رَسُولِ الله
(15/53)
ص -43- صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أنّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصفُ، وَإَنْ كانَ أَحَدُنَا لَيَطيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرَّيشُ وللآخَرِ القِدْح". وأصل هذا كله: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وأجمع المسلمون على جواز المضاربة. وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه. فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها. فهذا محض القياس، وموجب الأدلة. وليس مع المانعين حجة، سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول. وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة. واستثنى قوم بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره. وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤاجرة، لأنه فى الإجارة يحصل
(15/54)
ص -44- على سلامة العوض قطعاً، والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر. وقاعدة العدل فى المعاوضات: أن يستوى المتعاقدان فى الرجاء والخوف. وهذا حاصل فى المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك، فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما، وإن تلفت عليهما، وهذا من أحسن العدل. واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبى سعيد الذى رواه الدارقطنى: "نُهِى عَنْ قَفِيزَ الطّحَّانِ" وهذا الحديث لا يصح. وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع. وحمله بعض أصحابنا على أن المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها، لأن ماعداه مجهول، فهو كبيعها إلا قفيزا منها، فأما إذا كانت معلومة القفزان، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها، صح حبا ودقيقاً. أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة. وأما إذا كان دقيقاً شاركه فى ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى. فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعروض؟ قيل: بل أصح الروايتين صحتها، وإن قلنا بالرواية الأخرى، فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض، لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف فى رقبة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا. فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا، أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجاً يتضمن محذورين. أحدهما: أن يكون طحن قدر الأجرة ونسجه مستحقاً على العامل بحكم الإجارة، ومستحقاً له بحكم كونه أجرة، وذلك متناقض. فإن كونه مستحقاً عليه يقتضى مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقاً له يقتضى مطالبة المؤجر به. الثانى: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه، وذلك ممتنع. قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة، وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سلم أنه
(15/55)
ص -45- من باب المؤاجرة فلا تناقض فى ذلك، فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه مستحق له بغير الجهة التى يستحق بها عليه، فأى محذور فى ذلك؟ وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضاً، فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين، وهذا أمر متصور شرعاً وحساً. فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق. وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك، إلا إذا خيف غدر أحدهما، وإبطاله للعقد، والرجوع إلى أجرة المثل. فالحيلة فى التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب، أو نصفه. ويقول: انسج لى باقيه بهذا القدر، فيصيران شريكين فى الغزل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه. والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فهلا أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار فى العقود إلا بمقاصدها وحقائقها [ومعانيها]، دون صورها وألفاظها؟ وبالله التوفيق. المثال الثانى والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه، وله هو دين ع | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:26 | |
| ص -50- حافظاً لدينه، ولا بدلا من الكتاب الشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه، ومن يجعل القول قول الراهن، فإنه يصدقه على ذلك ويقبل قوله فى رهن الربع والضيعة على هذا القدر. فالذى نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة. فإذا أراد الرجل حفظ حقه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب. فالحيلة فى قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويشهد الراهن أن الباقى من قيمته أمانة عنده، أو قرض فى ذمته يطالبه به متى شاء، فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه، ويأمن ظلم الآخر له، والله أعلم. المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، وفى يده رهن بالألف، فطالب صاحب الدين الغريم بالألف، وقدمه إلى الحاكم، وقال: لى على هذا ألف درهم، وخاف أن يقول: وله عندى رهن بالألف وهو كذا وكذا. فيقول الغريم: ماله على هذه الألف التى يدعيها، ولا شئ منها، وهذا الذى ادعى أنه لى رهن فى يده هو لى، كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وديعة، أو عارية، فيأخذه منه ويبطل حقه. فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يدعى بالألف، فيسأل الحاكم المطلوب عن المال، فإما أن يقر به، وإما أن ينكره، فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بيع فى وفائه. وإن أنكره وقال: ليس له على شئ، ولى عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة. فليقل صاحب الحق للقاضى: سله عن هذا الذى يدعى على: على أى وجه هو عندى؟ أعارية، أم غصب أم وديعة، أم رهن؟ فإن ادعى أنه فى يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه، وكان صادقاً، وإن ادعى أنه فى يده على وجه الرهن، قال للقاضى: سله: على كم هو رهن؟ فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين، وطالب بحقه. وإن جحد بعضه حلف على نفى ما ادعاه، وكان صادقاً. المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها، أو أجره دارا ولم يتسلمها،
(15/63)
أو زوِّجه ابنته ولم يسلِّمها إليه. ثم ادعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكر أن يستحلفه، أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود، وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به.
(15/64)
ص -51- فالحيلة فى تخلصه: أن يقول فى الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إلى، أو نكاح امرأة لم تسلمها إلى، أو كانت المرأة هى التى ادَّعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمى إلى نفسك فيه، ولم تمكنينى من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به. وإن كان غير ذلك فلا أقر به. وهذا جواب صحيح يتخلص به. فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فله على ألف. قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط فى الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله على ألف، فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان على بما ادعاه صدقته، صح التعليق. فإذا شهد به عليه فلان كان مقراً به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما فى تعليق الطلاق والعتاق والخلع. وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه، وكان إقراراً ناجزاً. وهذا ضعيف جداً، فإن الكلام بآخره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة، فإن ذلك يغير الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص. والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة. وقد جاء تأخير الشرط فى القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار. كقوله تعالى، حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْناَ فِى مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89]. وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له على ألف درهم إذا جاء رأس الشهر: أنه يصح، وجها واحداً. وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار. وعلى هذا فلو قال: له على ألف مؤجلة، صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلاً. وقيل: القول قول خصمه فى حلوله، وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لحلوله وهذا ظاهر البطلان، فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقاً، كما لو وصفها بنقد غير
(15/65)
النقد الغالب، أو استثنى منها شيئاً.
(15/66)
ص -52- وكذلك لو قال: له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو أجرة عن دار لم أتسلمها، أو قال: هلك قبل التمكن من قبضه، على أصح الوجهين، لأنه إنما أقر به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقاً. وكذا لو قال: كان له على ألف فقصيته، لم يلزمه، لأنه إنما أقر به فى الماضى، لا فى الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض فى نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له على ألف لا تلزمنى. والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان. وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه، فلا يقبل منه إلا ببينة. وهذا قول الأئمة الثلاثة. وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب. وعلى هذا، فإذا قال: له على ألف قضيته إياه. ففيه ثلاث روايات منصوصات. إحداهن: أنه غير مقر، كما لو قال: كان له على. والثانية: أنه مقر مدع للقضاء، فلا يقبل منه إلا ببينة. والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينة. بل يكون مكذبا لها، وعلى هذا إذا قال: كان له على، ولم يزد على هذا فهو مقر. وخرج أنه غير مقر من نصه، على أنه إذا قال: كان له على وقضيته: أنه غير مقر، وهو تخريج فى غاية الصحة، فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته. فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضى، لا عن الحال، فلا يلزم بكونه فى ذمته فى الحال، وهو لم يقربه. والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلوماً، فالحيلة فى تخلصه، أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا، فأنا غير مقر به، وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به، كان جواباً صحيحاً، ولم يكن مقراً على الإطلاق. المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يجبر على تسليمه إلى المشترى، ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا فى المبتدئ بالتسليم، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وإن كان ديناً أجبر البائع على التسليم، ثم يجبر
(15/67)
ص -53- المشترى على دفع الثمن. فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه فى ماله كله حتى يسلم الثمن. وإن كان غائباً عن البلد فوق مسافة القصر، ثبت للبائع الفسخ. وإن كان دونها، فهل يحجر عليه، أو يثبت للبائع الفسخ؟ على وجهين. وإن كان المشترى معسراً، فللبائع الفسخ والرجوع فى عين ماله. هذا منصوص أحمد، والشافعى. وللشافعية وجه: أنه تباع السلعة، ويقضى دينه من ثمنها. فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شئ استقر فى ذمته. والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو موجب العدل، وإلا ففى تمكين المشترى من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع، فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاماً أو شراباً فيستهلكه، ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه. وعلى هذا، لو دفع الثمن إلا درهما منه، فله حبس المبيع كله على باقى الثمن، كما نقول فى الرهن. وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن، لأن كل جزء من المبيع فى مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلم بعض الثمن ملك تسليم ما يقابله. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين. وإنما هو وثيقة، فملك حبسه إلى أن يستوفى جميع الدين. والأول هو الصحيح، لأنه إنما رضى بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن، ولم يرض بإخراجه، ولا إخراج شئ منه ببعض الثمن. فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم، ثم يحال على تقاضى المشترى. فالحيلة له فى الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضمين فى عقد البيع، ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه فى أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رهنه على ثمنه أولى. فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى. وأيضاً. فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبى
(15/68)
قبل القبض، فجوازه من البائع أولى.
(15/69)
ص -54- لأن المشترى يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها مالا يملكه مع الأجنبى، ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبى. فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنا يقتضى أن يكون من ضمان راهنه، فتنافى الأمران، حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة. وهذا بخلاف رهنه من أجنبى قبل القبض. فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبى ومضمونا له من البائع، ولا تنافى بين أن يكون مضمونا له من شخص، ومضمونا عليه لغيره. كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر، صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثانى، ومضمونة له من المؤجر الأول. وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشترى بيعها، وهى مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشترى الثانى. فإن قيل: هذا هو الفرق الذى بنى عليه هذا القول، ولكن يقال: أى محذور فى ذلك، وأن يكون مضمونا له وعليه؟ وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك، فإنه مضمون له من جهة كونه مشترياً، فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه، ومضموناً عليه من جهة كونه راهنا، فإذا تلف تلف من ضمانه، حتى لو اتحدت الجهة لم يكن فى ذلك محذور بحيث يكون مضموناً له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأى محذرو فى ذلك؟ فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمن ضمان من يكون؟ فالبائع يقول للمشترى: يتلف من ضمانك، لأنه رهن. والمشترى يقول: يتلف من ضمانك، لأنه مبيع لم يقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر. قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع، لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن، لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه، فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه، كما لو حبس من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم، فإنه إنما احتاط لنفسه
(15/70)
ص -55- بعقد الرهن، والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن فى مقابلته، فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذى أخذه فى مقابلة الرهن. فإن أراد الحيلة فى تصحيح الرهن والوثيقة، وأن لا يعرضه للبطلان. فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، تم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالى هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشترى، ولا يسقط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشترى، أو يؤخر فكاك الرهن، كتب كتاباً وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له فى بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقى منه فهو أمانة فى يده. فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط. كتب فى الكتاب: أنه قد وكله الآن، ويعلق تصرفه فيه بالبيع بمجيء الوقت فيعلق التصرف، وينجز التوكيل. فإن خاف أن يعز له الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه. فالحيلة له: أن يوكل وكالة دورية، عند من يرى ذلك، فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته، وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أنى متى عزلته فلا حق لى عنده ولا دعوى، وما ادّعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواى باطلة، والله أعلم. المثال الثمانون: إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينفق عليها، ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة، والحس والعرف يكذبها، لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها، ولا يطالبه برد الجواب، فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة. وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُدَّعى دَعْوًى كَاذِبَةًَ لِيَتَكثَّرِ بهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلا قِلةً". وفى الصحيح أيضاً عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُدّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَا
(15/71)
ص -56- وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". فلا يجوز لأحد. حاكم ولا غيره، أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له، وأن دعواه كاذبة، ففى سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة. ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة: أنها هى التى كانت تنفق على نفسها، وتكسو نفسها هذه المدة كلها، مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها؟ ولا يقبل قول الزوج: أنه هو الذى كان ينفق عليها ويكسوها، مع شهادة العرف والعادة له، ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة، وغير ذلك. فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة، ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك؟ وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل، والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد؟. ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشترى لها ما يقوم بمصالحها، أو يتصدى هو لخدمتها، وشراء حوائجها، فيكون هو العانى الأسير المملوك، وهى المالكة الحاكمة عليه. وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح: من الألفة والمودة، والمعاشرة بالمعروف. فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة، وأبعدها من المعروف. ثم من العجب: أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده، فقال الزوج للحاكم: سلها: من أين كانت تأكل، وتشرب، وتلبس؟ فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك!!. فيالله العجب: إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج، ولا يمكن الزوج أحداً يدخل عليها، وهى فى منزله عدد سنين، تأكل، وتشرب، وتلبس، كيف لا يسألها الحاكم: من الذى كان يقوم لك بذلك؟ فمتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك. ومتى تركه كان تاركاً
(15/72)
ص -57- للحق؟ فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك، وإن قالت: أنا الذى كنت أطعم نفسى وأكسوها فى هذه المدة، كان كذبها معلوماً، ولم يقبل قولها، فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج، وهى تدعى أنها هى التى قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها، وهو ويدعى أنه هو الذى فعل هذا الواجب، وقام به، وأسقطه عن نفسه، ومعه الظاهر والأصل. أما الظاهر: فلا يمكن عاقلاً أن يكابر فيه، بل هو ظاهر ظهوراً قريبا من القطع بل يقطع به فى حق أكثر الناس. وأما الأصل: فهو أيضاً من جانب الزوج. فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها، وهى تضيف ذلك إلى نفسها، أو إلى أجنبى، وهو يدعى أنه هو الذى قام بهذا الواجب، فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها، وهى تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك. وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة، بل بطريق الأصالة. وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة، فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل. ونظيره: أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه، ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين. فيقول: وصل إلى الدين الذى لى، لكن ليس من جهتك، بل غيرك أداه عنك. فهل يقبل قوله هاهنا أحد؟ ويقال: الأصل بقاء الدين فى ذمته؟. وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء، فإنها مقرة بوصول النفقة إليها، ولو أنكرتها لكذبها الحس، ومدعية أن وصول ذلك إلى لم يكن من جهتك، فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعاً. ولهذا لا يقبلها مالك، وفقهاء أهل المدينة، وقولهم هو الصواب والحق الذى ندين الله به، ولا نعتقد سواه. وأى قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهى لا تدخل ولا تخرج، ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة، فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التى ادعت ترك الإنفاق فيها، وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه. فيؤخذ
(15/73)
ص -58- ذلك كله منه، ويحبس على الباقى، ويجعل دينا مستقراً فى ذمته، تطالبه به متى شاءت. وهى تعلم كذب دعواها، ووليها يعلم ذلك، وجيرانها والله وملائكته، والذى يساعدها ويخاصم عنها. ولما علم فقهاء العراق، كأبى حنيفة وأصحابه، ما فى ذلك من الشر والفساد، والضرر الذى لا تأتى به شريعة. أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضى الزمان. فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك. كما يقوله منازعوهم فى نفقة القريب، فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول، وأشموهم رائحة الحياة، ونفسوا عنهم بعض الكرب. ولقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشراً بالمدينة، فما ألزم زوجاً قط بنفقة وكسوة ماضية، ولا ادعتها عنده امرأة. وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك عصر الصحابة جميعهم، وعصر التابعين، ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك. ولا على صداق امرأته، مع صيانة نسائهم، ولزومهن بيوتهن، وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن فى الأسواق والطرقات. والأزواج فى الحبوس، وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن. فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه، ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره. وبالجملة فالدعوى، إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها. ومن هاهنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجل حائزاً لدار، متصرفا فيها مدة السنين الطويلة، بالبناء والهدم، والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقاً ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرف فى الدار قرابة، ولا شركة فى ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو
(15/74)
الصهر بينهم فى إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريّاً عن ذلك كله، ثم جاء بعد طول هذه المدة
(15/75)
ص -59- يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بذلك بينة. فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينة، وتقر الدار بيد حائزها. قالوا: لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة، غير مسموعة قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]. وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف فى الدعاوى وغيرها. قلت: ومما يدل على ذلك: أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين، أو شاهد ويمين، أو مجرد النكول، أو الرد. وأيضاً، فإن البينة على المدعى، والبينة هى كل ما يبين الحق، والعرف والعادة والظاهر القوى الذى إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع، يدل على صدق الزوج، وكذب المرأة فى إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة، ولا يدخل عليها أحد، ولا هى ممن تخرج تشترى لها ما تأكل وتلبس. فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر، وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذى عليها بالمعروف، وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها، واجتياح ماله كله، وسلبه نعمة الله عليه، وجعله مسكينا ذا متربة، وجعله أسيراً لها، ينافى ما ادعت به، بل هذا من أنكر المنكر، ومما يراه المسلمون، بل وغير المسلمين، قبيحاً. وأيضاً: فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته، كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته، فالشارع جعل إليه ذلك، وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه، وجعلها الله سبحانه فى ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه، كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]. قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذى خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك فى كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج
(15/76)
قوامين عليهم، كما جعل ولى الطفل قواماً عليه والقوام على غيره أمين عليه. ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد
(15/77)
ص -60- البلوغ فى عدم إيصال النفقة إليهما، فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء، ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواماً على المرأة. فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج، كانت هى القوامة. وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية، حتى فى مالها، فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لمالها ونفسها، فليس لها أن تتصرف فى ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه، وقد سوى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين نفقة الزوجات، ونفقة المماليك، وجعل المرأة عانية عند الزوج، والعانى: هو الأسير، وهو نوع من الرق، فقال فى المرأة: "تُطْعِمُهَا مِمَّا تَأْكُلُ، وَتَكْسُوهَا مِمَّا تَلبَسُ". وكذلك قال فى الرقيق سواء، فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه، وأولاده، بحكم قيامه عليهم، ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاماً وإداما، ولا دراهم أصلا، وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف، وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة، ولا إجماع.
(15/78)
ص -61- وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم، لا أصل له من كتاب، ولا سنة، ولا قول صحابى ولا تابعى، ولا أحد من الأئمة الأربعة. فإن الناس لهم قولان، منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعى، ومنهم من يردها إلى العرف، وهم الجمهور، ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتّة. ثم أن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج، ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب، أو الواجب بالعرف، ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا، ولأقوال جميع السلف والأئمة، وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله. فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشترى لها طعاماً وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان، وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج، وجعله كالأجير والأسير معها. وبالجملة: فمبنى الحكم فى الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة. أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهراً فهو بينة، وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص، وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق. فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه، حيث لا بينة ولا إقرار، ولا نكول، ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية. فإذا كان فى جانب المدعى بينة شرعية قدم، لقوة الظن فى جانبه بالبينة. وكذلك إذا كان فى جانبه قرينة ظاهرةٌ، كاللوث قدم جانبه. ولذلك قدم جانبه فى اللعان، إذا نكلت المرأة، فإنها ترجم بأيمانه. لقوة الظن فى جانبه بإقدامه على اللعان، مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين.
(15/79)
ص -62- وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التى تزف إلى الزوج ليلة العُرْس، وإن لم يكن رآها، ولا وُصفَتْ له، من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هى امرأته التى وقع عليها العقد، اكتفاء بالظن الغالب، بالقطع المستفاد من شاهد الحال. وكذلك يجوز الأكل من الهدْى المنحور إذا كان بالفلاة، ولا أحد عنده، اكتفاء بشاهدِ الحال. وكذلك دَرَجَ السلفُ والخلف على جوازِ أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبى ويخرجه من البيت: من كِسرةٍ ونحوها، اعتماداً على شاهدِ الحال. وكذلك يُكتفَى بشاهدِ الحال فى بيع المحقَّرات بالمعاطاة. وهو عمل الأمة قديماً وحديثا. واكتفى الشارع بسكوت البكر فى الاستئذان، وجعله دليلاً على رضاها، اكتفاء بشاهد الحال. واكتفت الأمة فى الاعتماد على المعاملات، والهدايا، والتبرعات، بكونها بيد الباذل، لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهراً. واكتفتْ بمعاملة مجهول الحرية والرشد، وإقراره، وأكل طعامه، وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله، اعتماداً على شاهد الحال والظن الغالب. واكتفى الشارعُ بقول الخارص. الواحد فى محل الظن، والخرْصِ، نظراً إلى الظن المستفاد من خرصه. واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل، اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم. وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين فى جزاء الصيد. واكتفى بواحد فى الخرْص
(15/80)
ص -63- واكتفى بواحد فى رؤية هلال رمضان. واكتفت الأمة بقول القاسم وحده، أو بقول اثنين، وكذلك القائف، أو القائفين. واكتفت بقول المؤذن الواحد. وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير، وميل طبعه إلى من ادعاه، من رجلين أو أكثر، اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه، وهو من أضعف الظنون، ولذلك كان فى آخر رتب الإلحاق عندهم، عند عدم القائف. وكذلك الاعتماد فى وجوب دفع اللقطة، أو جوازه، على الظن المستفاد من وصف الواصف لها. وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة، والنجاسة. والقبلة، والاعتماد على قول الكيال والوزان. وقال كثير من الفقهاء: يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين، إلا أن يعدلا، إذ الغالب من المستورين العدالة. فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم يمثل هذا الظن. وقالوا: تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره، اعتماداً على ظن الرشد والاختيار. وقالوا: إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعى، أو بين ملكه وبين موات، اختص به المدعى، لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما. وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالاً بدواخل وترصيف، اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه، إذ معه دلالتان، إحداهما: الاتصال. والثانية: التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه فى ملك أحدهما، ومن الطرف الآخر فى الملك الأخر اشتراكاً فيه: لتساويهما فى الدلالتين.
(15/81)
ص -64- وقالوا: إن الأبواب المشرعة فى الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك فى الدرب إلى حد كل باب منها، فيكون الأول شريكاً من أول الدرب إلى بابه، والثانى شريكاً إلى بابه، والذى فى آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه، قولاً واحداً، وإلى آخر الدرب على الصحيح، وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق، وأنه بحق. وقالوا: إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتماداً على غلبة الظن بذلك، وأنها وضعت باستحقاق. وكذلك القنوات، والجداول الجارية فى ملك الغير، دالة على اختصاصها بأرباب المياه، بناء على الظن المستفاد من ذلك، وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق. ومن ذلك: دلالة الأيدى على الاستحقاق، اعتمادا على الظن الغالب، مع القطع بكثرة وضع الأيدى عدوانا وظلماً، ولا سيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه، إلى يد مستأجره، كالأراضى والدواب، والحوانيت، والرباع، والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها، وقد اعتبرتم اليد، وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا، واعترف بأن جوابه مشكل جداً، ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها. ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها. ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة فى الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة. قالوا: لأن وازع المقر طبعى، ووازع الشهود شرعى، والوازع الطبعى أقوى من الوازع الشرعى، ولذلك يقبل الإقرار من المسلم، والكافر، والبر، والفاجر: لقيام الوازع الطبعى. ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه، لكونه فرعه. ولما كان الوازع الشرعى عاماً بالنسبة إلى جميع الناس، كان حجة عامة: فإن خوف
(15/82)
ص -65- الله يزع الشاهد عن الكذب فى حق كل أحد. فكان قوله حجة عامة لكل أحد. ولما كان وازع الكذب مختصاً بالمقر قصر عليه، فهو خاص قوى، والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدى وإلى ما ذكرناه من الدلالات. ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها. فمن أسبابها: الاستصحاب واطراد العادة، أو كثرة وقوعها، أو قول الشاهد، أو شاهد الحال. ولا يقع فى الظنون تعارض، وإنما يقع فى أسبابها وعلاماتها. فإذا تعارضت أسباب الظنون، فإن حصل الشك لم يحكم بشئ، وإن وجد الظن فى أحد الطرفين، حكم به، والحكم للراجح. لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه. فإذا تعارض سببا ظن- وكان كل واحد منهما مكذباً للآخر- تساقطاً: كتعارض البينتين والأمارتين، وإن لم يكن كل واحد منهما مكذباً للآخر عمل بهما، على حسب الإمكان، كدابة عليها راكبان، وعبد ممسك بيديه اثنان، ودار فيها ساكنان، وخشبة لها حاملان، وجدار متصل بملكين، ونظائر هذا. فإن كان أحدهما أرجح من الآخر، عمل بالراجح، كالشاهد مع البراءة الأصلية، ومع اليد، يقدم عليهما، لرجحانه. ولما كانت اليد لها مراتب فى القوة والضعف. كانت يد اللابس لثيابه، وعمامته، وخفه، ومنطقته، ونعله: أقوى من يد الجالس على البساط، والراكب على الدابة، ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد، ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدى، ويد من هو داخل الحمام والخان، أضعف من هذا كله- قدم أقوى الأيدى على أضعفها. فلو كان فى الدار اثنان، وتنازعا فيها، وفى لباسهما الذى عليهما، جعلت الدار بينهما، لاستوائهما فى اليد. وكان القول قول كل منهما فى لباسه المختص به، لقوة يده بالقرب والاتصال. ولو تنازع الراكب والسائق والقائد، قدمت يد الراكب. وكذلك قال الجمهور.
(15/83)
ص -66- ولو تنازع الزوجان فى متاع البيت، أو الصانعان فى حانوت، كان القول قول من يدعى منهما ما يصلح له وحده، لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به. وكذلك لو رأينا رجلا شريفاً حاسر الرأس، وأمامه داعر على رأسه عمامة، وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب. فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه. وكذلك فقيه له كتب فى داره. وامرأته غير معروفة بشئ من ذلك البتة. فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه فى غاية البعد. وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول، ومن الظن المستفاد من اليد؟ بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين؟. ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون، ولا يرتبها على الظنون التى هى أقوى منها بمراتب كثيرة. بل تكاد تقرب من القطع. كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين، ويبيح شتمهما وضربهما. وهل تقديم قول المدعى فى القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث؟ وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصلية لقوته. وقد حكى الله سبحانه فى كتابه عن الشاهد الذى شهد من أهل امرأة العزيز. وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام. وكذب المرأة بقوله: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرِ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 - 28]. وسمى الله سبحانه ذلك أية، وهى أبلغ من البينة، فقال: {ثُمَّ بِدِا لهَمُ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ليسجُنَنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]. وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به. ومن هذا: حكم نبى الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذى تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا
(15/84)
على سليمان، فقصتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائتونى بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبى الله، هو ابنها. فقضى به
(15/85)
ص -67- للصغرى، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحاً منها إلى راحة التسلى والتأسى بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطب نفس الصغرى بذلك، بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحاً إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيا، وإن اتصل إلى الأخرى. وتأمل حكم سليمان به للصغرى، وقد أقرت به للكبرى تجد تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه، وبطلانه، لم يلتفت إليه، ولم يحكم به على المقر، وكان وجوده كعدمه. وهذا هو الحق الذى لا يجوز الحكم بغيره. وكذلك إذا غلط المقر، أو أخطأ أو نسى، أو أقر بما لا يعرف مضمونه. لم يؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقر مكرها. والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين، لكون الحلف لم يقصد موجبها. وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئ والناسى والجاهل والمكره، لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه، فلا يؤاخذ به. والمقصود: أن الزوج المظلوم المدعى عليه دعوى كاذبة ظالمة: بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها، أو مدة مقامها عنده، إذا تبين كذب المرأة فى دعواها، لم يجز للحاكم سماعها فضلاً عن مطالبته برد الجواب. فله طرق فى التخلص من هذه الدعوى. أحدها: أن يقول: كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف، ومشاهدة الجيران؟. الثانى: أن يقول للحاكم: سلها: من كان ينفق عليها، ويكسوها فى هذه المدة؟.
(15/86)
ص -68- فإن ادعت أن غيره كان يؤدى ذلك عنه، لم تسمع دعواها، وكانت الدعوى لذلك الغير. ولا يقبل قولها على الزوج إن غيره قام بهذا الواجب عنه. وهذا مما لا خفاء به، ولا إشكال فيه. وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسى. قال الزوج: سلها: هل كانت هى التى كانت تدخل وتخرج تشترى الطعام والإدام؟ فإن قالت: نعم، ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار. وإن قالت: كنت أوكل غيرى فى ذلك، ألزمت ببيانه، وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها. وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان. فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحرٍّ للحق لا تأخذه فيه لومة لائم، فليعدل إلى التحيُّل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبة، إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به، ولا يعدل إلى الجواب المفصل، فتحتاج هى إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق. وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك. فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة، فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره، جحد تسليمها إليه، والقول قوله إذا لم تكن معه فى منزله. فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة، وأمكنه إقامة البينة بذلك، سقطت نفقتها فى مدة النشوز. وإن لم يمكنه إقامة البينة، وادعى عدم تمكينها له من الوطء، وادعت أنها مكنته فالقول قوله، لأن الأصل عدم التمكين، وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان، والأصل عدمه، وهذا إنكار لاستيفاء حقه، والأصل عدمه فتأمله. فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار. ومتى أحس بالشر والمكر احتال، بأن يخبئ شاهدى عدل، بحيث يسمعان كلامها، ولا تراهما، ثم يدفع إليها مالا، أو ترضى به، ويتلطف بها، ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه فى حل حتى تطيب أنفسنا، ولعل الموت يأتى بغتة، ونحو ذلك من الكلام. وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة، وأنه
(15/87)
ص -69- يرضيها من الآن، ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى. ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك، ويكتمه منها. فإن أعجله الأمر عن ذلك، وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكى، أو حنفى بادر إلى ذلك. وبالجملة فالحازم من يستعد لحيلهن، ويعد لها حيلا يتخلص بها منها، وهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، ولا فى تعليمه، فإن فيه تخليص المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإخزاء الظالم المعتدى. والله الموفق للصواب. وإنما أطلنا الكلام فى هذا المثال، لشدة حاجة الناس إلى ذلك، ولعموم البلوى، وكثرة الفجور، وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها، وجعل القول قولها، وفى ذلك كفاية، وإلا فهى تحتمل أكثر من ذلك. فصل والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها، مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهله للأمة عن الدخول فى الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طرق المكر والخداع، والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار، بما هو أنفع لنا منه من الحق، والمباح النافع. فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام. وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار. وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع، والتسرَّى بما شئنا من الإماء، عن الزنا والفواحش. وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة، النافعة للقلب والبدن، عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين. وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة: من الكتان، والقطن، والصوف، عن الملابس
(15/88)
ص -70- المحرمة من الحرير والذهب. وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن. وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام، طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التى هى توحيد وتفويض واستعانة وتوكل. وأغنانا عن طلب التنافس فى الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس فى الآخرة، وما أعد لنا فيها، وأباح الحسد فى ذلك. وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها. وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته، وهما القرآن والإيمان، عن الفرح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع، والعقار، والأثمان، فقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى، وإظهار الفخر والخيلاء لهم، عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم، فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن رآه يتبختر بين الصفين: "إِنّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ إِلا فى مِثْلِ هذَا المَوْطِنِ". وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التى تأثيرها فى الغضب على أعدائه ونصرة دينه، عن الفروسية الشيطانية التى يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية.
(15/89)
ص -71- وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف، عن الخلوة البدعية التى يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة. وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال. فلا تشتد حاجة الأمة إلى شئ إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يقتضى إباحته وتوسعته، بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه، ولا هذا. كما أغنانا بالبراهين والآيات التى أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة، التى باطلها أضعاف حقها: من الطرق الكلامية، التى الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل. ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التى تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه. وندب إليها، لما فيها من التوسعة، والفرج للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين. وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنّةِ إلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَلا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُبْعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إلا هَالِكٌ". فهلا ندب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الحيل، وحض عليها، كما حض على إصلاح ذات البين؟ بل لم يزل يحذر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل. ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التى رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء، ولا رتب عليها العقوبة، ولا سد الذرائع إليها. ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة فى غلقها وسدها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى ينقب المحتال عليها من كل
(15/90)
ناحية.فهذا مما تصان عنه الشرائع، فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا.
(15/91)
ص -72- وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها، بل تقوى وتشتد مفاسدها. فصل إذا عرف هذا. فالطرق التى تتضمن نفع المسلمين، والذب عن الدين، ونصر المظلومين، وإغاثة الملهوفين، ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق، من أنفع الطرق، وأجلها علماً وعملاً وتعليما. فيجوز للرجل أن يظهر قولاً أو فعلاً مقصوده به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كان فيه مصلحة دينية، مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم، أو معاهد، أو نصرة حق، أو إبطال باطل، من حيلة محرمة، أو غيرها، أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله. فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة، أو واجبة. وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له، فيصير مخادعاً له، فهذا مخادع لله ورسوله، وذلك مخادع للكفار والفجار، والظلمة، وأرباب المكر والاحتيال.فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، فأين من قصده إظهار دين الله تعالى، ونصر المظلوم، وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك؟. إذا عرف هذا، فنقول: الحيل أقسام: أحدها: الطرق الخفية التى يتوصل بها إلى ما هو محرم فى نفسه، فمتى كان المقصود بها محرماً فى نفسه، فهى حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجر ظالم آثم. وذلك كالتحيل على هلاك النفوس. وأخذ الأموال المعصومة، وفساد ذات البين، وحيل الشياطين على إغواء بنى آدم، وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق، وإظهار الباطل فى الخصومات الدينية والدنيوية. فكل ما هو محرم فى نفسه، فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية، بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما، وأكبر عقوبة، فإن
(15/92) | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:27 | |
| ص -73- أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر، ولا يمكنه الاحتراز عنه، ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس. ومن هذا: رأى مالك ومن وافقه: أن القاتل غيلة يقتل، وإن قتل من لا يكافئه، لمفسدة فعله، وعدم إمكان التحرز منه. ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير: قطع يد الزُّغلى، لعظم ضرره على الأموال، وعدم إمكان التحرز منه، فهو أولى بالقطع من السارق، وقوله قوى جداً. ومن هذا رأى الأمام أحمد قطع يد جاحد العارية، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذى ائتمنه. والعمدة فى ذلك على السنة الصحيحة التى لا معارض لها. والقصد: أن التوصل إلى الحرام حرام، سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر. وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين: أحدهما: ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص، والظلمة والخونة. والثانى: ما لا يظهر ذلك فيه، بل يظهر المحتال أن قصده الخير، ومقصوده الظلم والبغى، مثل إقرار المريض لوارث لا شئ له عنده، قصداً لتخصيصه بالمقرَّ به، أو إقراره بوارث، وهو غير وارث، إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة، وتعليمه لمن يفعله حرام، والشهادة عليه حرام، إذا علم الشاهد صورة الحال. والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين. إذا علم صورة الحال، فهذه الحيلة فى نفسها محرمة، لأنها كذب وزور، والمقصود بها محرم، لكونه ظلما وعدواناً. ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء فى إقرار المريض لوارث، هل هو باطل، سدا للذريعة، وردا للإقرار الذى صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه، لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم، فيرد للتهمة، كالشهادة على غيره، أو هو مقبول، إحسانا للظن بالمقر، ولا سيما عند الخاتمة؟. ومن هذا الباب: احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج، مع إمساكه بالمعروف، بإنكارها الإذن للولى، أو إساءة عشرة الزوج، ونحو ذلك.
(15/93)
ص -74- واحتيال البائع على فسخ البيع، بدعواه أنه كان محجوراً عليه. واحتيال المشترى على الفسخ بأنه لم ير المبيع. واحتيال المؤجر على المستأجر فى فسخ الإجارة. أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره. واحتيال الراهن على المرتهن فى فسخ الرهن، بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن، أو كان رهنه عند زوجته، أو أمته، ونحو ذلك. فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم، وهو من أقبح المحرمات، وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام، وأنه فى نفسه معصية، لتضمنه الكذب والزور. ومن جهة تضمنه إبطال الحق، وإثبات الباطل. القسم الثالث: ما هو مباح فى نفسه، لكن بقصد المحرم صار حراماً، كالسفر لقطع الطريق، ونحو ذلك، فهاهنا المقصود حرام، والوسيلة فى نفسها غير محرمة، لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما. القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حق، أو دفع باطل، لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة. مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه، ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه. فهذا محرم أيضاً، وهو عند الله تعالى عظيم، لأن الشاهدين يشهدان بالزور، وشهادة الزور من الكبائر. وقد حملهما على ذلك. وكذلك لو كان له عند رجل دين فيجحده إياه. وله عنده وديعة فجحد الوديعة، وحلف أنه لم يودعه، أو كان له على رجل دين لا بينة له به. ودين آخر به بينه، لكنه اقتضاه منه، فيدعى هذا الدين. ويقيم به بينة. وينكر الاستيفاء. أو يكون قد اشترى منه شيئاً، فظهر به عيب تلف المبيع به، فادعى عليه بثمنه، فأنكر أصل العقد. وأنه لم يشتر منه شيئاً، أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة. فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا، فجحد نكاحها بالكلية. فهذا حرام أيضاً لأنه كذب. ولاسيما إن حلف عليه. ولكن لو تأول فى يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم.
(15/94)
ص -75- فإن قيل: فما تقولون لو عامله معاملة ربا، فقبض رأس ماله، ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة، هل يسوغُ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها؟. قيل: يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها، وأن دعواها دعوى باطلة، فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل فى اليمين، لأنه مظلوم، ولا يسوغُ له الإنكارُ والحلف من غير تأويل، لأنه كذب صريح. فليس له أن يقابل الفجور بمثله، كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه، أو يقذف من قذفه، أو يَفجُر بزوجةِ من فَجَر بزوجته، أو بابنة من فَجر بابْنته. فإن قيل: فما تقولون فى مسألة الظفر؟ هل هى من هذا الباب، أو من القصاص المباح؟. قيل: قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال: أحدها: أنها من هذا الباب، وأنه ليس له أن يخون من خانه. ولا يجحد من جحده. ولا يغصب من غصبه. وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك. والثانى: يجوز له أن يَسْتَوْفى قدر حقه، إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه. وفى غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفى ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشافعى. والثالث: يجوز له أن يستوفى قدر حقه، إذا ظفر بجنس ماله. وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبى حنيفة. والرابع: أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذا إحدى الروايتين عن مالك. والخامس: أنه إن كان سبب الحق ظاهراً، كالنكاح، والقرابة، وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهند. "أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبى سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِى بَنِيهَا". وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يُضيَفِّوه أن يُعْقِبَهم
(15/95)
ص -76- فى مالهم بمثل قِراه كما فى الصحيحين عن عُقْبة بن عامر قال: "قُلْتُ لِلنَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم: إنّكَ تَبْعَثَنُا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لا يُقْرُونَا فمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمِرُوا لَكُمْ بَما يَنْبَغِى لِضيَّفِ فَاقْبَلْوا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيُفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُمْ". وفى المسند من حديث المقْدام أبى كريمة أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يُقْرُوهُ فله أَنْ يُعْقِبَهُمْ بمِثْلِ قِرَاهُ". وفى المسند لأحمد أيضاً من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فأَصْبَحَ الضّيْفُ مَحْرُوماً، فَلهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلا حَرَجَ عَلَيْهِ". وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهراً، لم يكن له
(15/96)
ص -77- الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان فى الباطن آخذا حقه. كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التى تُسلط الناس على عرضه، وإن ادَّعى أنه محق غير متهم. وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى أبو داود فى سننه من حديث يوسف بن ماهك قال: "كنت أكتب لفلان نفقه أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذى ذهبوا به منك، قال: لا حَدّثَنى أَبى أَنّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ يَقُولُ: "أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ اُئْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ". وهذا، وإن كان فى حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر، وهو حديث طلْق بن غنام: أخبرنا شريك وقيس عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" وقيس هو ابن الربيع، وشريك ثقة، وقد قوى حديثه بمتابعة قيس له، وإن كان فيه ضعف. وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبى التياح عن أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نحوه، وأيوب بن سويد - وإن كان فيه ضعف - فحديثه يصلح للاستشهاد به. وله شاهد آخر، وإن كان فيه ضعف، فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه. رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبى حفص الدمشقى عن مكحول: أن رجلا قال لأبى أمامة الباهلى: "الرَّجُلُ أَسْتَوْدِعُهُ الوَدِيعَةَ، أَوْ يَكُونُ لِى عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجْحَدُنِى، ثُمَّ يَسْتَوْدِعُنِى أو يَكُونَ لَهُ عِنْدِى الشيء، أَفأَجْحَدُهُ؟ فَقَالَ: لا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يقُولُ: أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ". وله شاهد آخر مرسل. قال يحيى بن أيوب: عن
(15/97)
ابن جريج عن الحسن عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ". وله شاهد. آخر. وهو ما رواه الترمذى من حديث مالك بن نضله قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،
(15/98)
ص -78- الرَّجُلُ أَمُرُّ بهِ فَلا يُقْرِينِى، وَلا يُضَيِّفُنِى. فَيَمُرُّ بى، أفأَجْزيهِ؟ قَالَ: لا، أَقْرِهِ". قال الترمذى: هذا الحديث حسن صحيح. وله شاهد آخر. وهو ما رواه أبو داود من حديث بِشر بن الخصاصية، قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أهْلَ الصّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: لا". وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضاً: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا جِيرَاناً لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذّةً، وَلا فَاذّةً إلا أَخَذُوهَا فإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَئ أَنأْخُذُهُ؟ فَقَالَ: أَدِّ الأمَانَة إلى مَنِ ائْتَمَنكَ وَلا تخُنْ مَنْ خَانَك". ذكره شيخنا فى كتاب إبطال التحليل. فهذه الآثار، مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها، يشد بعضها بعضاً، ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ فى الموضعين اللذين أباح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيهما الأخذ لظهور سبب الحق، فلا يُنسب الآخذ إلى الخيانة، ولا يتطرق إليه تهمة، ولتعسر الشكوى فى ذلك إلى الحاكم، وإثبات الحق والمطالبة به والذين جوزوه يقولون: إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة، لم يكن ذلك خيانة، فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه، وهذا ضعيف جداً، فإنه يبطل فائدة الحديث. فإنه قال: "ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ" فجعل مقابلته له خيانة، ونهاه عنها، فالحديث نص، بعد صحته. فإن قيل: فهلا جعلتموه مستوفياً لحقه بنفسه، إذ عجز عن استيفائه بالحاكم، كالمغصوب ماله. إذا رآه فى يد الغاصب، وقدر على أخذه منه قهراً؟ فهل تقولون: إنه لا يحل له أخذ عين ماله، وهو يشاهده فى يد الظالم المعتدى؟ ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه؟. وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها، وعقد عليها ظاهراً، بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه، خشية التهمة؟ وهذا لا تقولونه أنتم، ولا أحد من أهل
(15/99)
العلم. ولهذا قال الشافعى، وقد ذكر حديث هِنْدٍ: وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سراً، فقد دل أن ذلك ليس بخيانة. إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه.
(15/100)
ص -79- فالجواب: أنا نقول، يجوز له أن يستوفى قدر حقه، لكن بطريق مباح، فأما بخيانة وطريق محرمة فلا. وقولكم: ليس ذلك بخيانة قلنا: بل هو خيانة حقيقة، ولغة، وشرعاً، وقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خيانة، وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة، لا خيانة ابتداء، فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له، فإن تساوت الخيانتان قدراً وصفة فقد يتساقط إثمهما، والمطالبة فى الآخرة، أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقى لأحدهما فضل رجع به، فهذا فى أحكام الثواب والعقاب. وأما فى أحكام الدنيا فليس كذلك، لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر، وأما السرائر فإلى الله، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وأله وسلم: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَّى، وَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَقْضِى بِنَحْوِ مِا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَمنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيء مِنْ حَقَّ أَخِيهِ فَلا يأّخُذْهُ، فَإِنَما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". فأخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه يحكم بينهم بالظاهر، وأعلم المبطل فى نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به، وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار، فإذا كان الحق مع هذا الخصم فى الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به، ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى، فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه، ويستوفى لنفسه بطريق محرمة باطلة، لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقاً فى نفس الأمر؟. وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم، فخلصها منه قهراً، فإنه قد تعين حقه فى هذا العين، بخلاف صاحب الدين، فإن حقه لم يتعين فى تلك العين التى يريد أن يستوفى منها، ولأنه لا يتكتم بذلك، ولا يستخفى به، كما يفعل الخائن، بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه، ويستعين عليه بالناس،
(15/101)
فلا ينسب إلى خيانة، والأول متكتم مستخف، متصور بصورة خائن وسارق. فإلحاق أحدهما بالآخر باطل، والله أعلم.
(15/102)
ص -80- فصل القسم الخامس من الحيل. أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتى بسبب نصبه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود، فيجعله المحتال المخادع سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه. فهذه هى الحيل المحرمة التى ذمها السلف، وحرموا فعلها وتعليمها. وهذا حرام من جهتين: من جهة غايته، ومن جهة سببه. أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله، وإسقاط ما أوجبه. وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هزواً، وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، ولا قصده به الشارع، بل قصد ضده، فقد ضاد الشارع فى الغاية والحكمة والسبب جميعا. وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالاً من كثير من أصحاب هذا القسم، فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام، وإثم، ومعصية، ونحن أصحاب تحيل بالباطل، عصاة لله ورسوله، مخالفون لدينه. وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذى جاءت به الشريعة، وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه، وإسقاط ما أوجبه، فأين حال هؤلاء من حال أولئك؟. ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها، فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التى شرعت لها، بل لا غرض له فى مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهى عنه صرفاً، فأخرجه فى قالب الشرع. كما أخرجت الجهمية التعطيل فى قالب التنزيه. وأخرج المنافقون النفاق فى قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشى.
(15/103)
ص -81- وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان فى قالب السياسة وعقوبة الجناة. وأخرج المكاسون أكل المكوس فى قالب إعانة المجاهدين، وسد الثغور، وعمارة الحصون. وأخرج الروافض الإلحاد والكفر، والقدح فى سادات الصحابة وحزب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأوليائه وأنصاره، فى قالب محبة أهل البيت، والتعصب لهم، وموالاتهم. وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم فى قالب الفقر، والزهد، والأحوال، والمعارف، ومحبة الله، ونحو ذلك. وأخرجت الاتحادية أعظم الكفر والإلحاد فى قالب التوحيد، وأن الوجود واحد لا اثنان، وهو الله وحده، فليس هاهنا وجودان: خالق، ومخلوق ولا رب وعبد، بل الوجود كله واحد، وهو حقيقة الرب. وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات: أفعالها، وأعيانها، فى قالب العدل، وقالوا: لو كان الرب قادراً على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم، فأخرجوا تكذيبهم بالقدر فى قالب العدل. وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه فى قالب التوحيد، وقالوا: لو كان له سبحانه سمع وبصر، وقدرة، وحياة، وإرادة، وكلام يقوم به لم يكن واحداً وكان آلهة متعددة. وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان فى قالب الرجاء وحسن الظن بالله تعالى، وعدم إساءة الظن بعفوه، وقالوا: تجنب المعاصى والشهوات إزراء بعفو الله تعالى، وإساءة للظن به، ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو. وأخرجت الخوارج قتال الأئمة، والخروج عليهم بالسيف فى قالب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم فى قوالب متنوعة، بحسب تلك البدع.
(15/104)
ص -82- وأخرج المشركون شركهم فى قالب التعظيم لله، وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء، وآلهة تقربهم إليه. فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه فى قالب حق. والمقصود: أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل فى القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها. فصل وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع: أحدها: الاحتيال لحل ما هو حرام فى الحال. كالحيل الربوية، وحيلة التحليل. الثانى: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه، فهو صائر إلى التحريم ولا بد، كما إذا علق طلاقها بشرط محقق، تعليقاً يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة، حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك. الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب فى الحال، كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب، بأن يملك ماله لزوجته أو ولده، فيصير معسراً، فلا يجب عليه الإنفاق والأداء، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فيسافر ولا غرض له سوى الفطر، ونحو ذلك. الرابع: الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب، لكنه صائر إلى الوجوب. فيحتال حتى يمنع الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة، بتمليكه ماله قبل مضى الحول لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك. وهذا النوع ضربان: أحدهما: إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه، أو انعقاد سببه. والثانى: إسقاط حق المسلم بعد وجوبه. أو انعقاد سببه. كالاحتيال على إسقاط الشفعة التى شرعت دفعاً للضرر عن الشريك، قبل وجوبها أو بعده. الخامس: الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم. وله صور كثيرة.
(15/105)
ص -83- منها: أن يجحده دينه، كما جحده. ومنها: أن يخونه فى وديعته، كما خانه. ومنها: أن يغشه فى بيع معيب، كما غشه هو فى بيع معيب. ومنها: أن يسرق ماله كما سرق ماله. ومنها: أن يستعمله بأجره دون أجرة مثله ظلما وعدواناً، أو غروراً وخداعاً. أو غبنا، فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته. وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان، ونظار الوقوف، والعمال، وجباة الفيء والخراج والجزية والصدقة، وأمثالهم. فإن كان المال مشتركاً بين المسلمين رتعوا وربعوا، ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شئ منه. ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال. ويسعى فى السدس، تكملة للثلثين كما قيل فى بعضهم: لَهُ نِصْفُ بَيْتِ المالِ فَرْضٌ مُقَرَّرٌ وَفى سُدُسِ التَّكْمِيلِ يَسْعَى لِيَخْلُصَا مِنَ القَوْمِ لا تُثْنِيهُمُ عَنْ مُرَادِهِمْ عُقُوَبةُ سُلْطَانٍ بِسَوْطٍ وَلا عَصَا فصل وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التى تخلص من الظلم والبغى والعدوان، والحيل التى يحتال بها على إباحة الحرام، وإسقاط الواجبات، وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة. وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام، وإنما يتوسل بها إليه، وهو المقصود الذى اتفقا عليه، ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه، ومن شاهدهما يعلمه. وكذلك تمليك ماله لولده عند قرب الحول، فراراً من الزكاة، لا يخلص من الإثم، بل يغمسه فيه، لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه، ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب، وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين، فإن له أن يمنع الوجوب، وليس له أن يمنع الواجب. وهكذا القول فى التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع، فإنه يمنع وجوب الاستحقاق.
(15/106)
ص -84- ولا يمنع الحق الذى وجب بالبيع فذلك لا يجوز، وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها. وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه، بأن يسكن فى مكان لا يبلغه النداء أولا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع فى يومه، أو السفر قبل دخول وقتها، ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه. وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب، بأن لا يكتسب ما لا يجب فيه الإنفاق. ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك. فهذا سر الفرق اعتمده أصحاب الحيل. وأما المانعون فيجيبون عن ذلك: بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا، لئلا يحضرهم المساكين، فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه، وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها. وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب. فإن الله سبحانه إنما أوجبها فى أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة، ورحمة للمساكين، وسدا لفاقتهم. فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال. وبأن الشارع لوجوّز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه، لم يكن فى الإيجاب فائدة، إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع، فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده. وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف، فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق، ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر، حتى كأنه داخل فيه، كما إذا بقى من الحول يوم، أو ساعة، فالإسقاط هاهنا فى حكم الإسقاط بعد الحول سواء، ومفسدته كمفسدته، فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه.
(15/107)
ص -85- وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذى قد صح ووجد. وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول، ويكون واقعاً موقعه، ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب، وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضى الحول. وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذى يجب فيه الزكاة، فرارا من وجوبها عليه، أو ترك بيع الشْقص فراراً من أخذ الشفيع له أوترك التزوج فرار أمن وجوب الإنفاق ونحو ذلك، فإن هذا لم ينعقد فى حقه السبب. بل ترك ما يفضى إلى الإيجاب، ولم يتسبب إليه، وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب. واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها. وأيضاً، فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله، وإسقاط للسببيه بالتحيل، وليس ذلك للمكلف، فإن الله سبحانه هو الذى جعل هذا سببا بحكمه وحكمته، فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة، وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهراً وباطنا، أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب، وأداء الواجب. وأيضاً، فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب. ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعاً. وأيضاً فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه، فإن الفارّ من الشيء فار من أسبابه، وهذا أحرص شئ على الملك الذى هو سبب وجوب الحق عليه، ومن حرصه عليه: تحيلَ على ترك الإخراج حرصاً وشحاً. فهو فار من أداء الواجب، ظاناً أنه يفر من وجوبه عليه. والأول حاصل له دون الثانى. ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود، فإن المحتال على المحرمات، وإسقاط الواجبات، مقصوده فاسد، ووسيلته باطلة. فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده، وتوسل به إلى مقصود محرم. فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة، والمصاهرة والنسل، وغض
(15/108)
ص -86- البصر، وحفظ الفرج، والتمتع والإيواء، وغير ذلك من مقاصد النكاح، والمحلل لم يتوسل به إلى شئ من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى، فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له، فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له، ولم يتوسل به إلى ما شرع له. فكان القصد محرماً، والوسيلة باطلة. وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشترى بالعين والبائع بالثمن، فتوسل به المرابى إلى محض الربا، وأتى به لغير مقصوده. فإنه لا غرض له فى تملك تلك العين، ولا الانتفاع بها، وإنما غرضه الربا، فتوسل إليه بالبيع. وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعاً للضرر عن الشريك. فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذى لا حقيقة له إلى إبطالها، فكانت وسيلته باطلة، ومقصوده محرماً. وكذلك الزكاة. فرضها رحمة منه بالمساكين، وطهرة للأغنياء، فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له، من بيع، أو هبة. وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل، وأن لا يزداد على مثل ما أقرضه. فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة. وكذلك بيع الثمر قبل بُدُوّ صلاحها باطل، لما يفضى إليه من أكل المال بالباطل، فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل، كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود، بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه، ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما. فاشتراط قطعه خداع محض. وكذلك سائر الحيل التى تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال، غاياتها محرمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها. وكذلك الفدية والخلع التى شرعها الله ليخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما، فجعلوه حيلة للحنث فى اليمين، وبقاء النكاح. والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح. حيث يكون قطعه مصلحة لهما. وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التى يتوصل بها
(15/109)
إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله وإقامة
(15/110)
ص -87- دينه، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ونصر المحق، وكسر المبطل. والحيل التى يتوصل بها إلى خلاف ذلك. فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التى جعلت موصلة إليها شئ، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التى جعلت لغيرها شئ آخر. فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه. فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هى الطرق التى لا خداع فى وسائلها، ولا تحريم فى مقاصدها، وبالله التوفيق. فصل [الرد على أقوال من يجيز الحيل] وأما قولكم: إن من حلف بطلاق زوجته: ليشربن هذا الخمر، أو ليقتلن هذا الرجل، أو نحو ذلك - كان فى الحيلة تخليصه من هذه المفسدة. ومن مفسدة وقوع الطلاق. فيقال: نعم والله، قد شرع الله له ما يتخلص به، ولخلاصه طرق عديدة، فلا تتعين الحيلة التى هى خداع ومكر لتخليصه، بل هاهنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها. الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحال، ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف، كقوله "الطلاق يلزمنى لأفعلن" أو بصيغة التعليق المقصود كقوله "إن طلعت الشمس، أو إن حضت، أو إن جاء رأس الشهر، فأنت طالق" أو التعليق المقصود به اليمين، من الحض والمنع، والتصديق والتكذيب، كقوله "إن لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا، فامرأتى طالق" وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعى، الذين جالسوه، أو من هو من أجلهم: أبى عبد الرحمن. وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعى، وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر.
(15/111)
ص -88- فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح، ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفى. الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأبى هريرة، وعائشة، وزينب بنت أم سلمة، وحفصة، فى الحلف بالعتق الذى هو قربه إلى الله تعالى، بل من أحب القرب إلى الله، ويسرى فى ملك الغير، فما يقول هؤلاء فى الحلف بالطلاق الذى هو أبغض الحلال إلى الله تعالى، وأحب الأشياء إلى الشيطان؟. والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته. فقالوا لها كفرى عن يمينك، وخلى بين الرجل وبين امرأته.
(15/112)
ص -89- وهؤلاء الصحابة أفقه فى دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة فى الحلف بالعتق ويرونه يمينا. ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا،. ويلزمون الحانث بوقوعه، فإنه لا يجد فقيه شم رائحة بين البابين والتعليقين فرقاً بوجه من الوجوه. وإنما لم يأخذ به أحمد، لأنه لم يصلح عنده إلا من طريق سليمان التيمى، واعتقد أنه تفرد به. وقد تابعه عليه محمد بن عبد الله الأنصارى، وأشعث الحمرانى، ولهذا لما ثبت عند أبى ثور قال به، وظن الإجماع فى الحلف بالطلاق على لزومه، فلم يقل به. الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلف بالطلاق شيئاً، وهذا صحيح عن طاوس، وعكرمة. أما طاوس فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئاً. وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره فى باب يمين المكره، فحمله على الحلف بالطلاق مكرها، وهذا فاسد، فإن الحجة ليست فى الترجمة. وإنما الاعتبار بما يروى فى أثناء الترجمة، ولا سيما المتقدمين، كابن أبى شيبة، وعبد الرزاق ووكيع وغيرهم، فإنهم يذكرون فى أثناء الترجمة آثاراً لا تطابق الترجمة، وإن كان لها بها نوع تعلق، وهذا فى كتبهم - لمن تأمله - أكثر وأشهر من أن يخفى، وهو فى صحيح البخارى وغيره، وفى كتب الفقهاء وسائر المصنفين. ثم لو فهم عبد الرزاق هذا، وأنه فى يمين المكره، لم تكن الحجة فى فهمه، بل الأخذ بروايته، وأى فائدة فى تخصيص الحلف بالطلاق بذلك؟ بل كل مكره حلف بأى يمين كانت، فيمينه ليست بشيء. وأما عكرمة، فقال سنيد بن داود فى تفسيره: حدثنا عباد بن عباد المهلبى عن عاصم الأحول عن عكرمة: فى رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتى طالق، قال "لا يجلد غلامه، ولا يطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان". فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه، إلى أثر ابن عباس، فيمن قالت
(15/113)
ص -90- لمملوكها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لى حر، إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس فى الحلف بتحريم الزوجة: أنها يمين يكفرها - تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه فى هذا الباب. فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة فى الحلف بالتعليقات. كالحج، والصوم، والصدقة، والهدى، والمشى إلى مكة حافياً، ونحو ذلك: أنها أيمان مكفرة - تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة فى ذلك. فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذى يستوفى فيه حكم الأصل والفرع: تبين لك توافق القياس وهذه الآثار. فإذا ارتفعت درجة أخرى، ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، تبين لك الراجح من المرجوح. ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان، ومن يقول: حكمت وثبت عندى، فالله المستعان. الطريق الرابعة: طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو فعل نفسه، أو على غير الزوجة، فيقول: إن قال لامرأته "إن خرجت من الدار، أو كلمت رجلاً، أو فعلت كذا فأنت طالق" فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على فعل نفسه، أو غير امرأته، وحنث لزمه الطلاق. وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق، وهو أشهبُ بن عبد العزيز، ومحله من الفقه، والعلم غير خاف. ومأخذُ هذا: أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها، لم يقع به الطلاق، معاقبة لها بنقيض قصدها، وهذا جار على أصول مالك وأحمد، ومن وافقهما فى معاقبة الفار من التوريث والزكاة، وقاتل مورثه، والموصى له، ومن دبَّره بنقيض قصده، وهذا هو الفقه، لا سيما وهو لم يرد طلاقها، إنما أراد حضها، أو منعها، وأن لا تتعرض لما يؤذيه، فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أداه؟ وهو لم يملكها ذلك بالتوكيل والخيار، ولا ملكها الله إياه بالفسخ، فكيف تكون الفرقة إليها، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها؟ وأى شئ أحسن من هذا الفقه، وأطرد على قواعد الشريعة؟.
(15/114)
ص -91- الطريق الخامسة: طريق من يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء، والحلف يصيغه الالتزام. فالأول: كقوله: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعله، فأنت طالق. والثانى: كقوله: الطلاق يلزمنى، أوْ لى لازم، أو على الطلاق إن فعلت، أو إن لم أفعل. فلا يلزمه الطلاق فى هذا القسم، إذا حنث دون الأول. وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعى، وهو المنقول عن أبى حنيفة وقدماء أصحابه، ذكره صاحب الذخيرة، وأبو الليث فى فتاويه. قال أبو الليث: ولو قال: طلاقُك على واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال: يقع واحدة رجعية، نواه أو لم يَنْوِه، ومنهم من قال: لا يقع وإن نوى، والفارق: العرف. قال صاحب الذخيرة: وعلى هذا الخلاف: إذا قال: إن فعلت كذا فطلاقك على واجب، أو قال: لازم، ففعلت. وذكر القُدورى فى شرحه: أن على قول أبى حنيفة: لا يقعُ الطلاق فى الكل، وعند أبى يوسف: إن نوى الطلاق يقع فى الكل، وعن محمد: أنه يقع فى قوله: لازم، ولا يقع فى: واجب. واختار الصدرُ الشهيدُ الوقوع فى الكل، وكان ظهيرُ الدين المْرِغينانُّى يُفتى بعدم الوقوع فى الكل، هذا كله لفظ صاحب الذخيرة. وأما الشافعية: فقال ابن يونس، فى شرح التنبيه: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لى، ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل، فجعل كناية وقال الرويانى: الطلاق لازم لى: صريح، وعدَّ ذلك فى صرائح الطلاق، ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق. وقال القفال فى فتاويه: ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه، لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق، هذا لفظه. وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد. فقد صار الخلاف فى هذا الباب فى المذاهب الأربعة بنقل أصحابها فى كتبهم.
(15/115)
ص -92- ولهذا التفريق مأخذ آخر من هذا الذى ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلزم التطليق، فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذى يلتزمه الرجل: هو التطليق، فالطلاق لازم لها إذا وقع. إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق، فإنه لو قال: إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك، أو تالله على أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لى، أو واجب على، وحنث لم يقع عليه الطلاق. فهكذا إذا قال: إن فعلت كذا فالطلاق يلزمنى، لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه. والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البضع من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه. فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق، فحينئذ يلزمه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب، وإنما أتى به معلقاً له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟. والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق. فصل وممن ذكر الفرق بين الطلاق، وبين الحلف بالطلاق: القاضى أبو الوليد هشام ابن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبى فى كتابه "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام". فقال فى كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك فى الأيمان اللازمة. ثم قال: ولا ينبغى أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليدياً إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان، وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى. منها: الفرق بين الطلاق إيقاعاً، وبين اليمين بالطلاق، وفى المدونة كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثانى للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفن فقه على الجملة. وذلك
(15/116)
ص -93- أن الطلاق صورته فى الشرع. حل وارد على عقد، واليمين بالطلاق عَقد فليفهم هذا. وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل بنية، ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته، فقد نجمت هذه المسألة فى أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته، فى أيمان البيعة، وليس فى أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك. وذلك أن الطلاق على ضربين: صريح، وكناية. فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه فى إثبات حكمه تحديداً. والكناية: على ضربين، كناية غالبة، وكناية غير غالبة. فالغالبة: كل ما أشعر بثبوت الطلاق فى موضوع اللغة، أو الشرع، كقوله: الحقى بأهلك، واعتدّى. وغير الغالبة: كل مالا يشعر بثبوت الطلاق فى وضع اللغة والشرع، كقوله: ناولينى الثوب، وقال: أردت بذلك الطلاق. فإذا عرضنا لفظ الأيمان يلزمنى على صريح الطلاق لم تكن من قسمه، وإن عرضناها على الكناية، لم تكن من قسيمها إلا بقرينة، من شاهد حال، أو جارى عرف، أو نية تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهد الحال، أو جارى العرف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغى لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم فى فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعانى، فإن الحكم إن لم يقع مستوضحاً عن نور فكرى مشعر بالمعنى المربوط اضمحل. ثم قال: وأنا ذاكر لك ما بلغنى فى هذه اليمين من كلام العلماء، ورأيته من أقوال الفقهاء، وهى يمين محدثة، لم تقع فى الصدر الأول. ثم ذكر اختلاف أهل العلم فى الحلف بالأيمان اللازمة. والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطرى العقلى الشرعى بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكماً. أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ، واليمين عقد والتزام. فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى: {وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيَمانَ} [المائدة: 89].
(15/117)
ص -94- ثم أشار إلى الافتراق فى الحكم بقوله: وإذا كانت اليمين عقداً لم يحصل بها حل، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل، ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل. فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه، نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها فى العقد والحل، فتصير كناية فى الوقوع، وقد نواه. فيقع به الطلاق، لأن هذا العقد صالح للكناية. وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق. أما إذا نوى مجرد العقد، ولم ينو الطلاق البتة، بل هو أكره شئ إليه، فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعى، ولا نقلها عنه الشارع. فلا يلزمه غير موجب الأيمان. فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق، ويخرج قلبه ساعة من التعصب والتقليد، واتباع غير الدليل. والمقصود: أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان فى الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما فى الحكم. أما الحقيقة فما تقدم. وأما القصد. فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، أو التصديق أو التكذيب، والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب. فالتسوية بينهما لا يخفى حالها. وأما اختلافهما لفظاً، فإن لفظ اليمين لا بد فيها من التزام قَسَمِى يأتى فيه بجواب القسم، أو تعليق شرطى يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدم فى الصورة الأولى مؤخر فى الثانية، والمنفى فى الأولى ثابت فى الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئاً من ذلك، ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق فى هذه المسألة، والله الموفق. الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذى كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث، لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة، فيزول بزوالها، وهذا مطرد على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد فى اليمين، تعميما وتخصيصاً وإطلاقاً وتقييداً. فإذا حلف: لا
(15/118)
أكلم فلانة، وكان سبب اليمين الذى هيجها كونها أجنبية، يخاف الوقوع فى عرضه بكلامها، فتزوجها. لم يحنث بكلامها، إعمالا لسبب اليمين وما هيجها
(15/119)
ص -95- فى التقييد بكونها أجنبية. هذا إذا لم يكن له نية مادامت كذلك، أما إذا كانت له نية فلا إشكال فى تقييد اليمين بها. ونظيره: أن يحلف: لا يكلم فلاناً، ولا يعاشره. لكونه صبيا، فصار رجلاً، وكانت نيته وسبب يمينه لأجل صباه. ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار لأجل من يَظُن به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث. وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا. فباع العبد والدار. ونظير هذا: أن يحلف لا يكلم فلانا، والحامل له على اليمين كونه تاركاً للصلاة، أو مرابياً أو خماراً، أو واليا، فتاب من ذلك كله، وزالت الصفة التى حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه. وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة. والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغياً أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها. كل هذا مراعاة للمقاصد التى الألفاظ دالة عليها. فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر. ولهذا لو حلف: ليقضينه حقه فى غد. وقصده، أو السبب: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث. ولو حلف أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالى. والنية أو السبب: يقتضى التقييد مادام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه. وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته: أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلق أو أعتق أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه. لأن اقتضاء السبب والقصد التقييد فى غاية الظهور. ونظائر ذلك كثيرة جداً. وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه فى كثير من المواضع. وهذا هو الصواب، لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان
(15/120)
ص -96- الاعتبار له، وتقيد اللفظ به. ولهذا لو دعى إلى غداء، فحلف لا يتغذى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده، لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضى غيره. وقد أخبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" وما لم ينوه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يلزم به، مع القطع بأنه لم يرده، ولا خطر على باله. وقد أفتى غير واحد من الفقهاء، منهم ابن عقيل وشيخنا، وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال هى طالق، ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذى رميت به فى بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان ميتا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن، فإنه لا يقع عليه الطلاق، لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب، فهو كالشرط فى طلاقها. وهذا الذى قالوه هو الذى لا يقتضى المذهب وقواعد الفقه غيره، فإنهم قد قالوا: لو قال: لها أنت طالق، وقال: أردت إن قمت، | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:28 | |
| ص -104- فصل وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة، بقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]. وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها، فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما. فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التى شرعها لعباده، ونصبها لمصالحهم فى معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة، ثم أمرهم أن يستوثقواً فى البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود، وإن عدموا ذلك فى السفر استوثقوا بالرهن، حفظاً لأموالهم وتخلصاً من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان، ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم فى ترك ذلك فى البيوع الحالة، لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان. فالمراد بالتجارة الدائرة: البيعات التى تقع غالباً بين الناس. ولم يفهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ولا أهل التفسير، ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين، بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا. ولا ريب أن دخولها فى تلك النصوص أظهر من دخولها فى هذه الآية. ومما يدل عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون فى الغالب إلا مع أجل، بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال، ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل، وذلك فى الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود، والله سبحانه قال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282]. فاستثنى هذا من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]. وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى، واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك، فأين هى من التجارة الحاضرة، التى يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة
(15/132)
والربا؟ فالتجارة فى كلام الله ورسوله، ولغة العرب، وعرف الناس: إنما تنصرف إلى البياعات
(15/133)
ص -105- المقصودة التى يقصد فيها الثمن، والمثمن. وأما ما تواطآ فيه على الربا المحض، ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما البتة، يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة، فهذا ليس من التجارة المأذون فيها، بل من الربا المنهى عنه، والله أعلم. فصل وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل. فما أبطله من استدلال، فأين المعاريض التى يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التى يسقط بها ما فرض الله تعالى، ويستحل بها ما حرم الله، فالمعَرِّض تكلم بحق، ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى، لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره فى نفسه، وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره فى معرفة دلالة اللفظ، ومعاريض النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ومزاحه عامته كان من هذا الباب، كقوله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ" و "إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلدِ النَّاقَةِ" و "وَزوَجُكِ الّذِى فى عَيْنِه بيَاضٌ" و "لا يَدْخُلُ الجنة عَجُوزٌ". وأكثر معاريض السلف كانت من هذا. فالمعرِّض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له فى الجملة، فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام، فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفرد والمشترك، والمتباين والمترادف، وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد، وتارة بحسب التأليف، فأين هذا من الحيل التى يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلاً، ولا هو مقتضاه، ولا موجبة شرعاً ولا حقيقة؟،.
(15/134)
ص -106- وفرق ثان، وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلاً ولا محرماً، بخلاف المحتال، فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرماً باطلاً، فإن المرابى بالحيلة لو قال: بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة، كان حراماً باطلاً، وذلك عين مقصوده، ومقصوده الآخر. وكذلك المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً على أن تعيدها إلى ومعها زيادة كذا وكذا، كان حراماً باطلاً، وذلك نفس مقصوده. وكذلك المحلل لو قال: تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثاً. والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراماً، فأين أحدهما من الآخر؟ وفرق ثالث: وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ، أو يقتضيه. والمحتال قصد بالعقد مالا يحتمله، ولا جعل مقتضياً له، شرعاً ولا عرفاً ولا حقيقة. وفرق رابع: وهو أن المعرض مقصده صحيح، ووسيلته جائزة، فلا حجر عليه فى مقصوده، ولا فى وسيلته إلى مقصوده، بخلاف المحتال، فإن قصده أمر محرم، ووسيلته باطلة، كما تقدم تقريره. وفرق خامس: وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه فى شئ، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه، جزاء له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز المحق، فما كان من التعريض لظاهر اللفظ فى نفسه كان قبيحاً إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزاً إلا عند تضمن مفسدة، والذى يدخل فى الحيل المذمومة إنما هو الأول، فالمعرض قاصد لدفع الشر، والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق. والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل، كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه، ويسافر إلى تلك الناحية، ليحسب العدو أنه لا يريده، ثم يكر عليه. ومثل أن يستطرد المبارز بين يدى خصمه ليظن هزيمته، ثم يعطف عليه. ومثل أن يظهر ضعفاً وعجزاً يتخلص به من تسخيره وأذاه، ونحو ذلك.
(15/135)
ص -107- وقد يكون التعريض بالقول والفعل معاً، كما قال سليمان عليه السلام "ائتونى بالسكين أشقه بينكما" وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع، وبإظهار النوم، وإظهار الشبع، وإظهار الغنى، بحيث يحسبه الجاهل غنيا. وكما يقع الإجمال فى الأقوال فكذلك يقع فى الأفعال، كما أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عمر رضى الله عنه حلة من حرير، فلما لبسها أنكر عليه وقال: "لم أعطكها لتلبسها" فكساها أخا له مشركاً بمكة. فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع فى الألفاظ تارة، وفى الأفعال تارة، وفيهما معاً تارة. ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره، ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله، ليقبله ولا يرده عليه، أو ليتخلص به من شره وظلمه، كما أنشد عبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات، وأوهمها أنه يقرأ وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح، ولكن لا يقبل منه، لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله، فإذا عرّض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض، كما علمه أبو حنيفة - رحمه الله أصحابه -، حين شكوا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة، فيبادرون بالإنكار. فقال: قولوا لهم المسألة، فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع، فقولوا: هذا قول أبى حنيفة. وكما يجرى لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيراً. فصل وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، إلى آخره. فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم فى هذا الباب، وليس كما زعموا، والاستدلال بذلك من أبطل الباطل.
(15/136)
ص -108- فإن المحتجين بذلك لا يجوِّزون شيئاً مما فى هذه القصة البتة، ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به، ولا يسوغه بوجه من الوجوه؟ والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاء لإخوته، وعقوبة لهم على ما فعلوا به، ونصراً له عليهم، وتصديقاً لرؤياه، ورفعة لدرجته ودرجة أبيه. وبعد، ففى قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة. أحدها قوله لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهمْ لَعَلّهُمْ يعْرفونَهَا إذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62]. فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا فى ذلك معانى: منها: أنه تخوّف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها. ومنها: أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم. ومنها: أنه إذا رأى لؤما أخذ الثمن منهم. ومنها: أنه أراهم كرمه فى رد البضاعة، ليكون أدعى لهم إلى العود. وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة، ليردوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح. والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير فى هذا البلاء. وأيضاً، فلو عرفهم نفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه عادة الله سبحانه فى الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسباباً من المحن والبلاياً والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرزخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك، الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المحرج ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه.
(15/137)
ص -109- وكذلك ما فعله برسله، كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب عليهم السلام، فهو سبحانه يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التى تكرهها النفوس وتشق عليها. كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كَرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وُهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتمْ لا تَعلَمُونَ} [البقرة: 216]. وربما كانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إِلَىمَحْبُوبِهَا سَبَباً مَا مِثْلَهُ سَبَبُ وبالجملة، فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة المؤلمة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره، وخلق النار وحفها بالشهوات. فصل ومنها: أنه لما جهزهم فى المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه. وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق. وقد قيل: إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك، والحق كان له، وقد أذن فيه، وطابت نفسه به، ودل على ذلك قوله تعالى: {ولَمَّا دَخلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ، قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبتَئِسْ بَما كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69]. فهذا يدل على أنه عَرّف أخاه نفسه. وقد قيل: إنه لم يصرح له بأنه يوسف، وأنه إنما أراد بقوله: {إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} [يوسف: 69]. أى أنا مكان أخيك المفقود. ومن قال هذا قال: إنه وضع السقاية فى رحل أخيه، والأخ لا يشعر بذلك، والقرآن يدل على خلاف هذا، والعدل يرده. وأكثر أهل التفسير على خلافه. ومن لطيف الكيد فى ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق فى دين الملك يأخذه بها. فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما، فوضع الصواع
(15/138)
ص -110- فى رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك. ولهذا قال: {فلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [يوسف: 69]. ومن لطيف الكيد: أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل فى آثارهم لذلك. قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا على بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: "أمهلهم حتى إذا انطلقواً فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا، ثم ناداهم مناد: أيتها العير إنكم لسارقون، فوقفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم فيما يذكرون: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم، ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم، وأدخلنا كم علينا فى بيوتنا ومنازلنا؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ {قال إنكم لسارقون}. وذكر عن السدى "فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير". والسياق يقتضى ذلك، إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداء لبعيد، يطلب وقوفه وحبسه. فكان فى هذا من لطيف الكيد: أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فقد له، فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا، وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه، فالتمسه، فلم يجده، فسأل عنه الحاضرين، فلم يجدوه، فأرسلوا فى أثر القوم. فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش فى الحال قبل انفصالهم عنه. بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ فى هذه المعنى. ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع، يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم، إعلاماً بزن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر، ولم يبق فيه خفاء، وأنتم قد اشتهرتم بأخذه، ولم يتهم به سواكم. ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال إنكم لسارقون ولم يعين المسروق، حتى سألهم عنه القوم، فقالوا لهم: ماذا تفتقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره. فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره. وظهر
(15/139)
صدقهم وعدلهم فى اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد. ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام – {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ
(15/140)
ص -111- كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} - أى ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووجد معه؟ أى ما عقوبته عندكم وفى دينكم؟. {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75]. فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم، لا بحكم الملك وقومه. ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه، تطمينا لهم، وبعدا عن تهمة المواطأة. فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يدريه أنه فى هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأة وموافقة. فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا، فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع، وقال: ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضاً أخذ شيئاً. فقالوا: لا والله، لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه، فإنه أطيب لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع. وهذا من أحسن الكيد. فلهذا قال تعالى: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذى يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله، ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد. وقد ذكروا فى تسميتهم سارقين وجهين: أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غيبوه عنه بالحيلة التى احتالوا بها عليه، وخانوه فيه. والخائن يسمى سارقاً، وهو من الاستعمال المشهور. الثانى: أن المنادى هو الذى قال ذلك، من غير أمر يوسف عليه السلام. قال القاضى أبو يعلى وغيره: أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع فى رحل أخيه. ثم قال بعض الموكلين به لما فقده، ولم يدر من أخذه - أيتها العير إنكم لسارقون - على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك،
(15/141)
ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادى: هؤلاء قد سرقوا، وعنى سرقته من أبيه، والمنادى فهم سرقة الصواع، وصدق فى قوله: إنكم
(15/142)
ص -112- لسارقون - ولم يقل: صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال - نفقد الملك - وهو صادق فى ذلك، فحذف المفعول فى قوله - لسارقون - وذكره فى قوله - نفقد صواع الملك - وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم - معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده - ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، فإن المتاع كان موجوداً عنده، ولم يكن سارقاً. وهذا من أحسن المعاريض. وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذى قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه، أيأثم فى ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ". فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيراً من أن يصلح بين الناس بعضهم فى بعض، ذلك أنه أراد به مرضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعاً فى شئ يصيبه منهم، فإنه لم يرخص فى ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم. قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه "إنى أشترى دينى بعضه ببعض، مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه". قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْضِ} [ص: 22]. أراد معنى شئ ولم يكونا خصمين، فلم يصيرا بذلك كاذبين.
(15/143)
ص -113- وقال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقالَ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا} [الأنبياء: 63]. وقال يوسف عليه السلام {إنكم لسارقون} [يوسف: 70] أراد يعنى أخاهم. فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذباً. وإن لم يكن فى الحقيقة كذباً. وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق. قال شيخنا: وهذه الحجة ضعيفة، فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف. حتى يقال قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذى أبيهم، وللميثاق الذى أخذه عليهم، وقد استثنى فى الميثاق بقوله: {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]. وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته، فإنه كان أكرم من هذا وإن كان فى ضمن ما فعل من تأذى أبيه أعظم من أذى إخوته، فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به، ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذى استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلو المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى - التى قدّرها وقضاها - نهايتها، ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل، فليس هذا، بموضع خلاف بين العلماء. فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه؟ أو يسرقه، كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع. نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير، فإن مثل هذا لا يجوز فى شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه، كان فى هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون
(15/144)
المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا، كالوحى إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وتكون حكمته فى حق الأخ امتحانه وابتلاءه، لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حاله فى هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام فى احتباس يوسف عليه السلام عنه.
(15/145)
ص -114- وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله} [يوسف: 76]. وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعانى، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق، كقوله تعالى: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كيدا} [الطارق: 15 - 16] وقوله {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} [آل عمران:54] وقوله {اللهُ يسْتَهْزِئُ بِهم} [البقرة: 15] وقوله {إِنَّ المُنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله {وَأُمْلِى لهم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [القلم: 45]. فهذا منه سبحانه فى أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحاً سيئاً، لأنه ظالم فيه، وموقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومن يستحقه، سواء قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود، واللفظ حقيقة فى هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام فى كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. فصل وإذا عرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكْيَد، من وجوه عديدة. أحدها: أن إخوته كادوه، حيث احتالوا فى التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب عليه السلام: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5]. وثانيها: أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبق. وثالثها: كيد امرأة العزيز له، بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها. ورابعها: كيدها له بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بأَهْلِكَ سُوءا إِلا أنْ
(15/146)
ص -115- يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25]. فكادته بالمراودة أولا، وكادته بالكذب عليه ثانيا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]. وخامسها، كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهن، تستعين بهن عليه، وتستعذر إليهن من شغفها به. وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال: {وَ إِلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ إلَيْهِنَّ أصب وأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِين فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [يوسف: 33- 34]. ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له: {اُرْجعْ إِلَى ربك فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]. فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتى مكرن به، وسمعت به امرأة العزيز، فإن الله سبحانه لم يقصه فى كتابه؟. قيل: بلى، قد أشار إليه بقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المَدينَةِ اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30]. وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر: أحدها: قولهن: {اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِد فَتَاهَا} [يوسف: 30]. ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذى ينادى عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل. فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها. الثانى، أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها. الثالث: أن الذى تراوده مملوك لا حُر، وذلك أبلغ فى القبح.
(15/147)
ص -116- الرابع: أنه فتاها الذى هو فى بيتها وتحت كنفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبى البعيد. الخامس: أنها هى المراودة الطالبة. السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها. السابع: أن فى ضمن هذا أنه أعف منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هى المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافاً وكرماً وحياء، وهذا غاية الذم لها. الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع، حالا واستقبالا: وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكل. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته. التاسع قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30]. أى إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح فنسبن الاستقباح إليها. ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى، ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغى أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه. العاشر: أنهن جمعن لها فى هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط. فلم تقتصد فى حبها، ولا فى طلبها. أما العشق فقولهن: {قَدْ شَغَفَهَا حُباً} [يوسف: 30]. أى وصل حبه إلى شغاف قلبها. وأما الطلب المفرط فقولهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف: 30]. والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن. وقيل: إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرعْهُنَّ إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهى، وفى أيديهن مُدًى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن،
(15/148)
وهن لا يشعرن. وقد قيل: إنهن أبن أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جُرحُها وشقها بالمُدى لدَهَشهنَّ بما رأين،
(15/149)
ص -117- فقابلت مكرهن القولى بهذا المكر الفعلى، وكانت هذه فى النساء غاية فى المكر. والمقصود: أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدى إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره. وكاد له بأن أوقفهم بين يديه موقف الذليل الخاضع المستجدى، فقالوا: {يَا أَيَّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِى المَتَصَدِّقيِنَ} [يوسف: 88]. فهذا الذل والخضوع فى مقابلة ذله وخضوعه لهم يوم إلقائه فى الجب وبيعه بيع العبيد. وكاد له بأن هيأ له الأسباب التى سجدوا له هم وأبوه وخالته، فى مقابلة كيدهم له، حذرا من وقوع ذلك، فإن الذى حملهم على إلقائه فى الجب خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك. فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك. كما رآه فى منامه. وهذا كما كاد فرعون بنى إسرائيل: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيى نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]. خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه، بأن أخرج له هذا المولود، ورباه فى بيته، وفى حجره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل: وَإذَا خَشيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرا وَفَرَرْتَ مٍنْهُ، فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ
(15/150)
فصل وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين. أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلا خارجاً عن قدرة العبد الذى كاد له، فيكون الكيد قدرا محضا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا، بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع فى رحل أخيه، وأرسل مؤذنا يؤذن: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فلما أنكروا قال: {فَما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتَمْ كَاذِبينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وَجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74]. أى جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق، إما مطلقا، وإما إلى مدة. وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام
(15/151)
ص -118- حتى قيل: إن مثل هذا كان مشروعا فى أول الإسلام: أن المدين إذا أعسر بالدين استرقه صاحب الحق، وعليه حمل حديث بيع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سُرَّق. وقيل: بل كان بيعه إياه: إيجاره لمن يستعمله، وقضى دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة أجبر على إجارته نفسه، أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته. وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75]. كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسن إخوته، وذلك خارج عن قدرته. وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك، بأن يقولوا: لا جزاء عليه، حتى يثبت أنه هو الذى سرق، فإن مجرد وجوده فى رحله لا يوجب أن يكون سارقاً. وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة، وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق فى دينكم، وقد كان من دين ملك مصر - فيما ذكر -: أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك، لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه: {كَذلكَ كِدْنَا لِيُوسُفْ مَا كَانَ لِيَأْخُذُ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76]. أى ما كان ليمكنه أخذه فى دين ملك مصر، لأنه لم يكن فى دينه طريق إلى أخذه. وقوله {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76]. استثناء منقطع، أى لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، ويجوز أن يكون متصلا، والمعنى: إلا أن يهيئ الله سببا آخر يؤخذ به فى دين الملك غير السرقة.
(15/152)
ص -119- وفى هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر فى الحدود، وإن لم تقم بينة، ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة، فهو بينة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرت شريعتنا ذلك فى مواضع. منها: اللوث فى القسامة، والصحيح: أنها يقُاد بها، كما دل عليه النص الصحيح الصريح. ومنها: حد الصحابة رضى الله عنهم فى الخمر بالرائحة والقيء. ومنها: حد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل، وجعله قسيم الاعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه. فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا: كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار؟. وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام". والمقصود: أنه ليس فى قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلا عن الحجة، لأرباب الحيل. فإنا إنما تكلمنا فى الحيل التى يفعلها العبد، وحكمها فى الإباحة، والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل فى قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيداً محرماً فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده، وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له، وينتصر له، بغير حول منه ولا قوة. فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده. النوع الثانى: أن يلهمه أمرا مباحا، أو مستحبا، أو واجبا، يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، فيكون قد كاد له نوعى الكيد، ولهذا قال سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76]. وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعى الذى يحبه الله تعالى ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل:
(15/153)
صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذى يخصم به المبطل، ويدحض حجته صفة مدح يرفع
(15/154)
ص -120- بها درجة عبده، كما قال سبحانه فى قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومه، وكسر حجتهم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]. وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذى تستحل به المحرمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيد لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المكيد فى هذا القسم، فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد. وأيضا، فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعى، ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له. وأيضا، فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحاً لشخص كان مباح لكل من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها، وإنما خاصية الفقيه، إذا حدثت به حادثة: أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذى يعلمه هو وغيره والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصاً به، جزاء له على صبره، وإحسانه، وذكره فى معرض المنة عليه، وهذه الأفعال التى فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التى فعلها الله سبحانه له إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين: أحدهما: إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله. الثانى: فعل من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد. وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التى يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات. فصل لعلك تقول: قد أطلت الكلام فى هذا الفصل جدا، وقد كان يكفى الإشارة إليه. فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر. فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين: أهل المكر والمخادعة، والاحتيال فى العمليات، وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة فى العلميات. وكل فساد فى الدين - بل والدنيا - فمنشؤه من هاتين
(15/155)
الطائفتين.
(15/156)
ص -121- فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضى الله عنه، وعاثت الأمة فى دمائها، وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء، وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه، ويبين أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده. فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده. فصل ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عشاق الصور. وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التى استعبدت النفوس لغير خلاقها. وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا.فأوسعت القلوب محنة. وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها. وصرفتها عن طريق قصدها. ونادت عليها فى سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالى من غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس، الذى ألمهُا به أضعاف لذتها، ونَيْله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها، فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب. ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب. وإن تمتع به فى هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين. لاسيما إذا صار الأخِلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين. فيا حسرة المحب الذى باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشّقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة، فوا رحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب فى العذاب الأليم. فهناك يعلم
(15/157)
ص -122- المخدوع أى بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، فأى مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا. فلو رأيت قلبه وهو فى يد محبوبه لرأيته: كعُصْفُورَةٍ فِى يد طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يلْهُو وَيَلْعَبُ ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت: وَمَا فِى الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍ وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ تَرَاهُ بَاكِياً فى كُلِّ حِينٍ مَخَافَةَ فُرْقَةٍ، أَوْ لاشْتِيَاقِ فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إِلَيْهِمْ وَيَبْكِى إنْ دنَوْا، حَذَرَ الْفِرَاقِ ولو شاهدت نومه وراحته، لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار فى أحشائه لقلت: سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ، مُتْقِنِ صُنْعِهِ وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُد قَطْرٌ تَوَلّدَ عَنْ لَهِيبٍ فى الْحَشَا مَاءٌ وَنَارٌ فى مَحَلٍّ واحِدِ ولو شاهدت مسلك الحب فى القلب وتغلغه فيه، لعلمت: أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح فى أبدانها. فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب، ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذى لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل. وهو له عبد خاضع ذليل. إن دعاه لباه. وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه، فحقيق به أن لا يملك رقه إلا لأجلِّ حبيب. وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب.
(15/158)
ص -123- فصل إذا عرف هذا فأصل كل فعل وحركة فى العالم: من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف، إذا قيل: إن الترك والكف أمر وجودى، كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عدمى فيكفى فى عدمه عدم مقتضيه. والتحقيق: أن الترك نوعان: ترك هو أمر وجودى. وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وجودى، وترك هو عدم محض، فهذا يكفى فيه عدم المقتضى. فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفى فيه عدم السبب المقتضى لوجوده، وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له: من البغض والكراهة، وهذا السبب لا يقتضى بمجرده كف النفس وحبسها. والالتئام مسبب عن المحبة، والإرادة تقتضى أمرا هو أحب إليه من هذا الذى كف نفسه عنه، فيتعارض عنده الأمران. فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له، وأحبهما إليه، على أدناهما، فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه. ثم خاصية العقل واللب: التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين التخلص من أعلاهما، بقوة الصبر واليقين. فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب، أو للتخلص من مكروه آخر، وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها، فصار سعيها فى تحصيل بالذات، وأسبابه بالوسيلة، ودفع مبغوضها بالذات، وأسبابه بالوسيلة، فسعيه فى تحصيل محبوبه لماله فيه من اللذة، وكذلك سعيه فى دفع مكروهه أيضاً لماله فى دفعه من اللذة. كدفع ما يؤلمه من البول والنجو، والدم والقيء، وما يؤلمه من الحر والبرد، والجوع والعطش، وغير ذلك.
(15/159)
ص -124- وإذا علم أن هذا المكروه يفضى إلى ما يحبه يصير محبوبا له، وإن كان يكرهه. فهو يحبه من وجه، ويكرهه من وجه، وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضى إلى ما يكرهه يصير مكروها له، وإن كان يحبه. فهو يكرهه من وجه، ويحبه من وجه. فلا يترك الحى ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه. ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه، لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا، ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا. فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة، وعلة لهما، من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب. ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض، بخلاف الحب للشيء. فإنه قد يكون لنفسه، لا لأجل منافاته للبغيض. وبغض الإنسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده. وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافى أشد. ولِهذا كان "أوْثَقُ عُرَى الإيَمانِ الْحُبُّ فى اللهِ وَالْبُغْضُ فى اللهِ"، وكان "مَنْ أحَبَّ للهِ، وَأبْغَضَ للهِ، وَأعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإيَمانَ". فإن الإيمان علم وعمل، والعمل ثمرة العلم، وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا، ويترتب عليهما عمل الجوارح، فعلا، وتركا، وهما العطاء والمنع. فإذا كانت هذه الأصول الأربعة لله تعالى، كان صاحبها مستكمل الإيمان، وما نقص منها فكان لغير الله، نقص من إيمانه بحسبه.
(15/160)
ص -125- فصل إذا عرف هذا فكل حركة فى العالم العلوى والسفلى فسببها المحبة والإرادة، وغايتها المحبة والإرادة. فإن الحركات ثلاث: إرادية، وطبعية، وقسرية. فإن المتحرك إن كان له شعور بحركته وإرادة لها، فحركته إرادية، وإن لم يكن له شعور بحركته، أوله بها شعور وهو غير مريد لها، فحركته إما على وفق طبعه، أو على خلافه، فالأولى طبعية، والثانية قسرية. أظهر من هذا أن يقال: مبدأ الحركة إما أن يكون أمرا مباينا للمتحرك، أو قوة فيه، فالأول الحركة فيه قسرية، والثانى، إما أن يكون له به شعور أم لا، فالأول: الحركة فيه إرادية، والثانى طبعية. فالحركة متى لازمت الشعور والإرادة فهى إرادية، ومتى انتفى عنها الأمران، فإن كانت بقوة فى المتحرك فهى الطبعية، وإن كانت من غير قوة فى المحرك فهى القسرية. وكل حركة فى السماوات والأرض: من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهى ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى: {فَالمُدَبِّرَاتِ أمْرا} [النازعات: 5]، وقال {فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات: 4]. وهى الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام، وأما المكذبون للرسل، المنكرون للصانع، فيقولون: هى النجوم. وقد أشبعنا الرد على هؤلاء فى كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكِّل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها. ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظه، وملائكة لحفظ ما يعمله | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:29 | |
| ص -126- وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالسؤال فى القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها، وعمل الأنهار فيها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله تعالى. ومنهم: {وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فالمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} [المرسلات: 1-5] ومنهم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرَا} [النازعات:1-5] ومنهم {وَالصَّافّاتِ صَفا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرَا} [الصافات:1-3]. ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش،
(15/162)
ص -127- وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التى لا يحصيها إلا الله تعالى. ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إلا لَمِن اُرْتَضَى وَهْمْ مِنْ خَشْيَتهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمَرُونَ} [النحل: 50] {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرْونَ} [التحريم: 6]. ولا تتنزل إلا بأمره، ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه، فهم: {عِبَادٌ مُكرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. منهم الصافون، ومنهم المسبحون. ليس منهم إلا من له مقام معلوم، لا يتخطاه وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه، ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده سبحانه: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَستَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليْلَ وَالنَّهَارَ لا يفْتُروُنَ} [الأنبياء: 19- 20]. ورؤساؤهم الأملاك الثلاث: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "الّلهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اُهْدِنِى لَمِا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
(15/163)
ص -128- فتوسل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة. فجبريل موكل بالوحى الذى به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذى به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ فى الصور الذى به حياة الخلق بعد مماتهم. فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، لما فى ذلك من الحياة النافعة. وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل فى القرآن أحسن الثناء، ووصفه بأجمل الصفات فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنسِ وَالليْلِ إذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولِ كَرِيمٍ ذِى قُوَْةٍ عِنْدَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 15- 21]. فهذا جبريل، فوصفه بأنه رسوله، وأنه كريم عنده، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه، وأنه مطاع فى السماوات، وأنه أمين على الوحى. فمن كرمه على ربه: أنه أقرب الملائكة إليه. قال بعض السلف: منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك. ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه، ثم قلبها عليهم. فهو قوى على تنفيذ ما يؤمر به، غير عاجز عنه، إذ تطيعه أملاك السماوات فيما يأمرهم به عن الله تعالى. قال ابن جرير فى "تفسيره": عن إسماعيل بن أبى خالد عن أبى صالح: أمين على أن يدخل سبعين سُرادقاً من نور بغير إذن. ووصفه بالأمانة يقتضى صدقه ونصحه، وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان. فالمكانة والأمانة والقوة والقرب من الله. ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف عليه السلام: {إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيَنَا مَكِين أَمِينٌ} [يوسف: 54]. والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنه شعيب فى موسى
(15/164)
ص -129- عليهما السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأمِينُ} [القصص: 26]. وقال تعالى فى وصفه: {عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مٍرَّةٍ فَاسْتَوى} [النجم: 5-6]. قال ابن عباس رضى الله عنهما "ذو منظر حسن" وقال قتادة "ذو خلق حسن" وقال ابن جرير: "عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا". والمرة واحدة المرر، وإنما أريد به ذو مرة سوية، ومنه قول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِى، وَلا لِذِى مِرَّةٍ سَوِى". قلت: هذا حجة من قال: المرة القوة فى الآية، وهو قول مجاهد وابن زيد، وهو قول ضعيف. لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]. ولا ريب أن المرة فى الحديث هى القوة، لا المنظر الحسن، فإما أن يقال: المرة تقال على هذا وعلى هذا، وإما أن يقال - وهو الأظهر -: إن المرة هى الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة، وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها. فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب، فهى قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا، والله أعلم. وقالت اليهود للنبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "من صاحبك الذى يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبى إلا يأتيه ملك بالخبر؟ قال: "هو جبريل". قالوا: ذاك الذى ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذى ينزل بالنبات والقطر والرحمة؟ فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوا لْجِبِريلَ فَإنَّه نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97 - 98].
(15/165)
ص -130- والمقصود: أن الله سبحانه وكل بالعالم العلوى والسفلى ملائكة، فهى تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره، فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة، لكونهم هم المباشرين للتدبير، كقوله: {فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً} [النازعات: 5]. ويضيف التدبير إليه كقوله: {إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 3] قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَى مِنَ المَيِّتِ وَيخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَى وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31]. فهو المدبر أمراً وإذناً ومشيئةً، والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالاً. وهذا كما أضاف التوفى إليهم تارة، كقوله تعالى: {تَوَفّتْهُ رُسُلنَا} [الأنعام: 61]. وإليه تارة، كقوله: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفسَ} [الزمر: 42] ونظائره. والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر فإنهم موكلون بتخليقه، ونقله من طور إلى طور، وتصويره، وحفظه فى أطباق الظلمات الثلاث، وكتابة رزقه، وعمله، وأجله، وشقاوته، وسعادته، وملازمته فى جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله، وحفظه فى حياته، وقبض روحه عند وفاته، وعرضها على خالقه وفاطره. وهم الموكلون بعذابه ونعيمه فى البرزخ، وبعد البعث. وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب. وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله، والمعلمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذابون عنه، وهم أولياؤه فى الدنيا والآخرة، وهم الذين يرونه فى منامه ما يخافه ليحذره، وما يحبه ليقوى قلبه، ويزداد شكرا، وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه، وينهونه عن الشر، ويحذرونه منه. فهم أولياؤه وأنصاره، وحفظته، ومعلموه، وناصحوه، والداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يصلون
(15/166)
عليه مادام فى طاعة ربه، ويصلون عليه مادام يعلم الناس الخير، ويبشرونه بكرامة الله تعالى فى منامه، وعند موته، ويوم بعثه. وهم الذين يزهدونه فى الدنيا، ويرغبونه فى الآخرة. وهم الذين يذكرونه إذا نسى.وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع. وهم الذين يسعون فى مصالح دنياه وآخرته.
(15/167)
ص -131- فهم رسل الله فى خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، تتنزل بالأمر من عنده فى أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر قد أطت بهم السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليه. والقرآن مملوء بذكر الملائكة، وأصنافهم، وأعمالهم، ومراتبهم. كقوله تعالى: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعٍلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَل فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقّدِّسُ لَكَ قّالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكةِ فَقالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسمائهم فَلمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أعْلُم غَيْبَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ} إلى آخر القصة [البقرة: 30 - 38] وقوله: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبهِّمْ} [القدر: 4]. وما بين هاتين السورتين فى سور القرآن. بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا، أو تلويحا، أو إشارة. وأما ذكرهم فى الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر. ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التى هى أركان الإيمان، وهى الأيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. فلنرجع إلى المقصود. وهو أن حركات العالم العلوى والسفلى بالملائكة. فالحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة التى تحرك المريد إلى فعل ما
(15/168)
يفعله، والحركة الطبيعية سببها ما فى
(15/169)
ص -132- المتحرك من الميل والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار، وحركة النبات، وحركة الرياح. وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل فإنه بطبعه يطلب مستقره من المركز، ما لم يعقه عنه عائق. وأما الحركة القسرية: كحركته بالقسر إلى العلو، فتابعه لإرادة القاسر له، فلم يبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة. فصل فإذا عرف ذلك فالمحبة هى التى تحرك المحب فى طلب محبوبه الذى يكمل بحصوله له، فتحرك محب الرحمن، ومحب القرآن، ومحب العلم والإيمان، ومحب المتاع والأثمان، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان والمردان، ومحب الأوطان ومحب الإخوان فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء. فيتحرك عند ذكر محبوبه منه دون غيره، ولهذا تجد محب النسوان والصبيان، ومحب قرآن الشيطان بالأصوات والألحان لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان، ولا عند تلاوة القرآن، حتى إذا ذكر له محبوبه اهتز له وربا، وتحرك باطنه وظاهره شوقا إليه وطربا لذكره. فكل هذه المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها، من محبة رسوله، وكتابه، ودينه، وأوليائه. فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به، وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه. وإذا انقطعت علائق المحبين، وأسباب توادهم وتحابهم لم تنقطع أسبابها. قال تعالى: {إذّ تَبَرَّأَ الّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اُتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتقَطّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166]. قال عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: "المودة". وقال مجاهد: "تواصلهم فى الدنيا". وقال الضحاك: "يعنى تقطعت بهم الأرحام، وتفرقت بهم المنازل فى النار". وقال أبو صالح: "الأعمال".
(15/170)
ص -133- والكل حق. فإن الأسباب هى الوُصَل التى كانت بينهم فى الدنيا، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها. وأما أسباب الموحدين المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم. فإن السبب تبع لغايته فى البقاء والانقطاع. فصل إذا تبين أصل هذا فأصل المحبة المحمودة التى أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها: هى محبته وحده لا شريك له، المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه. فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل وحده. ولما كانت المحبة جنسا تندرج تحته أنواع متفاوتة فى القدر والوصف، كان أغلب ما يذكر فيها فى حق الله تعالى: ما يختص به ويليق به، كالعبادة والإنابة والإخبات، ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام، والصبابة، والشغف، والهوى، وقد يذكر لها لفظ المحبة، كقوله: {يحُبُّهُمْ وَيحُبُّونِهُ} [المائدة: 54] وقوله {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبْبِكْمْ اللهُ} [آل عمران: 31] وقوله {وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبا للهِ} [البقرة: 165]. ومدار كتب الله تعالى المنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهى عن محبة ما يضادها وملازمتها، وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين، وذكر قصصهم ومآلهم، ومنازلهم، وثوابهم، وعقابهم، ولا يجد حلاوة الإيمان، بل لا يذوق طعمه، إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما فى الصحيحين من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله سلم قال: "ثَلاَثٌ مَنْ كُن فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَة الإيمَانِ - وفى لفظ: لا يَجُد طَعْمَ الإِيمَانِ إلا مَنْ كانَ فِيهِ ثَلاثُ: مَنْ كانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مَّمِا سِوَاهُما، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَرْجِعَ فى الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنُقَذَهُ اللهُ تعالى مِنْهُ، كما يَكْرَهُ أَنْ يُلقَى فى
(15/171)
النَّارِ". وفى الصحيحين أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجَمَعِينَ".
(15/172)
ص -134- ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، على عبادة الله وحده لا شريك له. وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة، وإفراد الرب سبحانه بها، فلا يشرك العبد به فيها غيره. والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين هى الكلمة التى لا يدخل فى الإسلام إلا بها، ولا يعصم دمه وماله إلا بالإتيان بها، ولا ينجو من عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان وذكرها أفضل الذكر، كما فى صحيح ابن حبان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: "أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلهَ إلاّ اللهُ". والآية المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة آى القرآن، والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن، بها أرسل الله سبحانه جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وشرع جميع شرائعه، قياما بحقها وتكميلا لها. وهى التى يدخل بها العبد على ربه، ويصير فى جواره وهى مفزع أوليائه وأعدائه، فإن أعداءه إذا مسهم الضر فى البر والبحر فزعوا إلى توحيده، وتبرءوا من شركهم، ودعوه مخلصين له الدين. وأما أولياؤه فهى مفزعهم فى شدائد الدنيا والآخرة. ولهذا كانت دعوات المكروب "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم". ودعوة ذى النون التى ما دعاً بها مكروب إلا فرج الله كربه "لا إله إلا أنت، سبحانك إنى كنت من الظالمين". وقال ثوبان رضى الله تعالى عنه "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا راعه
(15/173)
ص -135- أمر قال: الله ربى لا أشرك به شيئا" وفى لفظ قال: "هو الله لا شريك له". وقالت أسماء بنت عميس رضى الله عنها "علمنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كلمات أقولها عند الكرب: الله، الله ربى، لا أشرك به شيئا". وفى الترمذى من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "دَعْوَةُ يُونُسَ إِذْ نَادَى فى بَطْنِ الْحُوتِ: لا إِلهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظّالمِينَ، فَإنّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فى شَئْ إلا اُسْتُجِيبَ لَهُ". وفى "مسند الإمام أحمد" مرفوعا "دَعوَاتُ المَكْرُوبِ: الّلهُمَّ رَحْمَتكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِى إلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنِ، وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلّهُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ". فالتوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين، وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال التعظيم، والذل والخضوع. فصل فإذا عرفٍ أن كل حركة فأصلها الحب والإرادة، فلا بد من محبوب مراد لنفسه، لا يطلب ويحب لغيره، إذ لو كان كل محبوب يحب لغيره لزم الدور أو التسلسل فى العلل والغايات، وهو باطل باتفاق العقلاء، والشيء قد يحب من وجه دون وجه، وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله عز وجل وحده، الذى لا تصلح الألوهية إلا له، فلو كان فى السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا. والإلهية التى دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هى العبادة والتأليه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذى أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية.
(15/174)
ص -136- فصل وكل حى فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه: هو الله وحده. كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه، فوجوده بالله وحده، وكماله أن يكون لله وحده. فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، ولهذا قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلَهِةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. ولم يقل لعدمتا، إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن تكونا صالحين إلا بأن يكون فاطرهما وخالقهما هو المعبود وحده لا شريك له، فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نياتها ومقاصدها، فكل عمل فهو تابع عامله وقصده وإرادته. وتقسيم الأعمال إلى صالح فاسد، هو باعتبارها فى ذواتها تارة وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة. وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة، فهو باعتبار متعلقها، ومحبوبها، ومرادها، فإن كان المحبوب المراد هو الذى لا ينبغى أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى، الذى لا صلاح للعبد، ولا فلاح، ولا نعيم، ولا سرور، إلا بأن يكون هو وحده محبوبه، ومراده، وغاية مطلوبه، كانت محبته نافعة له. وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارة غيره كانت محبته ضارة له وعذابا شقاء. فالمحبة النافعة هى التى تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم، والمحبة الضارة هى التى تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والألم والعناء. فصل إذا تبين هذا فالحى العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به، ولا يقع ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته، أو من فساد قصده وإرادته. فالأول: جهل، والثانى ظلم: والإنسان خلق فى الأصل ظلوماً جهولا، ولا ينفك عن
(15/175)
ص -137- الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة، كما فى المسند من حديث عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فى ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصَابَهُ ذلِكَ النُّورُ اُهْتَدَى، وَمَنْ أخْطأَهُ ضَلَّ". فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله تعالى فى كتابه من أجاب داعى الجهل والظلم، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهَمْ وَمَنْ أَضَلُّ مَّمِنِ اتبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِين} [القصص: 50] وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23]. فأصل كل خير: هو العلم والعدل، وأصل كل شر: هو الجهل والظلم. وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه، الذى خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. قال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه: {فَمَن اُبْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولِئكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها فساد العلم. أو فساد القصد، أو فسادهما جميعا. وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم، وإلا فلو علم ما فى الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره، ولهذا من علم من طعام شهى لذيذ
(15/176)
أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه، فضعف علمه بما فى الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه عن اجتنابه يوقعه فى ارتكابه، ولهذا كان الإيمان الحقيقى هو الذى يحمل صاحبه على فعل ما ينفعهُ، وترك ما يضره، فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا لم يكن إيمانه على الحقيقة، وإنما معه من الإيمان بحسب ذلك. فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان، حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها
(15/177)
ص -138- الموصلة إليها، فضلا عن أن يسعى فيها بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها، وهذا أمر يجده الإنسان فى نفسه فيما يسعى فيه فى الدنيا من المنافع، أو التخلص منه من المضار. فصل إذا تبين هذا، فالعبد أحوج شئ إلى معرفة ما يضره ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله، فيحب النافع: ويبغض الضار، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك. وهاهنا طريقان: العقل، والشرع. أما العقل، فقد وضع الله سبحانه فى العقول والفطر استحسان الصدق والعدل، والإحسان، والبر، والعفة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، وأداء الأمانات، وصلة الأرحام، ونصيحة الخلق، والوفاء بالعهد، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، والإعانة على نوائب الحق، وقرى الضيف، وحمل الكل، ونحو ذلك. ووضع فى العقول والفطر استقباح أضداد ذلك، ونسبة هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ، وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع، ولبس ما يدفئه عند البرد، فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه. فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفات الكمال ونفعها، واستقباح أضدادها، ومن قال: إن ذلك لا يعلم بالعقل، ولا بالفطرة، وإنما عرف بمجرد السمع، فقوله باطل، قد بينا بطلانه فى كتاب المفتاح من ستين وجها وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول. والطريق الثانى لمعرفة الضار والنافع من الأعمال: السمع. وهو أوسع وأبين وأصدق من الطريق الأول، لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها، وأن العالم بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا من
(15/178)
ص -139- كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقا للسنة، كما قال مجاهد "أفضل العبادة الرأى الحسن، وهو اتباع السنة" قال تعالى: {وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الّذِى أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]. وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول فى مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم: أهل الشبهات والأهواء، لأن الرأى المخالف للسنة جهل لا علم، وهوى لا دين. فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله واتبع هواه بغير علم وغايته الضلال فى الدنيا والشقاء فى الآخرة، وإنما ينتفى الضلال والشقاء عمن اتبع هدى الله الذى أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {فَإمَّا يَأْتيَّنكُمْ مِنِّى هُدى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلاَ يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123-124]. واتباع الهوى يكون فى الحب والبغض، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالٍدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيَّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَولَى بهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. والهوى المنهى عن اتباعه كما يكون هو هوى الشخص فى نفسه، فقد يكون أيضا هوى غيره، فهو منهى عن اتباع هذا وهذا، لمضادة كل منهما لهدى الله الذى أرسل به رسله، وأنزل به كتبه. فصل فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها، فلا تطمح
(15/179)
نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل، قال تعالى: {هُوَ الّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ
(15/180)
ص -140- نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه سئل "من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة" ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول، إذا حدث عنها: "حدثتنى الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، المبَّرأة من فوق سبع سماوات". وصح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب. وجعلت قرة عينى فى الصلاة". فلا عيب على الرجل فى محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهى مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهى محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء والعسل، ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه. فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب. وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله. فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله ومحبة فى الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته. والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها. فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق. فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان
(15/181)
والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
(15/182)
ص -141- والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها. ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا، كان أبعد من عشق الصور، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق، لشركها. ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه، قال تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا. فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلصه الله من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل. فصل ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور: أنه يمنى أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد، أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى، لا للفاحشة، ويأمره بمواخاته. وهذا من جنس المخادنة، بل هو مخادنة باطنة. كذوات الأخدان اللاتى قال الله تعالى فيهن: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]. وقال فى حق الرجال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]. فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى، ويبطنون اتخاذها خدنا، يتلذذون بها فعلا، أو تقبيلا، أو تمتعا مجرد النظر والمخادنة، والمعاشرة، واعتقادهم أن هذا لله، وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغى، وتبديل الدين، حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له، وذلك من نوع الشرك، والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت. فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله، وأنه حب فيه: كفر وشرك، كاعتقاد محبى الأوثان فى أوثانهم.
(15/183)
ص -142- وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق، جدير بالثواب، وأنه ساع فى دوائه وشفائه، وتفريج كرب العشق عنه، وأن "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". فصل ثم هم بعد هذا الضلال والغى أربعة أقسام: قوم يعتقدون أن هذا لله، وهذا كثير فى طوائف العامة، والمنتسبين إلى الفقر والتصوف، وكثير من الأتراك. وقوم يعلمون فى الباطن أن هذا ليس لله، وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا. وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك، لما يرجى لهم من التوبة. ومن وجه أخبث، لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم، وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهى قربة وطاعة، ووقع فى ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد، فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة. القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى. فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التى لا وطء فيها لله تعالى، وأن الفاحشة معصية، فيقولون نفعل شيئا لله تعالى، ونفعل أمرا لغير الله تعالى، وتارة يكونون من أهل القسم الثانى الذين يظهرون أن هذه المحبة لله، وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك، فيجمعون بين الكذب والفاحشة، وهم فى هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين. وقد يزيد عليه تارة فى الكم والكيف، وقد ينقص عنه. وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين فى الله، لكن الذين
(15/184)
ص -143- آمنوا أشد حباً لله، فإن المتحابين فى الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت، بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية. ثم قد يشتد بينهما الاتصال حتى يسمونه زواجاً، ويقولون: تزوج فلان بفلان، كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة، ويقرهم الحاضرون على ذلك، ويضحكون منه، ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح. وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله، والملتحى عدو الله، وربما اعتقد كثير من المرادن أن هذا صحيح، وأنه المراد بقوله "إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إنى أحب فلانا فأحبه - الحديث". وأنه توضع له المحبة فى الأرض، فيعجبه أن يحب، ويفتخر بذلك بين الناس، ويعجبه أن يقال: هو معشوق، أو حظوة البلد، وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك. وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان. وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح، والشكوى إلى القاضى، وفرض النفقة، والحبس على الحقوق. وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان. لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الأخر بحكم الطبيعة. وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر، ومملوك، ومعشوق خاص. فالأول: بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن. والثانى: بإزاء الأمة والسرية. والثالث: بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة. وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث. وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان
(15/185)
ص -144- واستفراشهم على النساء من وجوه. وهذا مضادة ومحادة لله ودينة وكتبه ورسله. وصنف بعضهم كتابا فى هذا الباب، وقال فى أثنائه: باب فى المذهب المالكى، وذكر فيه الجماع فى الدُبر من الذكور والإناث. وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأشدهم مذهبا فى هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطى حدا، بكرا أو ثيبا، وقوله فى ذلك هو أصح المذاهب، كما دلت عليه النصوص، واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن اختلفت أقوالهم فى كيفية قتله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته فى دبرها، وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه. ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور، وجعلوا البابين بابا واحدا. وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة. ونظير هذا: ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن تكون صغيرة من الصغائر. وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة. فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك. وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها. وهذا ظن كاذب. فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره، فإن جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا. ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم، وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم.
(15/186)
ص -145- وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فحش هذا مركوز فى طباع الأمم. فاكتفى فيه بالوازع الطبعى، كما اكتفى بذلك فى أكل الرجيع وشرب البول والدم، ورتب الحد على شرب الخمر، لكونه مما تدعو إليه النفوس. والجمهور يجيبون عن هذا بأن فى النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعى لذلك فالحد فيه أولى من الحد فى الزنا، ولذلك وجب الحد على من وطئ أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان فى النفوس وازع وزاجر طبعى عن ذلك، بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا فى أصح الأقوال، وهو مذهب أحمد وغيره. هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان. ونظير هذا الظن الكاذب، والغلط الفاحش: ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة، أو مباحة، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر، وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك، وأدخلت المملوك فى قوله: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6، المعارج: 30]. وحتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها، تتأول القرآن على ذلك، كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها، وتأولت هذه الآية، ففرق عمر رضى الله عنه بينهما، وأدبها، وقال "ويحك، إنما هذا للرجال لا للنساء". ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْد مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مٍنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]. على ذلك، قال: وقد سألنى بعض الناس عن هذه الآية، وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها فى إباحة ذكران العبيد المؤمنين. قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع، يبيحه بعض العلماء، ويحرمه بعضهم، ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل، فإنه ليس فى فرق الأمة من يبيح ذلك، بل ولا فى دين من أديان الرسل، وإنما يبيحه زنادقة العالم، الذين لا يؤمنون بالله ورسله، وكتبه واليوم الآخر.
(15/187)
ص -146- قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة، مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع، إلى أمثال هذه الأمور التى خاطبنى فيها وسألنى عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء. قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء فى وجوب الحد فيه، فظن أن ذلك خلاف فى التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات، كالميتة والدم ولحم الخنزير، وليس فيه حد مقدر. ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذى هو من خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظن الفاسد الذى هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين، وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة، فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية. ولما سهل هذا الأمر فى نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده، أنه لم يطأه سواه، كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها، وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه، أو مؤاخيه أو معلمه، وكذلك من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذى هو قرينه وعشيره كالزوجة، أو عما سوى مملوكه، الذى هو كسريته. ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبى على فعل الفاحشة، فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس، فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به. قال شيخنا: وحكى لى من أثق به: أن بعض هؤلاء أخُذِ على هذه الفاحشة، فحكم عليه بالحد، فقال: والله هو ارتضى بذلك، وما أكرهته ولا غصبته، فكيف أعاقب؟ فقال نصير المشركين - وكان حاضرا - هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب.
(15/188)
ص -147- ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة، وحفظ النفس، كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير فى المخمصة. وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التدواى، وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصى درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللهُ بَصِيرٌ بَما يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163] وقال: {وَلِكلٍّ دَرَجَاتٌ مّمِا عَمِلُوا، وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]. وقال {إنَما النّسِئُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْر} [التوبة: 37] وقال {فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناًِ وَهُمْ يَسْتَبِشرُونَ وَأمَّا الّذِينَ فِى قُلُوبهمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رجْساً إلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]. ونظائره فى القرآن كثيرة. ومن أخف هؤلاء جرما: من يرتكب ذلك معتقدا تحريمه، وأنه إذا قضى حاجته قال: استغفر الله فكأن ما كان لم يكن. فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق، كتلاعب الصبيان بالكرة، وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان فى كل قالب. وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها، فالمتخذ خدْناً من النساء والمتخذة خدنا من الرجال أقل شرا من المسافح والمسافحة مع كل أحد، والمستخفى بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدِّث للناس به، فهذا بعيد عن عافية الله تعالى وعفوه، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كُلُّ أُمَّتِى معافى إلا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَسْتُرَ اللهُ تعَالى عَلَيْهِ ثُمً يُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ، يَقُولُ، يَا فُلاَن، فَعَلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا فَيَبِيتُ رَبُّهُ يَسْتُرُهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْ نَفْسِهِ" أو كما
(15/189)
قال. وفى الحديث الآخر عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُبْتُلِى مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيءْ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ":
(15/190)
ص -148- وفى الحديث الآخر "إنَّ الْخَطِيئَةَ إذا خفِيتَ لَمْ تَضُرَّ إلا صَاحِبَهَا، وَلكِنْ إذَا أعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ". وكذلك الزنا بالمرأة التى لا زوج لها أيسر إثما من الزنا بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفساد فراشه عليه، وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا، أو دونه. والزنا بحليلة الجار أعظم إثما من الزنا ببعيدة الدار، لما اقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به. وكذلك الزنا بامرأة الغازى فى سبيل الله أعظم إثما عند الله من الزنا بغيرها. ولهذا يقام له يوم القيامة ويقال له: "خذ من حسناته ما شئت". وكما تختلف درجاته بحسب المزنى بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل. فالزنا فى رمضان ليلا أو نهاراً أعظم إثما منه فى غيره. وكذلك فى البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثما منه فيما سواها. وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من الحر أقبح منه من العبد. ولهذا كان حَدُّه على النصف من حده. ومن المحصن أقبح منه من البكر، ومن الشيخ أقبح منه من الشاب. ولهذا كان أحد الثلاثة الذين ل | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:31 | |
| ص -162- قال الزجاج: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام، فيمتنع منه لئلا يقال أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه فى الفضل. ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة، أن الفقير يقول: لِمَ لَمْ أكن مثل الغنى؟ ويقول الضعيف: هلا كنت مثل القوى؟ ويقول المبتلى، هلا كنت مثل المعافى؟ وقال الكفار: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِى رُسلُ اللهِ} [الأنعام: 124]. قال مقاتل: نزلت فى افتتان المشركين بفقراء المهاجرين، نحو بلال، وخباب، وصهيب، وأبى ذر، وابن مسعود، وعمار، كان كفار قريش يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا؟ قال الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيق مِنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتّخَذْتُموهُمْ سِخْرِيا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بَما صَبَرُوا أَنّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109- 111]. فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]. قال الزجاج: أى أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون: قلت: قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر هاهنا، وفى قوله: {ثُمَّ إنَّ رَبّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110]. فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة. فالفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب: قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]. فالفتنة قسمت الناس، إلى صادقٍ وكاذبٍ ومؤمن
(15/209)
ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ. فمن صبر عليها كانت رحمة فى حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع فى فتنة أشد منها. فالفتنة لا بد منها فى الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يفُتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكمْ هذا الّذِى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14]. فالنار فتنة من لم يصبر
(15/210)
ص -163- على فتنة الدنيا، قال تعالى فى شجرة الزقوم: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَة لِلظَّالِمينَ} [الصافات: 63]. قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: يكون فى النار شجرة والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنّهَا شَجَرَة تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64]. فأخبرهم أن غذاءها من النار، أى غذيت بالنار. قال ابن قتيبة: قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار، ومن جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها، وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما يُعلم لم تبق على النار، وإنما دلَّنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة، والمعانى مختلفة، وما فى الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك. والمقصود: أن هذه الشجرة فتنة لهم فى الدنيا، بتكذيبهم بها، وفتنة لهم فى الآخرة بأكلهم منها. وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، كان فتنة للكفار، حيث قال عدو الله أبو جهل: أيخوفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فقال أبو الأسد: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة فأنا أمشى بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبى الأيمن، وتسعة بمنكبى الأيسر فى النار، ونمضى فندخل الجنة. فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم فى الدنيا، وفتنة لهم يوم القيامة. والكافر مفتون بالمؤمن فى الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون
(15/211)
ص -164- ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، كما قال الحنفاء: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 4-5]. وقال أصحاب موسى عليه السلام: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنْةً لِلْقَوْمِ الظّالمِينَ} [يونس: 85]. قال مجاهد: المعنى، لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتنوا بذلك. وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار، فيروا أنهم على حق وأنا على باطل. وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم. وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر، فقال: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 52] فقال الله تعالى {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرين} [الأنعام: 53]. والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكل من النوعين فتنة للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصح وإلا فبسبيل من هلك، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله سلم: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ" أو كما قال. فالعبد فى هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوى المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده، مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلا فى دار أخرى غير هذه الدار التى خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه
(15/212)
الإيمان به: فَوَ اللهِ، لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ ِتَوْفِيقِه وَاللهُ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ
(15/213)
ص -165- لمَا ثَبَتَ الإيمَانُ يَوْماَ بِقَلْبِهِ عَلَى هذِه العِلاّتِ، وَالأَمْرُ أَعْظَمُ وَلا طَاوَعَتْهُ النّفْسُ فى تَرْكِ شَهْوَةٍ مَخَافَةَ نَارٍ جَمْرهَا يَتَضَرَّمُ وَلا خَافَ يَوْماً منْ مَقَامِ إلهِهِ عَلَيْهِ بحُكْمِ القِسْطِ، إذْ لَيْسَ يَظْلِمُ فصل والفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهى أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما. ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت فى ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنُفُسُ} [النجم: 23]. وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بَما نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ} [ص: 26]. وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهى فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التى اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال. ولا ينُجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه فى دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام. وما يثبته الله من الصفات والأفعال، والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نُصبُ الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل
(15/214)
ص -166- من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولا فى شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول فى كل شيء تحتاج إليه الأمة فى العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه، ووزنه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده، ولو قاله من قاله، فهذا الذى ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه. وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهى من عمى فى البصيرة، وفساد فى الإرادة. فصل وأما النوع الثانى من الفتنة. ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين فى قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعْوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69]. أى تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال وخضتم كالذى خاضوا فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات. فأشار سبحانه فى هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هو المبدع وما والاها، والثانى: فسق الأعمال. فالأول فساد من جهة الشبهات، والثانى من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه".
(15/215)
ص -167- وكانوا يقولون "احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأى على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثانى: أصل فتنة الشهوة. ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنّهُمْ أَئمِةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين. وجمع بينهما أيضاً فى قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]. فتواصوا بالحق الذى يدفع الشبهات، وبالصبر الذى يكف عن الشهوات. وجمع بينهما فى قوله: {وَاذْكْرُ عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ} [ص: 45]. فالأيدى: القوى والعزائم فى ذات الله، والأبصار: البصائر فى أمر الله. وعبارات السلف تدور على ذلك. قال ابن عباس "أولى القوة فى طاعة الله، والمعرفة بالله". وقال الكلبى "أولى القوة فى العبادة، والبصر فيها". وقال مجاهد "الأيدى: القوة فى طاعة الله، والأبصار: البصر فى الحق". وقال سعيد بن جبير "الأيدى: القوة فى العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم". وقد جاء فى حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات". فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان.
(15/216)
ص -168- فصل إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله. وهما الهدى، والرحمة. قال تعالى عن موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65]. فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10]. فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به. والرشد والهدى إذا أفرد كل منها تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما. فالهدى هو العلم بالحق. والرشد هو العمل به وضدهما الغَى واتباع الهوى. وقد يقابل الرشد بالضر والشر. قال تعالى: {قُلْ إنِّى لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرا وَلا رَشَداً} [الجن: 21]. وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَر أُرِيدَ بِمَنْ فى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10]. فالرشد يقابل الغى، كما فى قوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذُوهُ سَبِيلاً، وَإنْ يَروْا سَبيلَ الْغَى يَتَّخِذوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146]. ويقابل الضر والشر كما تقدم، وذلك لأن الغى سبب حصول الشر والضر ووقوعهما بصاحبه. فالضر والشر غاية البغى وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته. فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقبضه، فيقابل الهدى بالضلال، كقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاء} [النحل: 93] وقوله {إنْ تَحْرصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وهو كثير. ويقابل بالضلال والعذاب. كقوله: {فَمنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123]. فقابل الهدى بالضلال والشقاء. وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله: {إنَّ المُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ
(15/217)
وَسُعُرٍ} [القمر: 47]. فالضلال ضد الهدى، والسعر العذاب، وهو ضد الرحمة.
(15/218)
ص -169- وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعيِشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي} [طه: 124]. والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة، والهدى والفلاح. قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة إِنّكَ أنت الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِى نُسْخَتهَا هُدًى وَرَحْمَة لِلَّذِينَ هُمْ لِربِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وقال تعالى: {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الأعراف: 203] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِنْ تصديِقَ الّذِى بَيْنَ يَدَيَهِ وتفصيل كُلِّ شَئ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاء لَمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. فقوله: "هذا بصائر من ربكم" عام مطلق، وقوله: "وهدى ورحمة لقوم يوقنون" خاص بأهل اليقين. ونظير ذلك قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لَمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ} [يونس: 57]. ونظيره فى الخصوص قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتّقِينَ} [البقرة: 2] وقوله: {يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اُتَبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة: 16]. ونظيره أيضا قوله: {هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ} [آل عمران: 138]. وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين. فقال: {إِنْ يَتّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ
(15/219)
رَبِّهِمُ الهُدْى} [النجم: 23]. فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس. والبصائر جمع بصيرة، وهى فعيلة بمعنى مفعلة، أى مبصرة لمن تبصر. ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثُمودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59].
(15/220)
ص -170- أى مبينة موجبة للتبصر. وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا. يقال: أبصرته، بمعنى أريته، وأبصرته، بمعنى رأيته، فمبصرة فى الآية: بمعنى مرئية، لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا فى الآية، وتحيروا فى معناها. فإنه يقال: بصر به، وأبصره، فيعدى بالباء تارة، والهمزة تارة. ثم يقال: أبصرته كذا، أى أريته إياه، كما يقال: بصرته به. وبصر هو به. فهاهنا بصيرة، وتبصرة، ومبصرة. فالبصيرة: المبينة التى تبصر، والتبصرة مصدر مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تبصرة، لكونها آلة التبصر، وموجبه. فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين، فهو فى نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة. فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذى يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله، فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى. فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن يهتد به، فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون. والهدى فى الأصل: مصدر هدى يهدى هدى. فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا، كما فى الأثر "من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا" ولكن يسمى هدى، لأن من شأنه أن يهدى. وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى، بمعنى هاد، فهو مصدر بمعنى الفاعل، كعدل بمعنى العادل، وزور بمعنى الزائر، ورجل صوم أى بمعنى صائم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدى به. فالله الهادى، وكتابه الهدى الذى يهدى به على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فهاهنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآله. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلب
(15/221)
ص -171- العبد، والآلة: هو الذى يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزل، والله سبحانه يهدى خلقه هدى، كما يقال: دلهم دلالة، وأرشدهم إرشادا، وبين لهم بيانا. والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقى، المنيب إلى ربه، الخائف منه، الذى يبتغى رضاه، ويهرب من سخطه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل، فيتأثر به، فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول، وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئا، بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده، كما قال تعالى فى السورة التى نزلها: {فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِروُنَ وَأَمَّا الّذِينَ فِى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]، وقال: {وَنُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ، وَلا يزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل، وهو الهادى تارة، ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة. وقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذى فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به، وهؤلاء ليس فى قلوبهم شيء من ذلك، فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية، والتى لا تمسك ماء، ولا تنبت كلاء، فلا هى قابلة للماء ولا للنبات، فالماء فى نفسه رحمة
(15/222)
وحياة، ولكن ليس فيها قبول له. ثم أكد الله هذا المعنى فى حقهم بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى، وهى الكبر والإعراض، وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا، ولم يتبعوا الحق. ولم يعملوا به، فالهدى فى حق هؤلاء هدى بيان وإقامة
(15/223)
ص -172- حجة، لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى فى حقهم بالرحمة. وأما المؤمنون: فاتصل الهدى فى حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة ولأولئك هدى بلا رحمة. والرحمة المقارنة للهدى فى حق المؤمنين عاجلة وآجلة. فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى فى الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق، فهم يتقلبون فى نور هداه، ويمشون به فى الناس، ويرون غيرهم متحيرا فى الظلمات، فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى، قال تعالى: {قلْ بِفَضْل اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مَّمِا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته. وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن، واتباع الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التى يرحم الله بها من يشاء من عباده، فإن الأمن والعافية والسرور، ولذة القلب ونعيمه وبهجته، وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة، والخوف، ولهم، والغم، والبلاء، والألم، والقلق: مع الضلال والحيرة. ومثل هدا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنا مطمئنا، والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه؟ كما قال تعالى: {قلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ كَالّذِى اسْتهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِى الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى اُئْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى الله هو الُهدَى} [الأنعام: 71]. فالرحمة التى تحصل لمن حصل له الهدى، هى بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، وهذه هى الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهى غير الرحمة العامة بالبر والفاجر. وقد جمع الله سبحانه
(15/224)
لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى: {أُولِئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحَمةٌ وَأُولئِكَ هُمْ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]. قال عمر
(15/225)
ص -173- بن الخطاب رضى الله تعالى عنه "نعم العدلان، ونعمت العلاوة" فبالهدى خلصوا من الضلال، وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب، وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة. والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة: الضلال عن طريق السعادة، والوقوع فى ضد الرحمة من الألم والعذاب، والذم واللعن، الذى هو ضد الصلاة. ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى فى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وكان الصديق رضى الله تعالى عنه من أرحم الأمة، وقد روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "أرحم أمتى بأمتى أبو بكر" رواه الترمذى، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه "وكان أبو بكر رضى الله عنه أعلمنا به، يعنى النبى صلى الله تعالى وآله وسلم" فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة. وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما. فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل
(15/226)
ص -174- هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول، فكم من مكرم لنفسه بزعمه، وهو لها مهين، ومرفه لها، وهو لها متعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها، وقد حال بينها وبين جميع لذاتها، فلا علم له بمصالحها التى هى مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسها حظها، وأضاع حقها، وعطل مصالحها، وباع نعيمها الباقى، ولذتها الدائمة الكاملة، بلذة فانية مشوبة بالتنغيص، إنما هى كأضغاث أحلام أو كطيف زار فى المنام، وليس هذا بعجيب من شأنه، وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة. فلو هدى ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذى يصلح للهدى والرحمة. فهو الذى يؤتيها العبد. كما قال عن عبده الخضر: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِلمْاً} [الكهف: 65]، {رَبنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهِّيئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10]. فصل ومما ينبغى أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضى إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. فهذه هى الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك فى إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك. فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه فى ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التى تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه [ويرفّهُهُ] ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم. ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به ولكن
(15/227)
العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه. | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:32 | |
| ص -175- وقد جاء فى الأثر "إن المبتلى إذا دعى له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟" وفى أثر آخر "إن الله إذا أحب عبداً حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمى أحدكم مريضه". فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه. كيف؟ وهو الجواد الماجد، الذى له الجود كله، وجود جميع الخلائق فى جنب وجود أقل من ذرة فى جبال الدنيا ورمالها. فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهى رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغنى الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم. ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فى النعيم المقيم فى داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم. ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوف بِالْعِبًادِ} [آل عمران: 30]. قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه، لئلا يغتروا به. فصل ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب. فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين و طريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله وأوجبه، وبالله التوفيق.
(15/229)
ص -176- فصل إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة، والمقصود به التنعم بالمراد المحبوب، فكل حى إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته. فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة، كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف، ولكن وقع الجهل والظلم من بنى آدم بمعنيين: بالدين الفاسد، والدنيا الفاجرة، طلبوا بهما النعيم وفى الحقيقة فإنما فيهما ضده. ففاتهم النعيم من حيث طلبوه، وآثروه، ووقعوا فى الألم والعذاب من حيث هربوا منه. وبيان ذلك: أن الأعمال التى يعملها جميع بنى آدم إما أن يتخذوها دينا أو لا يتخذوها دينا. والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حق، وإما أن يكون دينا باطلا. فنقول: النعيم التام: هو فى الدين الحق علما وعملا. فأهله هم أصحاب النعيم الكامل. كما أخبر الله تعالى بذلك فى كتابه فى غير موضع، كقوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7]. وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب: {أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وقوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتْبَعَ هُدَاى فَلاَ يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] وفى الآية الأخرى {فَمَنْ تَبِعَ هُدَاى فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لفِى نَعِيمٍ وَإنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14]. فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام فى الدار الآخرة، ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء فى الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وتضمنته الكتب. ولكن نذكر هاهنا نكتة نافعة. وهى: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان فى الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفجار
(15/230)
والظلمة فى الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم فى الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم فى الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة فى الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذا سمع فى القرآن قوله تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]
(15/231)
ص -177- وقوله {وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصافات: 173] وقوله {كَتَبَ الله لأغْلِبن أَنَا وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله {وَالعَاقِبةُ لِلْمُتّقِينَ} [الأعراف: 128، القصص: 83]. ونحو هذه الآيات، وهو ممن يصدق بالقرآن، حمل ذلك على أن حصوله فى الدار الآخرة فقط وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر. والقرآن لا يرد بخلاف الحس، ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى. فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق. وأنا مغلوب: فصاحب الحق فى هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها الباطل. فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا فى الآخرة فقط. وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه، وأهل الحق؟ فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح، قال: يفعل الله فى ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وإن كان ممن يعلل الأفعال، قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب. ولكل أحد مع نفسه فى هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك، فالقلوب تغلى بما فيها، كالقدر إذا استجمعت غليانا. فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، فكان الجهم يخرج بأصحابه، فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء، ويقول انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا لرحمته، كما أنكر حكمته. فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما.
(15/232)
ص -178- وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضر من الخالق. وكان بعضهم يتمثل: إذَا كانَ هذَا فِعْلُهُ مُحِبِّة فمَا تَرَاهُ فى أَعَادِيهِ يَصْنَعُ؟ وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربى ما كان ذنبى، حتى فعلت بى هذا؟ وقال لى غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق على رزقى، ونكد على معيشتى، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسى مرادها، جاءنى الرزق والعون ونحو هذا. فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق فى مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة، أم أنت كاذب فترجع على عقبك؟. وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين. إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهى عنه، واعتقاده فى خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه. والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة فى الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم، والفجور والعدوان. فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.
(15/233)
ص -179- فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب فى الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع، ودفع الضر، بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح. فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة ينافى ذلك. وأنه يعادى جميع أهل الأرض لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة فى كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا فى أصل الدين كان فى كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمسِى كافِراً، وَيُمْسِى كافِراً وَيُصْبِحُ مُؤْمِناً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا". وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لابد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة. فسبحان الله، كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين. وأصلها ناشئ من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة النعيم الذى هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها، فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم. ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذى يطلبه، والعمل الذى يوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر.
(15/234)
ص -180- فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له، وعلمه بالطريق الموصل إليه وعمله به، وصبره على ذلك. قال الله تعالى {وَالْعَصْرِ إنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3]. والمقصود: أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده. فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا، وترك المحظور باطنا وظاهرا، وهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة. وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى فى الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة فى الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين، على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده. فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرا فى العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هى من باب الفضائل والمستحبات. فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما. بل ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا
(15/235)
يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع
(15/236)
ص -181- ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه. بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله فى ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما، كأصحاب السماع الشعرى الذى يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنون أنهم من أولياء الرحمن، وهم فى الحقيقة من أولياء الشيطان. وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، حبك الشيء يعمى ويصم. والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد به حبه لنفسه، حتى يرى مساويها محاسن، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيَّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهٍ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8]. ويشتد به بغض خصمه، حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قيل: نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ، وَلَوَ أنَّهَا عَيْنُ الرِّضَا، لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا
(15/237)
وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا، فإن الإنسان ظلوم جهول. وأكثر ديانات الخلق إنما هى عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلدوهم فيها: فى الإثبات والنفى، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة. والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علما وعملا، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذى بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوِلهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون: 8]. فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففى مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علما وعملا ظاهرا وباطنا. وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]. فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه.
(15/238)
ص -182- وكذلك الكفاية والحَسْب هى بقدر الإيمان، قال تعالى: {يأَيُّهَا النَّبى حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]. أى الله حسبك وحسب أتباعك، أى كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص. وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هى بحسب إيمانه قال تعالى: {وَاللهُ وَلِى المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقال الله تعالى: {اللهُ وَلِى الّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]. وكذلك معيته الخاصة هى لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان. وكذلك النصر والتأييد الكامل. إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] وقال {فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]. فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هى بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه. وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الحجة. والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن
(15/239)
عزيز غالب مؤيد منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة
(15/240)
ص -183- الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا. وقد قال تعالى للمؤمنين: {وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التى هى جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره. فصل وأما المقام الثانى الذى وقع فيه الغلط، فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق فى يكونون الدنيا أذلاء مقهورين مغلوبين دائما، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك خاصا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة، وإن لم يصرح بها. وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم فى كتابه. والله سبحانه قد بين فى كتابه أنه ناصر المؤمنين فى الدنيا والآخرة. قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الأَذَلَّينَ * كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 20- 21] وهذا كثير فى القرآن. وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدو، أو كسر، وغير ذلك فبذنوبه. فبين سبحانه فى كتابه كلا المقدمتين، فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر، وزال الإشكال بالكلية، واستغنيت عن تلك التكليفات الباردة، والتأويلات البعيدة. فقرر
(15/241)
سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير: منها ما تقدم.
(15/242)
ص -184- ومنها: أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين، كقوله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِينَ فَتَرَى الّذِينَ فى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِى بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمينَ وَيَقُولُ الّذِينَ آمنُوا أَهؤْلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهمْ إِنَّهُمْ لمعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهٌُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائمٍ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيموُنَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 51 - 56]. فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون. ونظير هذا قوله: {بشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً الّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّة ؟ فَإنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً} [النساء: 138 - 139]. وقال تعالى: {يَقُولونَ لَئنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ
(15/243)
مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ المُنَافِقينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلمِ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. أى من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح. وقال تعالى: {هُوَ الّذِى أَرْسلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينَ كُلِّهِ} [التوبة: 33، الفتح: 29، الصف: 9].
(15/244)
ص -185- وقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فى سَبِيلِ اللهِ بأَمْوَالِكُمْ وَأَنُفُسكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة فى جَنّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحبِوُّنَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] أى ويعطيكم أخرى فوق مَغْفِرَةِ الذنوب ودُخول الجنة، وهى النّصْرُ والفتح {يأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِى إلَى اللهِ، قالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحَنُ أَنْصَارُ اللهِ، فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِى إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةُ، فَأَيدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين} [الصف: 14]. وقال تعالى للمسيح: {إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمْطَهِّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِل الّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55]. فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة. وقال تعالى للمؤمنين: {وَلَوْ قَاتَلَكمُ الّذِينَ كَفَرُوا لَولَّوا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاَ} [الفتح: 22- 23]. فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرا وباطنا. وقال تعالى: {والْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّيِنَ} [الأعراف: 128] وقال: {وَالْعَاقِبةُ
(15/245)
لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. والمراد: العاقبة فى الدنيا قبل الآخرة، لأنه ذكر ذلك عقيب قصة نوح، ونصره وصبره على قومه. فقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أنْتَ وَلا قَوْمكَ مِنْ قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّينَ} [هود: 49]. أى عاقبة النصر لك ولمن معك، كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه. وكذلك قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وقال تعالى: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرٍّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120].
(15/246)
ص -186- وقال: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكمْ بِخمسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]. وقال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أنه نُصِرَ بتقواه وصبره، فقال: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِى قدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإنَ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] {يأَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيكَفِّرْ عنكم سَيَّئَاتِكُم} [الأنفال: 29]. والفرقان: هو العز والنصر، والنجاة والنور الذى يفرق بين الحق والباطل. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتّق اللهَ يْجعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْب إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلَّ شَيءْ قَدْراً} [الطلاق: 2- 3]. وقد روى ابن ماجه وابن أبى الدنيا عن أبى ذر رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لَوْ عَمِلَ النَّاسُ كُلُّهمْ بِهذِهِ الآية لَوَسِعَتْهُمْ" فهذا فى المقام الأول. وأما المقام الثانى: فقال تعالى فى قصة أُحُدٍ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذَا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]. وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبمِاَ كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وقال: {وَإنَّا إذَا
(15/247)
أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنّا رَحْمَةَ فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصبْهُمْ سَيِّئَةٌ
(15/248)
ص -187- بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48]. وقالَ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهمْ سَيِّئَةٌ بما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُون} [الروم: 36]. وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34]. وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنَ نَفُسِكَ} [النساء: 79]. ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لا بد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار، ولا بد فى انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة. وبالصبر يتم اليقين بالوعد. وقد جمع الله سبحانه بينهما فى قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَق وَاستْغَفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِى وَالإبْكَارِ} [غافر: 55]. وقد ذكر الله سبحانه فى كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجاهم بالصبر والطاعة، ثم قال: {لَقَدْ كانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِى الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. فصل وتمام الكلام فى هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة. الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار. والواقع شاهد بذلك. وكذلك ما يصيب الأبرار فى هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير. الأصل الثانى: أن ما يصيب المؤمنين فى الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعوَّلهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء، ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {وَلا
(15/249)
ص -188- تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإٍنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَالا يَرْجُونَ} [النساء: 104]. فاشتركوا فى الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى. الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذى فى الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان فى قلبه، حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء، وإذا كان لابد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته. الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت فى القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب فى رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم: لَئنْ سَاءنِى أَنْ نِلْتَنِى بَمسَاءةٍ لَقَدْ سَرَّنِى أَنِّى خَطَرْتُ بِبَالِكَ فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى، الذى ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه. الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان، وإن كان فى الظاهر بخلافه. الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التى لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما
(15/250)
ص -189- قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "والذى نفسى بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له". فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء حسب دينه، فإن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان فى دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة. الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن فى هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له فى بعض الأحيان: أمر لازم، لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية فى هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير فى هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التى مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه فى دار أخرى، غير هذه الدار، كما قال تعالى: {لَيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الَخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فى جَهَنّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل. فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا: ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة
(15/251)
ص -190- فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غَلَبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أو لياءه. ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين، غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول. فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد. فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه. ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلله سبحانه على العباد فى كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش والنصب، وأضدادها. فتلك المحن والبلايا شرط فى حصول الكمال الإنسانى والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمة ممتنع. ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم كما قال تعالى فى حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسسَكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ ندَاوِلهُاَ بَيْنَ النَّاسِ وَلِيعَلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ وَلِيمُحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَق الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ
(15/252)
تَمَنَّونَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ وَمَا مُحمَّد إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ منْ قَبْلِهِ الرُّسُل أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللهُ الشّاكِرِينَ} [آل عمران: 139 - 144].
(15/253)
ص -191- فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التى لأجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوه من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح فى طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداءهم القرح فى عداوته وعداوة رسوله. ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها، كالأرزاق والآجال. ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا. ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل فى سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التى هى من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد. ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين: أى تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التى أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم، وعدوانهم إذا انتصروا. ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر. وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم فهذا بعض حِكَمِه فى نصر عدوهم عليهم، وإدالته فى بعض الأحيان. الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض وخلق الموت والحياة وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها. قال تعالى: {وَهُوَ الّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ فى سِتّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَ المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاَ} [هود: 7].
(15/254)
ص -192- وقال {إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف:7]. وقال {الَّذِى خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحسَنُ عَمَلاَ} [الملك: 2]. وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. وقال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وقال تعالى {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يفُتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3]. فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، أولا يؤمن، بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنت فلا بد أن يمتحنه الرب ويبتليه، ليتبين: هل هو صادق فى قوله، آمنت، أو كاذب؟ فإن كان كاذبا رجع على عقبيه، وفر من الامتحان، كما يفر من عذاب الله، وإن كان صادقا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه. قال تعالى {وَلَمَّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُه وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولهُ وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيِماً} [الأحزاب: 22]. وأما من لم يؤمن، فإنه يمتحن فى الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهى أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها، وعقوبتها التى أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلا بد من المحنة فى هذه الدار وفى البرزخ، وفى القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية. فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته. وأما
(15/255)
الكافر والمنافق والفاجر، فتشتد محنته
(15/256)
ص -193- وبليته وتدوم، فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة. فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم فى الدنيا ابتداء، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر، تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحبة والألم البتة، يوضحه: الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدنى بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلا بد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم. وفى الموافقة ألم وعذاب، إذا كانت على باطل، وفى المخالفة ألم وعذاب، إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم، وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم فى باطلهم أسهل من الألم المترتب على موافقتهم. واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم. فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم. فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما، والتوفيق بيد الله. الأصل الحادى عشر: أن البلاء الذى يصيب العبد فى الله لا يخرج عن أربعة أقسام. فإنه إما أن يكون فى نفسه، أو فى ماله، أو فى عرضه أو فى أهله ومن يحب. والذى فى نفسه قد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف، فهذا مجموع ما يبتلى به العبد فى الله.
(15/257)
ص -194- وأشد هذه الأقسام: المصيبة فى النفس. ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد فى الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس فى قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبنى آدم. فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إن فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذْا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلاَ} [الأحزاب: 16]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا، إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه. ثم قال: {مَنْ ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَة ؟ وَلا يَجِدُونَ لَهُمُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيا وَلا نَصِيراً} [الأحزاب: 17]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله، إن أراد به سوءا غير الموت الذى فر منه، فإنه من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل فى سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه. وإذا كان هذا فى مصيبة النفس، فالأمر هكذا فى مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه فى سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره.فيكون له مَهْنَؤهُ وعلى مخلِّفه وزوه. وكذلك من رَفَّه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله أتعبه الله سبحانه
(15/258)
أضعاف ذلك فى غير سبيله، ومرضاته وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب. | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:33 | |
| ص -195- قال أبو حازم: "لما يلقى الذى لا يتقى الله معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذى يتقى الله من معالجة التقوى". واعتبر ذلك بحال إبليس. فإنه امتنع من السجود لآدم فرارا أن يخضع له ويذل، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وكذلك عباد الأصنام، أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر، وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار. وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يذل ماله فى مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه فى طاعته ومرضاته عقوبة له، كما قال بعض السلف: "من امتنع أن يمشى مع أخيه خطوات فى حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها فى غير طاعته". فصل فى خاتمة لهذا الباب، هى الغاية المطلوبة، وجميع ما تقدم كالوسيلة إليها. وهى: أن محبة الله سبحانه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه: أصل الدين وأصل أعماله وإرادته، كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها. فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهة أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم. وقد قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلّةَ إبراهيم حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
(15/260)
ص -196- وكان النبى صلى الله عليه وآله وسلم يوصى أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم، حنيفا مسلما، وما كان من المشركين". وذلك هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وعليها قام دين الإسلام الذى هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وليس لله دين سواه ولا يقبل من أحد دينا غيره. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا فَلَنَ يُقْبَلَ مَنْهُ وهو فِى الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. فمحبته تعالى، بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق، من أعظم واجبات الدين، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، ومن أحب معه مخلوقا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذى لا يغفر لصاحبه، ولا يقبل معه عمل. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبا للهِ} [البقرة: 165]. وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون عبد الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين، ومحبته تبع لمحبة الله، فما الظن بمحبته سبحانه؟ وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته، التى تتضمن كمال تعظيمه والذل له، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأسست الجنة والنار، وانقسم الناس إلى شقى وسعيد، وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء، فليس كمحبته وإجلاله محبة وإجلال ومخافة. فالمخلوق كلما خفته استوحشت منه، وهربت منه. والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه. والمخلوق يخُاف ظلمه، وعدوانه، والرب سبحانه إنما يخُاف عدله وقسطه. وكذلك المحبة. فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهى عذاب للمحب ووبال عليه.
(15/261)
ص -197- وما يحصل له بها من التألم أعظم مما يحصل له من اللذة. وكلما كانت أبعد عن الله كان ألمها وعذابها أعظم. هذا إلى ما فى محبته من الإعراض عنك، والتجنى عليك، وعدم الوفاء لك، إما لمزاحمة غيرك من المحبين له، وإما لكراهته ومعاداته لك، وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحب إليه منك، وإما لغير ذلك من الآفات. وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن، فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها. فمحبة نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن. فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التى يجدها المؤمن فى قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذى يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التى تناله أعلى من كل لذة. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله "إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى مثل هذا، إنهم لفى عيش طيب". وقال آخر: "إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له". وقال آخر: "مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها". وقال آخر: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف". ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى. فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب
(15/262)
ص -198- وجد من هذه الحلاوة فى قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره، ولا أنسابه، وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا، وخضوعا ورقا له، وحرية عن رق غيره. فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقا، حتى يظفر بما خلق له، وهيئ له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه. فإن فيه فقرا ذاتيا إلى ربه وإلهه، من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقرا ذاتيا إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره. وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبودبته له. فَأَصْبَحَ حُرا عِزَّةً وَصِيَانَةً عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهْ وَضِيَاؤُهْ
(15/263)
وما من مؤمن إلا وفى قلبه محبة لله تعالى. وطمأنينة بذكره، وتنعم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنس بقربه، وإن لم يحسن به، لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به، فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به. وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه: هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه. ومتى لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعا لأجله، لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره، وله من موجبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب بحسب ما فاته من ذلك. ولو سعى فى هذا المطلوب بكل طريق، واستفتح من كل باب، ولم يكن مستعينا بالله، متوكلا عليه، مفتقرا إليه فى حصوله، متيقنا أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته، وإعانته، لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه، لم يحصل له مطلوبه. فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فلا يوصِّل إليه سواه، ولا يدل عليه سواه، ولا يعبد إلا بإعانته، ولا يطاع إلا بمشيئته. {لَمِنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].
(15/264)
ص -199- وإذا عرف هذا، فالعبد فى حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته، تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت. فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة، لا نسبة بينها بوجه ما، بل هى أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها. ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشَرَبُ الْخَمَر حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس، وينهاه عما يُشَعِّثه وينقصه. ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصا لله منيبا إليه، مطمئنا بذكره، مشتاقا إلى لقائه منصرفا عن هذه المحرمات، لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها، ويرى استبداله بها عما هو فيه كاستبداله البعر الخسيس بالجوهر النفيس، وبيعه الذهب بأعقاب الجزرَ، وبيعه المسك بالرجيع. ولا ريب أن فى النفوس البشرية من هو بهذه المثابة، إنما يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، ينفر من المطالب العالية، واللذات الكاملة ينفر الجُعَل من رائحة الورد. وشاهدنا من يمسك بأنفه عند وجود المسك ويتكره بها، لما يناله بها من المضرة. فمن خلق للعمل فى الدباغة لا يجيء منه العمل فى صناعة الطيب، ولا يليق ولا يتأتى منه. والنفس لا تترك محبوبا وإلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو للخوف من مكروه هو أشق عليها من فوات ذلك المحبوب. فالذنب يعدم لعدم المقتضى له تارة، ولاشتغال القلب بما هو أحب إليه منه، ولوجود المانع تارة، ومن خوف فوات محبوب هو أحب إليه منه تارة. فالأول: حال من حصل له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به، ما عوض قلبه عن مْيله إلى الذنوب.
(15/265)
ص -200- والثانى: حال من عنده داع وإرادة لها، وعنده إيمان وتصديق بوعد الله تعالى ووعيده، فهو يخاف إن واقعها أن يقع فيما هو أكره إليه، وأشق عليه. فالأول: النفوس المطمئنة إلى ربها. والثانى: لأهل الجهاد والصبر. وهاتان النفسان هما المخصوصتان بالسعادة والفلاح. قَال اللهُ تعَالَى فى النفس الأولى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً فَادْخُلِى فى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى} [الفجر: 27 - 30]. وقال فى الثانية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]. فالنفوس ثلاثة: نفس مطمئنة إلى ربها. وهى أشرف النفوس وأزكاها. ونفس مجاهدة صابرة. ونفس مفتونة بالشهوات والهوى، وهى النفس الشقية، التى حظها الألم والعذاب، والبعد عن الله تعالى والحجاب. فصل فى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كيده للأبوين.ثم لو يقتصر على ذلك، حتى كادّ ذرية نفسه، وذرية آدم. فكان مشئوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس. أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام، كان فى امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه وعزه ونجاته.فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة: أن فى سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه، وهضما لنفسه، إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين، وهو مخلوق من نار. والنار - بزعمه - أشرف من الطين. فالمخلوق منها خير من المخلوق منه، وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه، وهضم لمنزلته. فلما قام بقلبه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم، لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة. فإنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وميزه بذلك عن الملائكة
(15/266)
ص -201- وأسكنه جنته، فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار، فيتعجب منه، ويقول: لأمر عظيم قد خلق هذا، ولئن سلط على لأعصينه، ولئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما تم خلق آدم عليه السلام فى أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها، وكملت محاسنه الباطنة، بالعلم والحلم والوقار، وتولى ربه سبحانه خلقه بيده، فجاء فى أحسن خلق، وأتم صورة، طوله فى السماء ستون ذراعا، قد ألبس رداء الجمال والحسن، والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجودا له، بأمر ربهم تبارك وتعالى، فشق الحسود قميصه من دبر، واشتعلت فى قلبه نيران الحسد المتين، فعارض النص بالمعقول بزعمه، كفعل أوليائه من المبطلين. وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. فأعرض عن النص الصريح، وقابله بالرأى الفاسد القبيح. ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم، الذى لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا. فقال: {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى؟ لَئنْ أَخّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذرِّيّتَهُ إلا قَلِيلاً} [الإسراء: 62]. وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرنى، لم كرمته على؟ وغور هذا الاعتراض: أن الذى فعلته ليس بحكمة ولا صواب، وأن الحكمة كانت تقتضى أن يسجد هو لى، لأن المفضول يخضع للفاضل، فلم خالفت الحكمة؟. ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه، وإزرائه به، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]. ثم قرر ذلك بحجته الداحضة، فى تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله. فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود، ومعصيته الرب المعبود. فجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد والمعصية، ومعارضة النص بالرأى والعقل، فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلها من
(15/267)
حيث أراد عزتها، وآلها كل الألم من حيث أراد لذتها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه فى مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ. ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه؟. قال تعالى {وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجدُوا إِلا إِبْلِيس كانَ مِنْ
(15/268)
ص -202- الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو؟ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلا} [الكهف: 50]. فصل وأما كيده للأبوين: فقد قص الله [الأعراف: 20- 22] سبحانه علينا قصته معهما، وأنه لم يزل يخدعهما، ويعدهما، ويمنيهما الخلود فى الجنة، حتى حلف لهما بالله جهد يمينه: إنه ناصح لهما، حتى اطمأنا إلى قوله وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحبة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى، وكان ذلك بكيده ومكره الذى جرى به القلم، وسبق به القدر، ورد الله سبحانه كيده عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة مكره عليه. {وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. وظن عدو الله بجهله أن الغلبة والظفر له فى هذه الحرب، ولم يعلم بكمين جيش: {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفَسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ} [الأعراف: 23]. ولا بإقبال دولة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]. وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، من أجل أكلة أكلها. وما علم أن الطبيب قد علم المريض الدواء قبل المرض، فلما أحس بالمرض بادر إلى استعمال الدواء، لما رماه العدو وبسهم وقع فى غير مقتل فى غير مقتل، فبادر إلى مداواة الجرح، فقام كأن لم يكن به قلبة.
(15/269)
ص -203- بلى العدو بالذنب فأصر واحتج وعارض الأمر، وقدح فى الحكمة، ولم يسأل الإقالة، ولا ندم على الزلة. وبلى الحبيب بالذنب فاعترف وتاب وندم، وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأزيل عنه العتب، وغفر له الذنب، وقبل منه المتاب، وفتح له من الرحمة والهداية كلٌّ باب، ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم، ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدى لأحسن الشيم. فصل ثم كاد أحد ولدى آدم، ولم يزل يتلاعب به، حتى قتل أخاه، وأسخط أباه، وعصى مولاه، فسن للذرية قتل النفوس، وقد ثبت فى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْماً إِلا كانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ". فكاد العدو هذا القاتل بقطيعة رحمه، وعقوق والديه، وإسخاط ربه، ونقص عدده، وظلم نفسه، وعرضه لأعظم العقاب، وحرمه حظه من جزيل الثواب. فصل [كيده بالناس من بعد آدم] ثم جرى الأمر على السداد والاستقامة، والأمة واحدة، والدين واحد، والمعبود واحد. قال تعالى: {وَمَا كانَ النّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِى بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخَتْلِفُونَ} [يونس: 19] وقال تعالى: {كَانَ النّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبْعثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. قال سعيد عن قتادة "ذكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون
(15/270)
ص -204- كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وبُعِث عند الاختلاف بين الناس وترك الحق". وقال ابن عباس "كان الناس أمة واحدة: كانوا على الإسلام كلهم". وهذا هو القول الصحيح فى الآية. وقد روى عطية عن ابن عباس رضى الله عنهما "كانوا أمة واحدة، كانوا كفارا". وهذا قول الحسن وعطاء، قالا "كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على ملة واحدة، وهى الكفر، كانوا كفارا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله نوحا وإبراهيم والنبيين". وهذا القول ضعيف جدا، وهو منقطع عن ابن عباس، والصحيح عنه خلافه. قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال "كانوا على الإسلام كلهم". وهذا هو الصواب قطعا، فإن قراءة أبى بن كعب "فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين". ويشهد لهذه القراءة: قوله تعالى فى سورة يونس: {وَمَا كانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفوا} [يونس: 19]. والمقصود: أن العدو كادهم وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين، كفارا ومؤمنين فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث.
(15/271)
ص -205- وكان أول ما كاد به عباد الأصنام من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم فى كتابه، فقال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلا تَذَرُنَّ وَداً، وَلا سُوَاعاً، وَلا يَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْراً} [نوح: 13]. قال البخارى فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت". وقال ابن جرير عن محمد بن قيس قال: "كانوا قوما صالحين من بنى آدم، كان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم، الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم". وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبى: أخبرنى أبى قال: "أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم فى مغارة فى الجبل الذى أهبط عليه أدم بأرض الهند، ويقال للجبل: نوذ، وهو أخصب جبل فى الأرض". قال هشام: فأخبرنى أبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: "فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم فى المغارة، فيعظمونه، ويترحمون عليه، فقال رجل من بنى قابيل بن آدم: يا بنى قابيل، إن لبنى شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها". قال هشام: وأخبرنى أبى قال: "كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر: قوما صالحين، فماتوا فى شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بنى قابيل: يا قوم، هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم؟ غير أنى لا أقدر أن أجعل فيها أرواحاً، قالوا:
(15/272)
ص -206- نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم، ونصبها لهم، فكان الرجل يأتى أخاه وعمه وابن عمه، فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد برد ابن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى، فعبدوهم، وعظموا أمرهم، واشتد كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام نبيا فدعاهم، فكذبوه، فرفعه الله مكانا عليا، ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال ابن الكلبى عن أبى الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس: - حتى أدرك نوح عليه السلام، فبعثه الله تعالى نبيا، وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة، فدعاهم إلى الله تعالى فى نبوته عشرين ومائة سنة، فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك، ففرغ منها وركبها، وهو ابن ستمائة سنة، وغرق من غرق، ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة فدعاهم إلى الله. وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة: فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء وبقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها". قلت: ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، وأن نوحا عليه السلام لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأن الله عز وجل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة. قال الكلبى: وكان عمرو بن لحى كاهنا وله رئى من الجن:
(15/273)
ص -207- عجل المسير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة قال: جير ولا إقامة، قال: ائت ضف جدة، تجد فيها أصناما معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. فأتى نهر جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة، فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات، ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة فدفع إليه ودا، فحمله فكان بوادى القرى بدومة الجندل، وسمى ابنه عبدود، فهو أول من سمى به، وجعل عرف ابنه عامرا الذى يقال له: عامر الأجدار سادنا له. فلم يزل بنوه يسد نونه حتى جاء الله بالإسلام. قال الكلبى: فحدثنى مالك بن حارثة أنه رأى ودا. قال: وكان أبى يبعثنى باللبن إليه، فيقول: اسقه إلهك، فأشربه. قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضى الله عنه بعد كسره فجعله جذاذا. وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عذرة وبنو عامر الأجدار. فقاتلهم، فقتلهم وهدمه وكسره. قال الكلبى: فقلت لمالك بن حارثة: صف لى ودا، حتى كأنى أنظر إليه. قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دُبِّر - أى نقش - عليه حلتان، متزر بحلة مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل، يعنى جعبة.
(15/274)
ص -208- قال: ورجع الحديث. قال: وأجابت عمرو بن لحى مضر بن نزار. فدفع إلى رجل من هذيل يقال له: الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر: سواعا، فكان بأرض يقال لها: وهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر. وفى ذلك يقول رجل من العرب: تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتهِمْ عُكُوفا كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعِ تَظَلُّ جَنَابَهُ صَرْعَى لَدَيْهِ عَتَائِرَ مِنْ ذَخَائِرِ كُلّ رَاعِ وأجابته مذحج، فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادى يغوث. وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها. وأجابته همدان. فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان: يعوق. فكان بقرية يقال لها: خيوان. تعبده همدان ومن والاها من اليمن. وأجابت حمير: فدفع إلى رجل من ذى رعين. يقال له: معد يكرب نسرا. فكان بموضع من أرض سبأ، يقال له: بلخع تعبده حمير ومن والاها. فلم يزل يعبدونه حتى هوّدهم ذو نواس. فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهدمها وكسرها. قلت: هذا شرح ما ذكره البخارى فى صحيحه عن ابن عباس قال "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب تعبد. أما ود، فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث، فكان لمراد، ثم لبنى غطيف، بالحرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر، فكانت لحمير، لآل ذى الكلاع، قال: وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح" وذكر ما تقدم.
(15/275)
ص -209- وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِى يَجُرُّ قُصْبَهُ فى النّارِ. وَكانَ أَوَّلَ مَنَ سَيَّبَ السَّوَائِبَ". وفى لفظ "وَغَيَّرَ دِينَ إبراهيم". وقال بن إسحق: حدثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لأكثم ابن الجون الخزاعى "يا أكثم رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك، فقال أكثم: عسى أن يضرنى شبهه يا رسول الله، قال: لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام". قال ابن هشام: وحدثنى بعض أهل العلم "أن عمرو بن لحى خرج من مكة إلى الشام فى بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام. فقال لهم: ما هذه الأصنام التى تعبدون؟ فقالوا: نستمطر بها فتمطرنا. ونستنصرها فتنصرنا. فقال: أفلا تعطونى منها صنما، فأسير به
(15/276)
ص -210- إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل. فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه". قال هشام: وحدثنى أبى وغيره "أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده، فكثروا، حتى ملؤوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا فى البلاد والتماس المعاش، فكان الذى حملهم على عبادة الأوثان والحجارة: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، تعظيما للحرم، وصبابة بمكة. فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت، حبا للبيت وصبابة به، وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل، يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة. وإهداء البدن مع إدخالهم فيه ما ليس منه وكانت نزار تقول فى إهلالها: لَبَّيْكَ الّلهُمَّ لَبَّيْكْ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكْ إِلا شَرِيكٌ هُوَ لَكْ تَمْلكُهُ وَمَا مَلَكْ ويوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلا وَهُمْ | |
|
| |
unja.dz المدير
عدد المساهمات : 1781 نقاط التميز : 8474 تاريخ التسجيل : 28/12/2007 unja
| موضوع: رد: كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * 4/9/2010, 13:34 | |
| ص -211- مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. أى ما يوحدوننى بمعرفة حقى إلا جعلوا معى شريكا من خلقى. وكانت تلبية عك، إذا خرجوا حجاجا، قدموا أمامهم غلامين أسودين. فكانا أمام ركبهم فيقولان: نَحْنُ غُرَابَا عَكٍّ فتقول عك من بعدهما: عَك إِلَيْكَ عَانِيَهْ عِبَادُكَ الْيَمَانِيَهْ وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت فى المواقف، نفرت فى النفر الأول، ولم تقم إلى آخر التشريق. وكان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة، وحمى الحامى: عمرو بن ربيعة. وهو لحى بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأزدى - وهو أبو خزاعة. وكانت أم عمرو فهيرة بنت عامر بن الحارث. ويقال قمعة بنت مضاض وكان الحرث الذى يلى أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لحى نازعه فى الولاية، وقاتل جرهما ببنى إسماعيل، فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة. وتولى حجابة البيت بعدهم ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها، فاستحم فيها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقى بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. واتخذت العرب الأصنام، فكان أقدمها مناة وقد كانت العرب تسمى: عبد مناة وزيد مناة وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعها تعظمه. وكانت الأوس والخرزج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب
(15/278)
ص -212- من المواضع يعظمونه، ويذبحون له، ويهدون له وكان أولاد معد على بقية من دين إسماعيل. وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج. قال هشام: وحدثنا رجل من قريش عن أبى عبيدة بن عبد الله بن أبى عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر قال: "كانت الأوس والخزرج ومن جاورهم من عرب أهل يثرب، وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها. ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه، فحلقوا عنده رؤوسهم، وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تمام إلا بذلك". وكانت مناة لهذيل وخزاعة. فبعث رسول الله عليه السلام عليا فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف. وهى أحدث من مناة. وكانت صخرة مربعة وكان يهودى يلت عندها السويق وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك. وكانوا قد بنوا عليها. وكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمى زيد اللات. وتيم اللات. وكانت فى موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. فلم تزل كذلك
(15/279)
ص -213- حتى أسلمت ثقيف. فبعث رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى. وهى أحدث من اللات ومناة، اتخذها ظالم بن أسعد. وكانت بواد من نخلة [الشامية. يقال له: حُرَاض، بإزاء الغُمَير، عن يمين المصعد إلى العراق من مكة. وذلك]، فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتا. وكانوا يسمعون منه الصوت.
(15/280)
ص -214- قال هشام: وحدثنى أبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتى ثلاث سمرات ببطن نخلة. فلما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فقال: ائت بطن نخلة. فإنك ستجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى. فأتاها فعضدها. فلما جاء إليه قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية. فأتاها فعضدها. ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها [دبَيَّة ابن حرمى الشيبانى ثم السلمى وكان] سادنها [فلما نظر إلى خالد] قال: أَعُزَّاء شُدّى شَدّةً لا تُكَذِّبى عَلَى خَالد، أَلْقى الخمارَ وَشَمِّرِي فَإِنّكِ إلا تَقْتُلِى الْيَوْمَ خَالِدا تَبُوئى بِذُل عَاجِلاً وَتَنَصَّرِي فقال خالد: يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ، لا سُبْحَانَكِ إنِّى رَأَيْتُ اللهَ قَدْ أَهَانَكِ ثم ضربها، ففلق رأسها. فإذا هى حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل السادن ثم أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب [أما إنها لن تعبد بعد اليوم].
(15/281)
ص -215- قال هشام: وكانت لقريش أصنام فى جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم: هبل. وكان - فيما بلغنى - من عقيق أحمر، على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك. فجعلوا له يدا من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر [وكان يقال له: هبل خزيمة]. وكان فى جوف الكعبة. وكان قدامه [سبعة] قداح، مكتوب فى أحدها: صريح، وفى الآخر: ملصق. فإذا شكوا فى مولود أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج "صريح" ألحقوه. وإن خرج "ملصق" دفعوه [وقدح على الميت، وقدح على النكاح. وثلاثة لم تفسر، لى علام كانت؟]. وكانوا إذا اختصموا فى أمر، أو أرادوا سفرا أو عملا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده [فما خرج عملوا به وانتهوا إليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله والد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم] وهو الذى قال له أبو سفيان يوم أحد أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "قولوا له: الله أعلى وأجل". وكان لهم إساف ونائلة. قال هشام: فحدث الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس "أن إسافا رجل من جرهم يقال له: إساف بن يعلى، ونائله بنت زيد من جرهم، وكان يتعشقها فى أرض اليمن فأقبلوا حجاجا، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من الناس وخلوة من البيت، ففجر بها فى البيت، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما مسخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب". قال هشام: لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها. وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر فى موضع زمزم، فنقلت قريش الذى كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر، فكانوا يذبحون عندهما. وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة، وكان مروة بيضاء، منقوشة، عليها كهيئة التاج، وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة [وكان سدنتها بنو أمامة من
(15/282)
ص -216- باهلة بن أعصر] وكانت تعظمها وتهدى لها خثعم وبجيلة، [وأزد السراة ومن قلوبهم من بطون العرب من هوازن] فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لجرير: "ألا تَكْفِينِى ذَا الْخَلَصَة؟". فسار إليه بأحمس، فقاتلته خثعم وباهلة دونه، فظفر بهم. وهدم بيت ذى الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق. وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة. وكان لدوس صنم يقال له "ذو الكفين" فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الطفيل بن عمرو فحرقه. وكان لبنى الحارث بن يشكر [بن مبشر من الأزد] صنم يقال له "ذو الشرى". وكان لقضاعة ولحم وجذام، وعاملة وغطفان، صنم فى مشارف الشام يقال له "الأقيصر". وكان لمزينة صنم يقال له "نُهم" وبه كانت تسمى عبد نهم. [وكان لأزد السراة صنم يقال له "عائم"].
(15/283)
ص -217- وكان لعنزة صنم يقال له "سعير". وكان لطيء صنم يقال له "الفلس". وكان لأهل كل دار من مكة صنم فى دارهم، كان يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع فى منزله: أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله: أن يتمسح به. قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم يقال له: عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم، وحروثهم، قسما بينه وبين الله، بزعمهم، فما دخل فى حق الله من حق عم أنس رده عليه، وما دخل فى الحق الصنم من حق الله الذى سموا له تركوه له وفيهم أنزل الله سبحانه: {وَجَعَلُوا للهِ مَّمَا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُرَكَائِنَا، فَمَا كَانَ لِشُرَكَائْهِمْ فَلاَ يصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصلُ إلَى شُرَكَائهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
(15/284)
ص -218- قال ابن إسحق: وكان لبنى ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: "سعد" صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل من بنى ملكان بإبل مؤبلة، ليقفها عليه ابتغاء بركته - فيما يزعم - فلما رأته الإبل، [وكانت مرعية لا تركب] وكان يهراق عليه الدماء، نفرت منه فذهب فى كل وجه، فغضب ربها، فأخذ حجرا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك نفرت عنى إبلى، ثم خرج فى طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له، قال: أَيتنا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ، فَلاَ نَحْنُ مِنْ سَعْدِ وَهَلْ سَعْدُ إِلا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ مِنَ الأَرْضِ لا تَدْعُو لِغَى وَلا رُشْدِ؟ قال ابن إسحق: وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بنى سلمة، وشريفا من أشرافهم. وكان قد اتخذ فى داره صنما من خشب، يقال له مناة [كما كان الأشراف يصنعون. يتخذه إلها يعظمه ويظهره ] فلما أسلم فتيان بنى سلمة معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو، وغيرهم ممن أسلم، وشهد العقبة، وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه، فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة، وفيها عذرات الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو، قال: ويلكم، من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ قال ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره، وطيبه، ثم قال: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه. فإذا أمسى ونام غدوا
(15/285)
ص -219- ففعلوا بصنمهم مثل ذلك، فيغدو فيلتمسه، فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، فيغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به ذلك، فلما طال عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه، فعلقه عليه، ثم قال له: والله إنى لا أعلم من يصنع بك ما ترى. فإن كان فيك خير فامتنع: فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام غدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقربوه به بحبل، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو، فلم يجده فى مكانه الذى كان به فخرج يتبعه، حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت. فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة، ويقول: وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلها لَمْ تَكُنْ أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فى قَرَنْ أُفٍّ لَمِلْقَاكَ إِلهَا مُسْتَدَنْ الآنَ فَتِّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ الْحَمدُ للهِ الْعِلِّى ذِى المِنَنْ الوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدَّيَنْ هُوَ الّذِى أَنْقَذَنى مِنْ قَبْلِ أَنْ أَكُونَ فى ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ قال ابن إسحق: واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به، وإذا قدم من سفرٍ تمسح به، فيكون آخر عهدِه به، وأول عهده به، فلما بعث الله محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتوحيد قالت قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِدًا ؟ إِنَّ هذَا لَشَيءْ عُجَابٌ} [ص: 5]. وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب، وتهدى لها كما تهدى للكعبة، وتطوف بها كما تطوف بالكعبة وتنحر عندها كما تنحر عند الكعبة.
(15/286)
ص -220- وكان الرجل إذا سافر، فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رباً، وجعل الثلاثة أثافى القدرة، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك. قال حنبل: حدثنا حسن بن الربيع قال: حدثنا مهدى بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العُطارِدى يقول "لما بُعث النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسمعنا به، لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، قال: وكنا نعبد الحجر فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقى ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به". وقال أبو رجاء أيضا "كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه، ونحلب عليه، فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده، زمانا، ثم نلقيه". وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبى زينب قال
(15/287)
ص -221- سمعت أبا عثمان النهدى يقول "كنا فى الجاهلية نعيد حجرا، فسمعنا مناديا ينادى: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك، فالتمسوا ربا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينا نحن كذلك نطلبه إذا نحن بمناد ينادى: إنا قد وجدنا ربكم، أو شبهه، فإذا حجر، فنحرنا عليه الجزر". وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال حدثنى الحجاج بن صفوان عن ابن أبى حسين عن شهر بن حوشب عن عمر بن عبسة قال "كنت امرأ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحى ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم، فيأتى بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه، ويأخذ غيره". ولما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بسية قوسه فى وجوهها، وعيونها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلَ إن الباطلَ كَانَ زَهُوقاَ} [الإسراء: 81]. وهى تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها، فأخرجت من المسجد وحرقت.
(15/288)
ص -222- فصل وتلاعب الشيطان بالمشركين فى عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم. فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى، الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا، وقال: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وأمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل. فأبى المشركون إلا خلافه فى ذلك كله، إما جهلا، وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين. وأما خواصهم فإنهم اتخذوها - بزعمهم - على صور الكواكب المؤثرة فى العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتا وسدنة، وحجابا، وحجا وقربانا، ولم يزل هذا فى الدنيا قديما وحديثا. فمنها: بيت على رأس جبل بأصبهان. كان به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس، وجعله بيت نار. ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء. بناه بعض المشركين على اسم الزهرة، فخربه عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه. ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانه، فخربه المعتصم. وأشد الأمم فى هذا النوع من الشرك: الهند. قال يحيى بن بشر: إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن، ووضع لهم أصناما، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند. وجعل فيه صنمهم الأعظم. وزعم
(15/289)
ص -223- أنه بصورة الهيولى الأكبر. وفتحت هذه المدينة فى أيام الحجاج. واسمها "الملتان" فأراد المسلمون قلع الصنم. فقيل: إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من المال، فأمر عبد الملك بن مروان بتركه، فالهند تحج إليه من نحو ألفى فرسخ ولا بد لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه، من مائةٍ إلى عشرة آلاف، لا يكون أقل من هذا ولا أكثر. فيلقيه فى صندوق هناك عظيم، ويطوف بالصنم، فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قسم ذلك المال، فثلثه للمسلمين، وثلثه لعمارة المدينة وحصونها، وثلثه لسدنة الصنم ومصالحه. وأصل هذا المذهب من مشركى الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم فى بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه. وهو مذهب قديم فى العالم، وأهله طوائف شتى. فمنهم عباد الشمس، زعموا أنها ملك من الملائكة، لها نفس وعقل، وهى أصل نور القمر والكواكب، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم، منها، من عندهم ملك الفلك، فيستحق التعظيم والسجود، والدعاء. ومن شريعتهم فى عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار. وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة، من القرى والضياع، وله سدنة وقوام وحجبة، يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات فى اليوم. ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلون، ويدعون ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارنها الشيطان فى هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تحرى الصلاة فى هذه الأوقات، قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا، وسدا لذريعة الشرك، وعبادة الأصنام.
(15/290)
ص -224- فصل وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلى. ومن شريعة عباده: أنهم اتخذوا له صنما على شكل عجل يجره أربعة، ويبد الصنم جوهرة، ويعبدونه، ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا فى الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه. ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكل، ومتعبدات، لكل كوكب منها هيكل يخصه، وصنم يخصه، وعبادة تخصه. ومتى أردت الوقوف على هذا، فانظر فى كتاب "السر المكتوم فى مخاطبة النجوم" المتسوب إلى ابن خطيب الرَّى تعرف سر عبادة الأصنام، وكيفية تلك العبادة وشرائطها. وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام، فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص، ينظرون إليه، ويعكفون عليه. ومن هاهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما، زعموا أنها على صورتها فوضع الصنم إنما كان الأصل على شلك معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته، ليكون نائبا، وقائما مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده. ومن أسباب عبادتها أيضاً: أن الشياطين تدخل فيها، وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين، فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون: إن تلك روحانيات الأصنام، وبعضهم يقولون: إنها الملائكة وبعضهم يقول: إنها العقول المجردة. وبعضهم يقول:
(15/291)
ص -225- هى روحانيات الأجرام العلوية. وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها، ولا يسأل عما وراء ذلك. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها فى الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها. والكتب المصنفة فى شرائع عبادتها طبق ذلك كله الأرض. قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُن أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36]. والأمم التى أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام، كما قص الله تعالى ذلك عنهم فى القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين. ويكفى فى معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَن بَعْثَ النَّارِ مِنْ كلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ و تسعة وتَسْعُونَ" وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورَا} [الإسراء: 89] وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فى الأَرْضِ يِضُلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: 116] وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر عليها، وتحمل أنواع المكاره فى نصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التى فتنت بعبادتها، وما حل بهم من عاجل العقوبات، ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها. ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور، وفتنة الفجور بها. والعاشق لا يثنيه
(15/292)
ص -226- عن مراده خشية عقوبة فى الدنيا، ولا فى الآخرة، وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك: من الآلام والعقوبات، والضرب، والحبس، والنكال، والفقر، غير ما أعد الله له فى الآخرة وفى البرزخ، ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته. فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام أشد، فإن تأله القلوب لها أعظم من تألها للصور التى يريد منها الفاحشة بكثير. والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية، من أولها إلى آخرها، مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حلت بهم المثلاث، ونزلت بهم العقوبات، وأن الله سبحانه برئ منهم هو وجميع وملائكته، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل لهم عملا. وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف. وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء، وأموالهم، ونساءهم وأبناءهم بتطهير الأرض منهم، حيث وجدوا، وذمهم بسائر أنواع الذم، وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة، فهؤلاء فى شق ورسل الله تعالى كلهم فى شق. فصل ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو فى المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا التشبيه الواقع فى الأمم، الذى أبطله الله سبحانه، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. فهو سبحانه ينفى، وينهى، أن يجعل غيره مثلا له، وندا له، وشبها له، لا أن يشبه هو بغيره، إذ ليس فى الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف فى طائفة من طائفة بنى آدم، وإنما الأول هو
(15/293)
ص -227- المعروف فى طوائف أهل الشرك، غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا: {اصْبِرُوا عَلَى آلَهِتِكُمْ} [ص: 6]. وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة، التى لا تنبغى إلا لله تعالى. فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه، حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب كقولهم: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] وإن {يَدُ اللهِ مَغْلُولَة} [المائدة: 64]. وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم. والذين جعلوا له ولدا وصاحبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا، ثم يشبهون به الخالق، بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالا، لا قصدا أن يكون غيره أصلا فيها، وهو مشبه به. ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من إبطال الباطل، لكونها فى نفسها نقائص وعيوبا، ليس جهة البطلان فى اتصافه بها: هو التشبيه والتمثيل، فلا يتوقف فى نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه، كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل، حيث صرحوا بأنه لا يقوم دليل عقلى على انتفاء النقائص والعيوب عنه، وإنما تنفى عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل. وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات: نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه، بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا يماثل فيه خلقه، كما تثبتون أنتم له علما وقدرة، وحياة وسمعا، وبصرا، لا يماثل فيها خلقه. فقولنا فى هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء - لم يتمكنوا من إبطال قولهم، ويصيرون أكفاء لهم فى المناظرة، فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلى على انتفاء النقائص والعيوب، وإنما ننفى ما نفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل، وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه، فقال أولئك: وهكذا
(15/294)
نقول نحن. ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع، وقال: إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع، وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية، لا تفيد اليقين، فليس عند
(15/295)
ص -228- القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب. وأهل السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب له لذاته، وهو أظهر فى العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء. ومن العجب أن هؤلاء جاءوا إلى ما علم بالاضطرار أن الرسل جاءوا به، ووصفوا الله سبحانه به، ودلت عليه العقول والفطر والبراهين، فنفوه، وقالوا: إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه، فلم يثبت لهم قدم البتة، فيما يثبتونه له سبحانه، وينفونه عنه. وجاءوا إلى ما علم بالاضطرار والفطر والعقول، وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب، فقالوا: ليس فى أدلة العقل ما ينفيه، وإنما ننفيه بما ننفى به التشبيه. وليس فى الخذلان فوق هذا، بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه، ونفيها أظهر وأبين فى العقول من نفى التشبيه، فلا يجوز أن يثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه. والمقصود: أنه لم يكن فى الأمم من مثله بخلقه، وجعل المخلوق أصلا ثم شبهه به، وإنما كان التمثيل والتشبيه فى الأمم، حيث شبهوا أوثانهم ومعبوديهم به فى الإلهية، وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام، فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام، صرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذى لم تعرف أمة من الأمم عليه، وبالغوا فيه حتى نفوا به عنه صفات الكمال. ولهذا موضع مهم نافع جدا، به يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه، وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه، وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله، ويزعمون أن القرآن دل عليه وأريد به نفيه. والقرآن مملوء من إبطال أن يكون فى المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله، فهذا هو الذى قصد بالقرآن، إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره. قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا
(15/296)
للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]
(15/297)
ص -229- وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165]. فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق. فالند: الشبه. يقال فلان نِد فلان، ونَدِيدُه أى مثله وشبهه، ومنه قول حسان بن ثابت: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ؟ فَشَرُّ كُمَا لِخَيْرِ كُمَا الْفِداءُ ومنه قول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أَجَعَلْتَنِى للهِ نِدَّا" وقال جرير: أَتَيماً تَجْعَلُونَ إِلَى نِدا؟ وَمَا تَيْمٌ لِذِى حسَبٍ نَدِيدُ قال ابن مسعود، وابن عباس: "لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال، تطيعونهم فى معصية الله". وقال ابن زيد: "الأنداد الآلهة التى جعلوها معه". وقال الزجاج: "أى لا تجعلوا لله أمثالا". فالذى أنكره الله سبحانه عليهم: هو تشبيه المخلوق به، حتى جعلوه ندا لله تعالى، يعبدونه كما يعبدون الله، وكذلك قوله فى الآية الأخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] فأنكر هذا التشبيه عليهم، وهو أصل عبادة الأصنام. ونظيرُ هذا قولهُ سبحانه: {الْحَمْدُ للهِ الّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلْونَ} [الأنعام: 1]. أى يعدلون به غيره، فيجعلون له من خلقه عَدلا وشبها.
(15/298)
ص -230- قال ابن عباس: يريد عدلوا بى من خلقى الحجارة والأصنام، بعد أن أقروا بنعمتى وربوبيتى. وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر فى هذه الآية. وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلا. والعدل التسوية، يقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به، ومعنى يعدلون به: يشركون به غيره. قال مجاهد قال الأحمر: يقال: عدل الكافر بربه عدلا، وعدولا: إذا سوى به غيره فعبده. وقال الكسائى: عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولا إذا ساويته به. ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين إنهم يقولون فى النار لآلهتهم: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98]. فاعترفوا أنهم كانوا فى أعظم الضلال وأبينه، إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه سووهم به فى العبادة والتعظيم. وقال تعالى: {رَبِّ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِر لِعِبَادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً} [مريم: 65]. قال ابن عباس: "شبها ومثلا، وهو من يساميه". وذلك نفى عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق، ومماثلا له، بحيث يستحق العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه: هل تعلمه سميا، أو مشبها لغيره، فإن هذا لم يقله أحد. بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها له، مساميا، وندا وعدلا، فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل. وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 73 - 74]. فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلا لخلقه فإن هذا لم يقله أحد، ولم يكونوا يفعلونه. فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء فى فطر الناس كلهم. ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه. فيشبهونهم بالخالق، والله تعالى أجل فى صدور جميع
(15/299)
الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره.
(15/300)
ص -231- فالذى يشبهه بغيره، إن قصد تعظيمه، لم يكن فى هذا تعظيم، لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه نسبة وشبه فى العظمة والجلالة، وعاقل لا يفعل هذا. وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين، لا بالكاملين الممدوحين. ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل، لا بالكاملين ولا بالناقصين وأن نفى تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين. فانظر إلى الجهمية وأتباعهم، جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا، وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا، عكس ما يثبته القرآن، وجاء به من كل وجه. ومن هذا قوله تعالى: {وَلمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواَ أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوا لأحد، فينفى عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه. وسر ذلك: أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه فى شيء من صفاته وخصائصه. وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق لا يماثل المخلوق، ولا يشابهه، ولا هو ندّ له ولا كفؤ، فليس فيه مدح له. فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب، ونحو ذلك، لم يعد هذا مدحا، ولا ثناء عليه، ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للملك ندا ولا كفؤا، ولا شبيها من رعيته، تعظمه كتعظيمه، وتطيعه كطاعته، فإنه ليس فى رعيته من يساميه. ولا يماثله، ولا يكافئه: كان هذا غاية المدح. وكذلك قول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: 11]. إنما قصد به نفى أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. ولم يقصد به نفى صفات كماله، وعلوه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لرسله،
(15/301)
ص -232- ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم، كما ترى الشمس والقمر فى الصحو. فإنه سبحانه إنما ذكر هذا فى سياق رده على المشركين، الذين اتخذوا من دونه أولياء. يوالونهم من دونه فقال تعالى: {وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دونه أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فى السَّعِيرِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فى رَحْمِتهِ وَالظّالُمِونَ مَالَهُمْ مِنْ وَلِى وَلا نَصِيرٍ أَم اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِى وَهُوَ يُحْيِى الَمْوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير وَما اخْتَلْفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍْ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنيبُ فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤكُمْ فِيهِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 6 - 11]. فتأمل كيف ذكر هذا النفى تقريرا للتوحيد، وإبطالا لما عليه أهل الشرك: من تشبيه آلهتهم، وأوليائهم به، حتى عبدوهم معه. فحرفها المحرفون وجعلوها تُرْسا لهم فى نفى صفات كماله، وحقائق أسمائه وأفعاله. وهذا التشبيه الذى أبطله الله سبحانه نفيا ونهيا: هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام: ولهذا نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسجد أحد لمخلوق مثله أو يحلف بمخلوق مثله، أو يصلى إلى قبر، أو يتخذ عليه مسجدا، أو يعلق عليه
(15/302)
ص -233- قنديلا أو يقول القائل: ما شاء الله وشاء فلان. ونحو ذلك، حذرا من هذا التشبيه الذى هو أصل الشرك. وأما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد. فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فى العبادة والتعظيم والخضوع، والحلف به، والنذر له، والسجود له، والعكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله، فى قولهم: ليس لى إلا الله وأنت، وأنا متكل على الله وعليك. وهذا من الله ومنك. وأنا فى حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت. وهذا لله ولك. وأمثالك ذلك. فهؤلاء هم المشبهة حقا، لا أهل التوحيد، المثبتون لله ما أثبته لنفسه، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه، الذين لا يجعلون له ندا من خلقه، ولا عدلا، ولا كفؤا، ولا سميا، وليس لهم من دونه ولى ولا شفيع. فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة فى الأرض بعبادة الأصنام، وتبين له سر القرآن فى الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة، ولا سيما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيل الصفات والأفعال. كما هو الغالب عليهم. فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله، وبين تشبيه خلقه به. فصل ومن كيده وتلاعبه: ما تلاعب بعباد النار، حتى اتخذوها إلها معبودة. وقد قيل: إن هذا كان من عهد قابيل. كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير: "أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم عليه السلام. أتاه إبليس. فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدمها ويعبدها، فانصب أنت أيضاً نارا تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها". وسرى هذا المذهب فى المجوس، فبنوا لها بيوتا كثيرة، واتخذوا لها الوقوف والسدنة
(15/303)
ص -234- والحجاب، فلا يدعوها تخمد لحظة واحدة، فاتخذ لها إفريدون بيتا بطوس، وآخر ببخارى. واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان، واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى، واتخذت لها بيوت كثيرة. وعباد النار يفضلونها على التراب، ويعظمونها، ويصوبون رأى إبليس، وقد رمى بشار بن برد بهذا المذهب، لقوله فى قصيدته: الأَرْضُ سَافِلَة سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كانَتِ النَّارُ ويقولون: إنها أوسع العناصر خيرا، وأعظمها جرما، وأوسعها مكانا، وأشرفها جوهراً، وألطفها جسماً، ولا كون فى العالم إلا بها، ولا نمو ولا انعقاد، إلا بممازجتها. ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أخدودا مربعا فى الأرض ويطوفون به. وهم أصناف مختلفة. فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، وهم أكثر المجوس. وطائفة أخرى منهم: تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها، وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم. ولهم سنة معروفة فى تقريب نفوسهم، وإلقائهم فيها، فيعمد الرجل الذى يريد أن يفعل ذلك بنفسه، أو بولده، أو حبيبه. فيجمله ويلبسه أحسن اللباس، وأفخر الحلى. ويركبه أعلى المراكب وحول المعازف والطبول والبوقات، فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه. حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهى تأجج طرح نفسه فيها، فضج
(15/304)
ص -235- الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له، وغبطته على ما فعل. فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان فى صورته وشكله وهيأته، لا ينكرون منه شيئا، فيأمرهم بأمره، ويوصيهم بما يوصيهم به، ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين. ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار، وأنه لم يتألم بمس النار له، فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله. ومنهم زهاد وعباد، يجلسون حول النار صائمين، عاكفين عليها. ومن سنتهم: الحث على الأخلاق الجميلة، كالصدق، والوفاء، وأداء الأمانة، والعفة، والعدل، وترك أضدادها. ولهؤلاء شرائع فى عبادتها، ونواميس وأوضاع لا يخلون بها. فصل ومن كيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفة أخرى تعبد الماء من دون الله، وتسمى الحلبانية. وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء، وبه كل ولادة ونمو ونشوء، وطهارة وعمارة. وما من عمل فى الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء، فكان حقه أن يعبد. ومن شريعتهم فى عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه، حتى يصير إلى وسطه، فيقيم هناك ساعتين أو أكثر، بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين. فيقطعها صغارا، فيلقيها فيه شيئا فشيئا، وهو يسبحه ويمجده. فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه، ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسد، ثم يسجد وينصرف. فصل ومن تلاعبه: تلاعبه بعباد الحيوانات. فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت
(15/305) | |
|
| |
| كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني * | |
|