الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية UNJA
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 837940289
الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية UNJA
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 837940289
الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية UNJA
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية UNJA

يَـــــــــــانَــشءُ أَنْــــتَ رَجَــــــاؤُنَـــــا ,,,, وَبِـــكَ الـصَّـــبــــــاحُ قَــــدِ اقْــــتَــــــربْ
 
الرئيسيةالرئيسية  المجلةالمجلة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
اهلا بكم في شبكة الوحدة لسان حال الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية للإتصال بإدارة المنتدى نضع تحت تصرفكم بريد اكتروني unja.dz@gmail.com

~~|| جـــزائـــرنـا فــفـيـــــك بـــرغـــم الـعـــدا ســنــســــــــــود ||~~
تأسست منظمة الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية في 19 ماي 1975 وهذا بعد قرار من الرئيس هواري بومدين رحمه الله بضم كل الشباب الجزائري في تصور واحد و اوحد حتى يساهموا بشكل اجابي في معركة البناء و التشييد التي اتخذها الرئيس انا ذاك ،  واهم فئات الشباب الذين شكلوا انطلاقة الاتحاد نذكر منهم شبيببة جبهة التحرير الوطني ، شباب الهلال الاحمر الجزائري ، الكشافة الاسلامية الجزائرية ، الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين .

 

 إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:00

مقدمة


(1/1)








ص -3- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان
تأليف: أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف
إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد.
الذى لا شريك له فى ذاته ولا صفاته ولا فى أفعاله، بل هو كما وصف به نفسه وفوق ما
يصفه به أحد من خلقه فى إكثاره وإقلاله، لا يحصى أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى
على نفسه على لسان من أكرمهم بإرساله، الأول الذى ليس قبله شئ، والظاهر الذى ليس
فوقه شئ، والباطن الذى ليس دونه شئ، ولا يحجب المخلوق عنه تستره بسر باله، الحى
القيوم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، المنفرد بالبقاء، وكل مخلوق ينتهى إلى زواله،
السميع الذى يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن
سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين فى سؤاله، البصير الذى يرى دبيب
النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء حيث كانت من سهله أو جباله.
وألطف من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده، ومشاهدته لاختلاف أحواله، فإن أقبل إليه
تلقاه، وإنما إقبال العبد عليه من إقباله، وإن أعرض عنه لم يكله إلى عدوه، ولم
يدعه فى إهماله، بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها، الرفيقة به فى حمله ورضاعه
وفصاله، فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى
الأرض الدوية المهلكة إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطع أوصاله، وإن أصر على
الإعراض، ولم يتعرض لأسباب الرحمة، بل أصر على العصيان فى إدباره وإقباله،



(1/2)








ص -4- وصالح عدوه وقاطع سيده، فقد استحق الهلاك، ولا يهلك على الله إلا الشقى
الهالك لعظيم رحمته وسعة إفضاله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا فردا صمدا، جل عن
الأشباه والأمثال، وتقدس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال، لا مانع لما أعطى
ولا معطى لما منع، ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره: {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:
11].
وأشهد أن محمد عبده ورسوله القائم له بحقه، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، أرسله
رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحسرة على الكافرين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه
على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل. وافترض على العباد
طاعته ومحبته، وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه، وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح
لأحد إلا من طريقه. فشرح له صدره، ووضح له عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذل
والصغار على من خالف أمره، وأقسم بحياته فى كتابه المبين وقرن اسمه باسمه، فلا
يذكر إلا ذكر معه، كما فى التشهد والخطب والتأذين. فلم يزل صلى الله عليه وسلم
قائما بأمر الله لا يرجه عنه راد، مشمرا فى مرضاة الله لا يصده عن ذلك صاد، إلى أن
أشرقت الدنيا برسالته ضياء وابتهاجا، ودخل الناس فى دين الله أفواجا (أفواجا)،
وسارت دعوته مسير الشمس فى الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار، ثم استأثر
الله به لينجز له ما وعده به فى كتابه المبين، بعدم أ، بلغ رسالته، وأدى الأمانة،
ونصح الأمة، وجاهد فى الله حق جهاده، وأقام الدين، وترك أمته على البيضاء الواضحة
البينة للسالكين. وقال {هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ
أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[يوسف: 108].



(1/3)








ص -5- أما بعد: فإن الله سبحانه لم يخلق خلقه سدى مهملا، بل جعلهم موردا
للتكليف، ومحلا للأمر والنهى، وألزمهم ( فهم ) ما أرشدهم إليه مجملا ومفصلا وقسمهم
إلى شقى وسعيد، وجعل لكل واحد من الفريقين منزلا، وأعطاهم مواد العلم والعمل: من
القلب، والسمع، والبصر، والجوارح، نعمة منه وتفضلا، فمن استعمل ذلك فى طاعته، وسلك
به طريق معرفته على ما أرشد إله ولم يبغ عنه عدولا، فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك،
وسلك به إلى مرضاة الله سبيلا. ومن استعمله فى إرادته وشهوته ولم يرع حق خالقه فيه
يخسر إذا سئل عن ذلك، ويحزن حزنا طويلا. فإنه لا بد من الحساب على حق هذه الأعضاء
لقوله تعالى: {إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
و لما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره،
ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ،
وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله، قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن
فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله". فهو ملكها، وهى المنفذة لما يأمرها
به، القابلة لما كان يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شئ من أعمالها حتى تصدر عن
قصده ونيته. وهو المسؤول عنها كلها "لأن كل راع مسؤول عن رعيته" كان
الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون. والنظر فى أمراضه وعلاجها
أهم ما تنسك به الناسكون.
ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس،
وأقبل بوجوه الشهوات إله، وزين له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمده
من أسباب الغى بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم
من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصائده ومكائده
إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مرضاته، والتجاء



(1/4)








القلب إليه، وإقباله عليه فى حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذى هو
أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول فى ضمان {إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فهذه الإضافة هى القاطعة بين العبد وبين
الشياطين، وحصولها يسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب



(1/5)








ص -6- إخلاص العمل ودام اليقين، فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله
من المقربين، وشمله استثناء {إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:
40].
ولما من الله الكريم بلطفه بالاطلاع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب وأدوائها،
وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها، وما تثمر تلك الوساوس من الأعمال. وما
يكتسب القلب بعدها من الأحوال. فإن العمل السيئ مصدر عن فساد قصد القلب، ثم يعرض
للقلب من فساد العمل قسوة، فيزداد مرضا على مرضه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا
نور له. وكل ذلك من انفعاله لوسوسة الشيطان، وركونه إلى عدوه الذى لا يفلح. إلى من
جاهده بالعصيان: أردت أن أقيد ذلك فى هذا الكتاب، لأستذكره معترفا فيه لله بالفضل
والإحسان، ولينتفع له من نظر فيه داعيا لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان، وسميته
"إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" ورتبته ثلاثة عشر بابا:
الباب الأول: فى انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت.
الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب.
الباب الثالث: فى انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية.
الباب الرابع: فى أن حياة القلب وإشراقة مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر
(وفتنة) فيه.
الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له
مؤثرا له على غيره.
الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه
وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه مما سواه.
الباب السابع: فى أ، القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه.
الباب الثامن: فى زكاة القلب.
الباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه.
الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته.



(1/6)








ص -7- الباب الحادى عشر: فى علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه.
الباب الثانى عشر: فى علاج مرض القلب بالشيطان.
الباب الثالث عشر: فى مكايد الشيطان التى يكيد بها ابن آدم. وهو الذى وضع لأجله
الكتاب. وفيه فصول جمة الفوائد حسنة المقاصد.
والله تعالى يجعله خالصا لوجهه، مؤمنا من الكرة الخاسرة، وينفع به مصنفه وكاتبه،
والناظر فيه فى الدنيا والآخرة، إنه سميع عليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى
العظيم.



(1/7)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الأول: فى انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت
الباب الأول: فى انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة.
فالقلب الصحيح: هو القلب السليم الذى لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما
قال تعالى:
{يومَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليِمٍ}
[الشعراء: 88-89].
والسليم هو السالم، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات، كالطويل والقصير والظريف؛
فالسليم القلب الذى قد صارت السلامة صفة ثابتة له، كالعليم والقدير، وأيضا فإنه ضد
المريض، والسقيم، والعليل.
وقد اختلفت عبارات الناس فى معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذى قد
سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما
سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله. فسلم فى محبة غير الله معه ومن خوفه ورجائه
والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته فى كل حال والتباعد من سخطه
بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التى لا تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم: هو الذى سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت
عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، وتوكلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء. وخلص
عمله لله،



(2/1)








ص -8- فإن أحب أَحَبَّ فى الله، وإن أبغض أبغض فى الله، وإن أعطى أعطى لله،
وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام
والاقتداء به وحده، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال من أقوال القلب، وهى العقائد،
وأقوال اللسان؛ وهى الخبر عما فى القلب. وأعمال القلب، وهى الإرادة والمحبة
والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح. فيكون الحاكم عليه فى ذلك كله دقه وجله هو ما
جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول
ولا عمل، كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرَسُولهِ} [
الحجرات: 1 ].
أى لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر، قال بعض السلف: ما من فعلة وإن صغرت
إلا ينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أى لم فعلت؟ وكيف فعلت؟ فالأول: سؤال عن علة
الفعل وباعثه وداعيه؛ هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا فى محبة
المدح من الناس أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل؟ أم الباعث
على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى،
وابتغاء الوسيلة إليه؟.
ومحل هذا السؤال: أنه، هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك
وهواك؟.
والثانى: سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام فى ذلك التعبد، أى هل كان ذلك
العمل مما شرعته لك على لسان رسولى، أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه؟.
فالأول سؤال عن الإخلاص، والثانى عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا
بهما.
فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثانى:
بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع. فهذه
حقيقة سلامة القلب الذى ضمنت له النجاة والسعادة.



(2/2)








ص -9- فصل فى القلب الميت
والقلب الثانى: ضد هذا، وهو القلب الميت الذى لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا
يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته؛ ولو كان فيها سخط ربه
وغضبه، فهو لا يبالى إذا فاز بشهوته وحظه، رضى ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله:
حبا، وخوفا، ورجاء، ورضا، وسخطا، وتعظيما؛ وذلا. إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض
لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه. فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا
مولاه. فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه. فهو بالفكر فى
تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور. ينادى إلى الله
وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد، فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد. الدنيا
تسخطه وترضيه. والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه. فهو فى الدنيا كما قيل فى ليلى:
عَدُو لِمَنْ عَادَتْ، وَسِلمٌ لأهْلِهَا وَمَنْ قَرَّبَتْ لَيْلَى أَحَبَّ
وَأَقْرَبا



(2/3)








فمخالطة صاحب هذا القلب سقم. ومعاشرته سم. ومجالسته هلاك.
فصل فى القلب المريض
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة؛ فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو
لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له، والتوكل
عليه: ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها،
والحسد والكبر والعجب؛ وحب العلو والفساد فى الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه
وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع
يدعوه إلى العاجلة. وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا، وأدناهما إليه جوارا.
فالقلب الأول، حى مخبت لين واع، والثانى يابس ميت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة
أدنى، وإما إلى العطب أدنى.
وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة فى قوله:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكٍَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبى إِلا إِذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فىِ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشّيْطَانُ
ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ليجَعَلَ مَا يُلْقِى
الشّيْطَانُ



(2/4)








ص -10- فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِى قُلُوبهِمْ مَرضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
وَإن الظّالمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أنَّهُ الحقُّ مِنْ رَبكَ فَيُؤْمنُوا به فَتخْبِتَ لَهُ قُلوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ
لهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54].
فجعل الله سبحانه وتعالى القلوب فى هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلبا ناجيا،
فالمفتونان: القلب الذى فيه مرض، والقلب القاسى. والناجى: القلب المؤمن المخبت إلى
ربه. وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد.
وذلك: أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما لا آفة به، يتأتى
منه ما هيئ له وخلق لأجله. وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته، وعدم التأتى
لما يراد منه، كاليد الشلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذكر العِنِّين
والعين التى لا تبصر شيئا. وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها
على السداد. فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة.
فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو
صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسى: لا يقبله ولا ينقاد له.
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسى. وإن غلبت عليه صحته التحق
بالسليم.
فما يلقيه الشيطان فى الأسماع من الألفاظ، وفى القلوب من الشبه والشكوك: فيه فتنة
لهذين القلبين، وقوة للقلب الحى السليم. لأنه يردّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن
الحق فى خلافه، فيخبت للحق قلبه ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان،
فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له. فلا يزال القلب المفتون فى
مرية من إلقاء الشيطان. وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدا.
قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى



(2/5)








عليه وآله وسلم:
"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَعَرْضِ الْحَصِيرِ عُودًا عُودًا.
فَأَىُّ قَلْبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَتْ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ
أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حَتَّى تَعُودَ الْقُلُوبُ عَلَى
قَلْبَيْنِ: قَلْبٍ



(2/6)








ص -11- أَسْوَد مُرْبَادًا كالكُوزِ مُجَخِّيًا. لا يَعْرِفُ مَعْروفاً وَلا
يُنْكِرُ مُنْكَراً، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ، وَقَلْبٍ أَبْيَض لا
تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ".
فشبه عرض الفتن على



(2/7)








ص -12- القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير، وهى طاقاتها شيئا فشيئا، وقسم
القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب
السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود
وينتكس، وهو معنى قوله "كالكوز مجخيا" أى مكبوبا منكوسا، فإذا اسود
وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه
المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وربما استحكم عليه هذا
المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق
باطلا والباطل حقا، الثانى: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة
أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن التى تعرض على القلوب هى أسباب مرضها، وهى فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن
الغى والضلال، فتن المعاصى والبدع، فتن الظلم والجهل فالأولى توجب فساد القصد
والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد.
وقد قسم الصحابة رضى الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن
اليمان:
"الْقلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ، فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ
قَلْبُ المُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَغْلفُ، فَذلِكَ قَلْبُ الكَافِرِ، وَقَلْبٌ
مَنْكُوسٌ، فَذلِكَ قَلْبُ المُنافِقِ، عَرَفَ ثمَّ أَنْكَرَ، وَأبْصَرَ ثُمَّ
عَمِىَ، وَقَلْبُ تَمُدُّهُ مَادَّتَانِ: مَادَّةُ إِيمَانٍ، وَمَادَّةُ نِفَاقٍ،
وَهُوَ لما غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا".
فقوله "قلب أجرد" أى متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى
الحق. و"فيه سراج يزهر" وهو مصباح الإيمان: فأشار بتجرده إلى سلامته من
شبهات



(2/Cool








ص -13- الباطل وشهوات الغى، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور
العلم والإيمان. وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر؛ لأنه داخل فى غلافه وغشائه،
فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى، حاكيا عن اليهود:
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]. وهو جمع أغلف، وهو الداخل فى غلافه،
كقلف وأقلف، وهذه الغشاوة هى الأكنة التى ضربها الله على قلوبهم، عقوبة لهم على رد
الحق والتكبر عن قبوله. فهى أكنة على القلوب ووقر فى الأسماع، وعمى فى الأبصار،
وهى الحجاب المستور عن العيون فى قوله تعالى:
{وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء: 45-46]. فإذا ذكر
لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة، ولّى أصحابها على أدبارهم نفورا.
وأشار بالقلب المنكوس- وهو المكبوب- إلى قلب المنافق، كما قال تعالى:
{فمَا لَكُمْ فِى المُنَافِقينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}
[النساء: 88]. أى نكسهم وردهم فى الباطل الذى كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم
الباطلة وهذا شر القلوب وأخبثها، فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالى أصحابه، والحق
باطلاً ويعادى أهله، فالله المستعان.
وأشار بالقلب الذى له مادتان إلى القلب الذى لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه
سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذى بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه ومادة من
خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر،
والحكم للغالب وإليه يرجع.



(2/9)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب



(3/1)








ص -14- الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب
قال الله تعالى عن المنافقين {فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}
[البقرة: 10]، وقال تعالى {لِيَجْعَل مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلّذِينَ
فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]، وقال تعالى {يَا نِساءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ
كَأَحَد مِنَ النسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، أمرهن أن لا يَلنَّ فى كلامهن، كما
تلين المرأة المعطية الليان فى منطقها، فيطمع الذى فى قلبه مرض الشهوة، ومع ذلك
فلا يخشنّ فى القول بحيث يلتحق بالفحش، بل يقلن قولا معروفا، وقال تعالى {لَئنْ
لَمْ ينْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ
فِى المَدينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بهِم} [الأحزاب: 60]، وقال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا
أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً
لِلّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ
الذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيقُولَ الّذِينَ فى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ وَا-لْكَافِرُونَ
مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهذَا مَثَلاً} [المدثر: 31].
أخبر الله سبحانه عن الحكمة التى جعل لأجلها عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة
عشر، فذكر سبحانه خمس حكم: فتنة الكافرين. فيكون ذلك زيادة فى كفرهم وضلالهم، وقوة
يقين أهل الكتاب، فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير
تلق من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنهم، فتقوم الحجة على معاندهم،
وينقاد للإيمان من يريد الله أن يهديه. وزيادة الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك
والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال
تصديقهم به.
فهذه أربعة حكم: فتنة



(3/2)








الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين،
وأهل الكتاب.



(3/3)








ص -15- والخامسة: حيرة الكافر ومن فى قلبه مرض، وعمى قلبه عن المراد بذلك،
فيقول:
{مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهذَا مَثَلاً} [البقرة: 26].
وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفراً وجحوداً. وقلب
يزداد به إيمانا وتصديقا، وقلب يتيقنه، فتقوم عليه به الحجة، وقلب يوجب له حيرة
وعمى، فلا يدرى ما يراد به.
واليقين وعدم الريب فى هذا الموضع، إن رجعا إلى شىء واحد، كان ذكر عدم الريب مقررا
لليقين ومؤكدا له، ونافيا عنه ما يضاده بوجه من الوجوه. وإن رجعا إلى شيئين، بأن
يكون اليقين راجعا إلى الخبر المذكور عن عدة الملائكة، وعدم الريب عائدًا إلى عموم
ما أخبر الرسول به، لدلالة هذا الخبر الذى لا يعلم إلا من جهة الرسل على صدقه، فلا
يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعد صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ظهرت
فائدة ذكره.
والمقصود: ذكر مرض القلب وحقيقته.
وقال تعالى {يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبكُمْ
وَشِفَاءٌ لما فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
فهو شفاء لما فى الصدور من مرض الجهل والغى، فإن الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى.
والغى مرض شفاؤه الرشد، وقد نزه الله سبحانه نبيه عن هذين الداءين. فقال:
{والنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1،2].
ووصف رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خلفاءه بضدهما فقال: "عَلَيْكُمْ
بِسُنّتِى وسُنَّةِ اَلْخْلَفَاءِ الرَّاشِدينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ
بَعْدِى".
وجعل كلامه سبحانه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة، وشفاء تاما لما
فى الصدور، فمن استشفى به صح وبرئ من مرضه ومن لم يستشف به فهو كما قيل:



(3/4)








ص -16- ِإذَا بَلَّ مِنْ دَاءٍ بِهِ ظَنَّ أنّهُ نَجَا وَبِهِ الدَّاءُ الّذِى
هُوَ قَاتِلُهْ
وقال تعالى {وَنُنَزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظّالمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82]
والأظهر أن "من" هاهنا لبيان الجنس، فالقرآن جميعه شفاء ورحمة للمؤمنين.
فصل : فى أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعى لفساد يعرض
له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم
والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف فى آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن
يدرك الأشياء على خلاف ما هى عليه، كما يدرك الحلو مرا، والخبيث طيبا، والطيب
خبيثا.
وأما فساد حركته الطبيعية: فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة أو
الجاذبة، فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد
الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة.
وسبب هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد فى الكمية أو فى الكيفية.
فالأول: إما لنقص فى المادة، فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها، فيحتاج إلى
نقصانها.
والثانى: إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن
القدر الطبيعى، فيداوى بمقتضى ذلك، ومدار الصحة على حفظ القوة، والحمية عن المؤذى،
واستفراغ المواد الفاسدة. ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، وقد تضمنها
الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة.



(3/5)








ص -17- فأما حفظ القوة: فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا فى رمضان،
ويقضى المسافر إذا قدم، والمريض إذا برئ، حفظاً لقوتهما عليهما، فإن الصوم يزيد
المريض ضعفا، والمسافر يحتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، والصوم يضعفها.
وأما الحمية عن المؤذى: فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد فى الوضوء
والغسل، إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له عن ورود المؤذى عليه من
ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذى له فى باطنه.
وأما استفراغ المادة الفاسدة: فإنه سبحانه أباح للمحرم الذى به أذى من رأسه أن
يحلقه، فيستفرغ بالحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها،
فنبه به على ما هو أحوج إليه منه.
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا، فقال: والله لو سافرت إلى الغرب فى معرفة
هذه الفائدة لكان سفرا قليلا، أو كما قال.
وإذا عرف هذا، فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات،
وإلى حمية عن المؤذى الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصى، وأنواع المخالفات، وإلى
استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات.
ومرضه هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقا، أو
يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق
النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له، وهو الغالب، ولهذا يفسر المرض الذى
يعرض له، تارة بالشك والريب، كما قال مجاهد وقتادة فى قوله تعالى:
{فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]. أى شك.
وتارة بشهوة الزنا، كما فسر به قوله تعالى:
{فَيَطْمَعَ الّذِى فِى قَلْبهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].



(3/6)








ص -18- فالأول مرض الشبهة، والثانى مرض الشهوة.
والصحة تحفظ بالمثل والشبه، والمرض يدفع بالضد والخلاف، وهو يقوى بمثل سببه، ويزول
بضده، والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده.
ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذى الصحيح: من يسير الحر، والبرد، والحركة،
ونحو ذلك، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شىء: من الشبهة أو الشهوة، حيث
لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوى يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه
بقوته وصحته.
وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف، ما
لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه.



(3/7)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الثالث: فى انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية
الباب الثالث: فى انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية، وشرعية
مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه فى الحال، وهو النوع المتقدم، كمرض الجهل،
ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات. وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما، ولكن لفساد
القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا
فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوار عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين
وأصعبهما. وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
والنوع الثانى: مرض مؤلم له فى الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد
يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، ويدفع
موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى
به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه.



(4/1)








ص -19- فأمراض القلب التى تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد
لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت. وأما أمراضه التى لا تزول إلا بالأدوية
الإيمانية النبوية فهى التى توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها
بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال
"شفى غيظه" فإذا استولى عليه عَدُوُّه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى
قلبه، قال تعالى:
{قَاتلُوهُمْ يُعَذبْهُمُ اللهُ بأَيدِيكُمْ وَ يُخزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبهِمْ
وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 14-15].
فأمر بقتال عدوهم، وأعلمهم أن فيه ست فوائد.
فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه فى شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل
زاده مرضا من حيث ظن أنه يشفيه، وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق، فإن ذلك
يزيد مرضه، ويوجب له أمراضا أُخر أصعب من مرض العشق كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وكذلك
الغم والهم والحزن أمراض للقلب، وشفاؤها بأضدادها: من الفرح والسرور، فإن كان ذلك
بحق اشتفى القلب وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر، ولم يزل،
وأعقب أمراضا هى أصعب وأخطر.
وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب. فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح
من مرضه بتلك العلوم، وهى فى الحقيقة إنما تزيده مرضا إلى مرضه، لكن اشتغال القلب
بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة، التى هى شرط فى صحته
وبرئه، وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الذين أفتوا بالجهل، فهلك
المستفتى بفتواهم "قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء
العى السؤال"، فجعل الجهل مرضا وشفاءه سؤال أهل العلم.
وكذلك الشاك فى الشىء المرتاب فيه، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما
كان



(4/2)








ص -20- ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره، وحصل له برد
اليقين، وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده، وينشرح بالهدى والعلم، قال
الله تعالى:
{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهديَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَن يُرِدْ
أَنْ يضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كأَنماَ يَصَّعَّدُ فِى السَّماءِ}
[الأنعام: 125].
وسيأتى ذكر مرض ضيق الصدر وسببه وعلاجه، إن شاء الله تعالى.
والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية. ومنها ما لا يزول إلا
بالأدوية الشرعية الإيمانية، والقلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما
للبدن.



(4/3)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الرابع: فى أن حياة القلب وإشراقة مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر
(وفتنة) فيه
الباب الرابع: فى أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر
وفتنة فيه
أصل كل خير وسعادة للعبد، بل لكل حى ناطق: كمال حياته ونوره. فالحياة والنور مادة
الخير كله، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فى النّاسِ كَمن مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوته، وسمعه وبصره، وحياؤه
وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح. فكلما
قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات، وحياؤه من
القبائح هو بحسب حياته فى نفسه، فالقلب الصحيح الحى إذا عرضت عليه القبائح نفر
منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرق بين الحسن
والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه: "هلك من لم يكن له
قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر".



(5/1)








ص -21- وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك
بحسب قوة المرض وضعفه.
وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هى عليه،
فاستبان حُسْنَ الحسن بنوره، وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح، وقد ذكر سبحانه
وتعالى هذين الأصلين فى مواضع من كتابه. فقال تعالى:
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا
الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِى به مَنْ نَشَاءُ
مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ} [الشورى: 52].
فجمع بين الروح الذى يحصل به الحياة، والنور الذى يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر
أن كتابه الذى أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متضمن للأمرين، فهو روح
تحيا به القلوب، ونور تستضىء وتشرق به، كما قال تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ ميْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فى
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلهُ فِى الظُّلمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:
122].
أى أو من كان كافرا ميت القلب، مغموراً فى ظلمة الجهل: فهديناه لرشده، ووفقناه
للإيمان، وجعلنا قلبه حيا بعد موته، مشرقا مستنيراً بعد ظلمته؟ فجعل الكافر
لانصرافه عن طاعته، وجهله بمعرفته، وتوحيده وشرائع دينه، وترك الأخذ بنصيبه من
رضاه، والعمل بما يؤديه إلى نجاته وسعادته: بمنزلة الميت الذى لا ينفع نفسه
بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه، فهديناه للإسلام وأنعشناه به، فصار يعرف مضار
نفسه ومنافعها، ويعمل فى خلاصها من سخط الله تعالى وعقابه، فأبصر الحق بعد عماه
عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور وضياء يستضىء به،
فيمشى بنوره بين الناس، وهم فى سدف الظلام، كما قيل:
لَيْلى بِوَجْهِكَ مُشْرِقٌ وَظَلامُهُ فى النَّاسِ سَارِى



(5/2)








النَّاسُ فى سُدُفِ الظّلا م وَنَحْنُ فِى ضَوْءِ النّهَارِ
ولهذا يضرب الله سبحانه وتعالى المثلين المائى والنارى لوحيه ولعباده.
أما الأول فكما قال فى سورة الرعد {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِياً وَمِمَّا
يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثُلهُ
كَذلِكَ يَضرِبُ اللهُ الحقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزّبَدُ فيذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].



(5/3)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:01

ص -22- فضرب لوحيه المثل بالماء، لما يحصل به من الحياة، وبالنار لما يحصل بها
من الإضاءة والإشراق، وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها، فواد كبير يسع ماء
كثيراً، وواد صغير يسع ماء قليلا. كذلك القلوب مشبهة بالأودية، فقلب كبير يسع علما
كثيراً، وقلب صغير إنما يسع بقدره. وشبه ما تحمله القلوب من الشبهات والشهوات،
بسبب مخالطة الوحى لها، وإمارته لما فيها من ذلك، بما يحتمله السيل من الزبد. وشبه
بطلان تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها، بذهاب ذلك الزبد، وإلقاء الوادى
له، وإنما يستقر فيه الماء الذى به النفع. وكذلك فى المثل الذى بعده: يذهب الخبث
الذى فى ذلك الجوهر، ويستقر صفوه.
وأما ضرب هذين المثلين للعباد، فكما قال فى سورة البقرة:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِروُنَ صُم بُكْمٌ
عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17-18].فهذا المثل النارى ثم قال {أَوْ
كَصيبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19].
فهذا المثل المائى.
وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم فى كتاب المعالم
وغيره.
والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين. قال تعالى:
{إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرٌآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيا} [يس:
69-70].
فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حى القلب، كما قال فى
موضع آخر:
{إِنّ فِى ذلِكَ لَذِكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37].
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا
دَعَاكُمْ لما يُحيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هى بما



(5/4)








يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان. فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد
ذلك.
وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور. وهذا من أحسن التشبيه، فإن
أبدانهم قبور لقلوبهم. فقد ماتت قلوبهم وقبرت فى أبدانهم. فقال الله تعالى:
{إنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ}
[فاطر: 22].
ولقد أحسن القائل:



(5/5)








ص -23- وَفِى الجهلِ قَبْلَ الموْتِ مَوْتٌ لأَهْلِه وَأَجْسَامُهُمْْ، قَبْلَ
القُبُورِ، قُبُورُ
وَأَرْوَاحُهُمْ فى وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهم وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ
نُشُورُ
ولهذا جعل سبحانه وحيه الذى يلقيه إلى الأنبياء روحا، كما قال تعالى:
{يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15].
فى موضعين من كتابه، وقال {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}
[الشورى: 52]؛ لأن حياة الأرواح والقلوب به، وهذه الحياة الطيبة هى التى خص بها
سبحانه من قَبِلَ وحيه، وعمل به فقال:
{مَنْ عَمِلَ صَالحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
فخصهم سبحانه وتعالى بالحياة الطيبة فى الدارين، ومثله قوله تعالى:
{وَأَنِ اسْتَغْفِروُا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبوا إِلَيْهِ يُمَتعْكُمْ مَتَاعاً
حَسَناً إلَى أَجَلٍ مُسَمى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]. ومثله
قوله تعالى {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا فى هذِهِ الدُّنْيَا حسَنَةٌ وَلَدَارُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ} [النحل:30] ومثله قوله تعالى
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ}
[الزمر: 10].
فبين سبحانه أنه يسعد المحسن بإحسانه فى الدنيا وفى الآخرة، كما أخبر أنه يشقى
المسىء بإساءته فى الدنيا والآخرة. قال تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ
الْقيَامَة أَعْمَى} [طه: 124].
وقال تعالى، وقد جمع بين النوعين:
{فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ
أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقاً حَرَجاً كَأَنمَا يَصَّعَّد فى



(5/6)








السَّمَاءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}
[الأنعام: 125].
فأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر
والحرج.
وقال تعالى:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}
[الزمر: 22].
فأهل الإيمان فى النور وانشراح الصدور، وأهل الضلال فى الظلمة وضيق الصدور.
وسيأتى فى باب طهارة القلب مزيد تقرير لهذا إن شاء الله تعالى.
والمقصود: أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه.



(5/7)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له
مؤثرا له على غيره



(6/1)








ص -24- الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق
مريدا له، مؤثرا له على غيره.
لما كان فى القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب. كان كماله
وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله
باستعمال قوة العلم فى إدراك الحق، ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال
قوة الإرادة والمحبة فى طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو
ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه. ومن عرفه واتبعه فهو مُنْعَمٌ عليه.
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله فى صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله
عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال؛ لأنهم أمة
جهل. واليهود أخص بالغضب؛ لأنهم أمة عناد. وهذه الأمة هم المنعم عليهم. ولهذا قال
سفيان بن عيينة: من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه
شبه من اليهود؛ لأن النصارى عبدوا بغير علم، واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه.
وفى المسند والترمذى من حديث عدى بن حاتم عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
قال:
"الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ".
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى غير موضع من كتابه، فمنها قوله تعالى:
{وَإِذا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ}
[البقرة: 186].
فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به. ومنها قوله عن رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا به وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الّذِى
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وقال تعالى {آلم
ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمٍتَّقينَ الذينَ يُؤمِنُونَ



(6/2)








بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَما أُنْزلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزلَ مِنْ قَبْلِكَ وبِالآخِرةِ
هُمْ يُوقِنُونَ



(6/3)








ص -25- أُولئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}
[البقرة:1-5]. وقال تعالى فى وسط السورة: {وَلكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالملائِكَةِ وَالْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وَآتى المَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفَىِ الرقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاة وَآتَى الزَّكَاةَ...إلى آخر
الآية} [البقرة: 177] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِى خُسْر إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بِالحقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3].
فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذى هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة، على أن كل واحد
فى خسر، إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالعمل بطاعته.
فهذا كماله فى نفسه، ثم كمل غيره بوصيته له بذلك، وأمره إياه به، وبملاك ذلك، وهو
الصبر. فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك،
ووصيته له بالصبر عليه، ولهذا قال الشافعى رحمه الله: لو فكر الناس فى سورة
والعصر، لكفتهم.
وهذا المعنى فى القرآن فى مواضع كثيرة: يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا
الحق واتبعوه، وأهلَ الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه، أو علموه وخالفوه
واتبعوا غيره.
وينبغى أن يعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان فى القلب، بل إن استعمل قوته العلمية
فى معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها فى معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن
استعمل قوته الإرادية العملية فى العمل به، وإلا استعملها فى ضده، فالإنسان حارث
هَمَّام بالطبع، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَصْدَقُ
الأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ".
فالحارث الكاسب العامل، والهمام المريد، فإن النفس متحركة بالإرادة. وحركتها
الإرادية لها من لوازم ذاتها،



(6/4)








والإرادة تستلزم مرادا يكون متصوَّرا لها، متميزا عندها، فإن لم تتصور الحق
وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته، وأرادته ولا بد. وهذا يتبين بالباب الذى بعده.
فنقول:



(6/5)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه
وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه مما سواه



(7/1)








ص -26- الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب، ولا لذة، ولا نعيم، ولا صلاح إلا
بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما
سواه.
معلوم أن كل حَىّ سوى الله سبحانه: من ملك أو إنس أو جن أو حيوان، فهو فقير إلى
جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من
جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بد له من أمرين: أحدهما معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذى ينتفع به ويلتذ
بإدراكه، والثانى: معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران
آخران، أحدهما: مكروه بغيض ضار، والثانى: معين دافع له عنه، فهذه أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود. الثانى: أمر مكروه مطلوب العدم. الثالث:
الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب. الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.
فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذى يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، الذى
يراد وجهه، ويبتغى قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه
والالتفات إليه، والتعلق به: هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو
سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه. فهو المعبود المحبوب المراد. وهو
المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له. والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته
وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم: "أَعُوذ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ
مِنْ



(7/2)








ص -27- عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ"
وقال: "اللهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ نَفْسِى إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِى
إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إلَيْكَ، وَأَلْجأْتُ ظَهْرِى إلَيْكَ، رَغْبَةً
وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إلا إلَيْكَ".
فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته،
فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله، أو مفعوله الذى خلقه بمشيئته.
فالأمر كله له، والحمد كله له، والملك كله له، والخير كله فى يديه، لا يحصى أحد من
خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه كل أحد من خلقه.
ولهذا كان صلاح العبد وسعادته فى تحقيق معنى قوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى
يستعان به على المطلوب.
فالأول: من معنى ألوهيته، والثانى: من معنى ربوبيته، فإن الإله هو الذى تألهه
القلوب: محبة، وإنابة، وإجلالا، وإكراما، وتعظيما، وذلا، وخضوعا، وخوفا ورجاء،
وتوكلا. والرب تعالى هو الذى يربى عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله
إلا هو ولا رب إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى مواضع من كتابه كقوله:
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وقوله عن نبيه شعيب {وَمَا
تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وقوله
{وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحِْ بحمدِهِ} [الفرقان: 58]
وقوله: {وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا
هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8-9] وقوله {قُلْ هُوَ رَبّى لاَ إِلهَ إِلا
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وقوله عن



(7/3)








الحنفاءِ أتباع إبراهيم عليه لسلام {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ
أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر} [الممتحنة: 4].



(7/4)








ص -28- فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين لا
سعادة للعبد بدونهما البتة.
الوجه الثانى: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته والإنابة
إليه ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته فى الآخرة
تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم فى الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا
أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم: من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة. ولم
يعطهم فى الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به،
ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره.
وقد جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين هذين الأمرين فى الدعاء الذى رواه
النسائى والإمام أحمد، وابن حبان فى صحيحه وغيرهم، من حديث عمار ابن ياسر: أن رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو به "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على
الخلق، أحينى ما علمت الحياة خيرا لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى، وأسألك
خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الرضى والغضب، وأسألك القصد فى
الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد
القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى
لقائك فى غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا
هداة مهتدين".
فجمع فى هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء فى الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه
سبحانه، وأطيب شىء فى الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه.
ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر فى الدنيا. ويفتن فى الدين قال:
"فى غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة".
ولما كان كمال العبد فى أن يكون عالما بالحق متبعا له معلماً لغيره، مرشدا له قال:
"وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مهتدينَ".
ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد



(7/5)








وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك
العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد
وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما فى المسند وغيره عنه صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه



(7/6)








ص -29- بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى
الله تعالى".
ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير فى المشهد والمغيب، سأله خشيته فى الغيب
والشهادة.
ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق فى رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل،
وقد يدخله أيضاً رضاه فى الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق فى الغضب
والرضى. ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه فى الباطل، وإذا غضب
أخرجه غضبه من الحق.
ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده. ففى الغنى يبسط يده،
وفى الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد فى الحالين، وهو التوسط الذى ليس معه
إسراف ولا تقتير.
ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن، ونوعا للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه
واستمراره، جمع بينهما فى قوله "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".
ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا
وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه فى العقبى، سأل ربه الزينة
الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ".
ولما كان العيش فى هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص
والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.
والمقصود: أنه جمع فى هذا الدعاء بين أطيب ما فى الدنيا، وأطيب ما فى الآخرة.
فإن حاجة العباد إلى ربهم فى عبادتهم إياه وتألههم له، كحاجتهم إليه فى خلقه لهم،
ورزقه إياهم،



(7/7)








ص -30- ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وتأمين روعاتهم، بل حاجتهم إلى تألهه
ومحبته وعبوديته أعظم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم. ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا
فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال
ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس
الأمر، وأما توحيد الربوبية الذى أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام فى
كتبهم، فلا يكفى وحده، بل هو الحجة عليهم، كما بين ذلك سبحانه فى كتابه الكريم فى
عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما فى
الحديث الصحيح الذى رواه معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه
وسلم قال: "أتدرى ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه على
عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟
قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"، ولذلك يحب
سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم، كما أن فى ذلك أعظم لذة العبد
وسعادته ونعيمه، فليس فى الكائنات شىء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به
ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة،
فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن
السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى:
{لَوْ كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن
يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذى يحبه ويرجوه،
ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.
الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له
نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس،
فيقاس بها،



(7/Cool








ولكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه
الحق الذى لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو
كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته
وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له
ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا فى حال، وبهذا فى حال،
وكثيرا ما يكون ذلك الذى



(7/9)








ص -31- يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته. وأما إلهه الحق فلا بد له منه فى
كل وقت وفى كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو
غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة
والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان،
وبُخِس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء
والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد
رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما فى مقالات من بُخِسَ
حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ
الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل
لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان، والله
المستعان، وعليه التكلان.
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا
وتبعا فى بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هى من لوازم هذه النشأة.
فأوامره سبحانه، وحقه الذى أوجبه على عباده، وشرائعه التى شرعها لهم هى قرة العيون
ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها فى
معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم فى الحقيقة إلا بذلك،
كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ
لمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ
وَبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيٌر مِمَّا يجمعُونَ} [يونس: 57- 58].
قال أبو سعيد الخدرى "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال
هلال بن يساف "بالإسلام الذى هداكم إليه. وبالقرآن الذى علمكم إياه، هو خير
مما تجمعون: من الذهب والفضة" وكذلك



(7/10)








قال ابن عباس والحسن وقتادة "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت
طائفة من السلف "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام".
والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن
الله بهما على رسوله عليه الصلاة والسلام فقال:
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا
الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52].
والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما.



(7/11)








ص -32- فإن قيل: فقد وقع تسمية ذلك تكليفا فى القرآن كقوله:
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله: {لا
نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
قيل: نعم، إنما جاء ذلك فى جانب النفى، ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه
تكليفا قط، بل سماها روحا ونورا، وشفاء وهدى ورحمة، وحياة، وعهدا، ووصية، ونحو
ذلك.
الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه
الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما فى صحيح مسلم عن صهيب رضى الله عنه عن النبى صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة
إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل
موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه،
فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وفى حديث آخر: "فلا يلتفتون
إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" فبين النبىّ عليه الصلاة والسلام
أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر
إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح
والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا
نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة. ولهذا قال سبحانه وتعالى فى حق الكفار:
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُونَ ثُم إِنَّهُمْ
لَصالُوا الْجحِيمِ} [المطففين: 15-16].
فجمع عليهم نوعى العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه
نوعى النعيم: نعيم التمتع بما فى الجنة. ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه
الأنواع الأربعة فى هذه السورة فقال فى حق الأبرار:
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22،
23].
ولقد هضم معنى الآية



(7/12)








من قال: ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر
بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه
ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون.
{ثُمَّ إنَّهُمْ لَصالُوا الجحِيمِ} [المطففين: 16].
وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار فى أعدائهم فى الدنيا وسخروا به منهم، بضده
فى القيامة، فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم:
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32]



(7/13)








ص -33- فقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ
يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم، ثم قال: فأطلق النظر،
ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه.
والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم:
{إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ} [المطففين: 32].
فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد، إما بخصوصه، وإما بالعموم
والإطلاق، ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك، خصوصا أو عموما.
فصل:
[فى أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته فى
الدنيا]
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما فى الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا
نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر
إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة. فكلما
كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه
أعظم.
الوجه الخامس: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى
ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو
الذى يملك له ذلك كله، قال الله تعالى:
{مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الَحْكِيمُ} [فاطر: 2] وقال
تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ
يُردْكَ بِخَيْر فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ
فَلا غَالبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ
بَعْدِهِ} [آل عمران:160].



(7/14)








وقال تعالى عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِِّ عَنى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}
[يس: 23] وقال تعالى: {يَا أيهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ
إلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] وقال تعالى: {أَمَّنْ هذَا الّذِى هُوَ
جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ



(7/15)








ص -34- فى غُرُورٍ أَمَّنْ هذَا الّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ
بَلْ لَجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20- 21].
فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، ويجلب
له منافعه برزقه، فلا بد له من ناصر ورازق. والله وحده هو الذى ينصر ويرزق، فهو
الرزاق ذو القوة المتين. ومن كمال فطنة العبد ومعرفته: أن يعلم أنه إذا مسه الله
بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه. ويذكر أن الله تعالى
أوحى إلى بعض أنبيائه:
"أدْرِكْ لِى لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَخَفِى اللُّطْفِ، فَإنِّى أُحِبُّ
ذلِكَ. قَالَ: يَا رب وَمَا لَطِيفُ الْفِطْنَةِ؟ قَالَ: إنْ وَقَعَتْ عَلَيْكَ
ذُبَابَةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا أَوْقَعْتُهَا فَاسْأَلْنِى أَرْفَعْهَا. قَالَ:
وَمَا خَفِىُّ اللُّطْفِ؟ قَالَ: إذَا أَتَتْكَ حَبَّةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا
ذَكَرْتُكَ بِهَا" وقد قال تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ
مِنْ أحَدٍ إلا بإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102].
فهو سبحانه وحده الذى يكفى عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبا يقول: قال الله
تعالى فى بعض كتبه:
"بِعِزَّتى، إنّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِى، فَإِنْ كادَتْهُ السَّموَاتُ بِمَنْ
فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ بِمَنْ فِيهِنَّ، فَإنِّى أَجْعَلُ لَهُ مِنْ ذلِكَ
مَخْرَجاً، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِى، فَإِنِّى أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنْ
أَسْبَابِ السَّمَاءِ وَأَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأرْضَ،
فَأَجْعَلُهُ فى الْهَوَاءِ، ثُمَّ أكِلُهُ إلَى نَفْسِهِ، كَفِّى لِعَبْدِى
مَلأى، إذَا كانَ عَبْدِى فى طَاعَتِى أعْطِيِه قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنى،
وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أنْ يَدْعُوَنِى، فإنِّى أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ الَّتى
تَرْفُقُ بِهِ مِنْهُ".
قال أحمد: وحدثنا هاشم بن



(7/16)








القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراسانى قال: لقيت وهب بن
منبه، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثنى حديثا أحفظه عنك فى مقامى هذا وأوجز، قال
نعم:
"أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، أَمَا
وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ بِى عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِى دُونَ خَلْقِى -
أَعْرِفُ ذلِكَ مِنْ نِيتهِ - فَتَكِيدُهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ،
وَالأرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِلا جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِهنَّ مَخْرَجا؛
أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِى بِمَخْلُوقٍ
دُونى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِن نِيَّتِهَ- إِلا قَطَعْتُ أسبابَ السَّماءِ مِنْ يدِه،
وَأَسَخْتُ الأرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ثُم لا أُبَالِى بِأَىِّ وَادٍ
هَلَكَ".
وهذا الوجه أظهر للعامة من الذى قبله. ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول
ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول. وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو
عباده



(7/17)








ص -35- بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله تعالى
والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضا: محبته وعبادته، لإحسانه
إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا
منه إلى الوجه الأول.
ونظير ذلك: من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله
سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه
ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى
يطلبه، ويشتاق إليه، وفى نحو ذلك قال القائل:
جَزَى اللهُ يَوْمَ الرَّوْعِ خَيْرًا، فَإِنَّه أَرَانَا عَلَى عِلاتِهِ أمَّ
ثَابِتِ
أَرَانَا مَصُونَاتِ اْلحِجابِ، وَلَمْ نَكُنْ نَرَاهنَّ إِلا عِنْدَ نَعْتِ
النَّوَاعِتِ



(7/18)








الوجه السادس: أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق
القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته، فإذا نال من الطعام والشراب
والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب، فلا بد أن يسلبه
ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه، إما فى الدنيا
وإما فى الآخرة، والغالب أنه يعذب به فى الدارين، قال تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفقُونَهَا فى سَبِيلِ
اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فى نَارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا
كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34- 35].
وقال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ
اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ
وَهُم كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
ولم يصب من قال: إن الآية على التقديم والتأخير، كالجرجانى، حيث قال: ينتظم قوله
{فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه، على تأويل {فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55] وهذا القول يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما.
وهو منقطع، واختاره قتادة وجماعة، وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال
والأولاد فى الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فروا إلى التقديم والتأخير.
وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا فى هذا التعذيب، فقال الحسن
البصرى: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق فى الجهاد، واختاره ابن جرير، وأوضحه.
فقال: العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ
منه ذلك،



(7/19)








ص -36- وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الآخذ منه حمدا ولا
شكرا، بل على صغار منه وكره.
وهذا أيضا عدول عن المراد بتعذيبهم فى الدنيا بها، وذهاب عن مقصود الآية.
وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم، وسبى أولادهم فإن
هذا حكم الكافر، وهم فى الباطن كذلك. وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه
أقر المنافقين، وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم، فلو كان
المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم، فإن
الإرادة هاهنا كونية بمعنى المشيئة، وما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن.
والصواب، والله أعلم، أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا
ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها، والتعب العظيم فى جمعها ومقاساة
أنواع المشاق فى ذلك، فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه، وهو حريص بجهده على
تحصيلها. والعذاب هنا هو الألم والمشقة والتعب، كقوله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ" وقوله: "إِنَّ
المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ".
أى يتألم ويتوجع، لا أنه يعاقب بأعمالهم، وهكذا من كانت الدنيا كل همه أو أكبر همه
كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره من حديث
أنس رضى الله عنه:
"مَنْ كانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ
لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كانَتِ الدُّنْيَا
هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ،
وَلَمْ يأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ".
ومن أبلغ العذاب فى الدنيا: تشتيت الشمل وتفرق القلوب، وكون الفقر نصب عينى العبد
لا يفارقه، ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب،



(7/20)








على أن أكثرهم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:03

ص -37- لا يزال يشكو أو يصرخ منه. وفى الترمذى أيضاً عن أبى هريرة رضى الله
عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يَقُولُ اللهُ تَبَاركَ
وَتَعَالَى: ابْنَ آدَم، تَفَرَّغْ لِعبَادَتِى أَمْلأ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ
فَقْرَكَ، وَإِنْ لا تَفْعَلْ مَلأتُ يَدَيْكَ شُغْلا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ".
وهذا أيضا من أنواع العذاب، وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة
أهلها إياه، ومقاساة معاداتهم، كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على
تحمل المصائب. ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: همّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضى،
وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما فى الحديث الصحيح
عن النبى عليه الصلاة والسلام: "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ
مَالٍ لابْتَغَى لهَما ثَالِثا".
وقد مثل عيسى ابن مريم عليه السلام محب الدنيا بشارب الخمر، كلما ازداد شربا ازداد
عطشا.
وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن البصرى كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد:
فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة،
فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها فى كل
حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها. هى كالسم يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه
فكن فيها كالمداوى جراحه، يحتمى قليلا، مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الدواء
مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة، الخداعة الختَّالة، التى قد تزينت
بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة،
فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلهم
قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشَغل بها لُبَّه،
حتى زّلت عنها قدمه، فعظمت عليه ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت
وألمه،



(7/22)








وحسرات الفوت. وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغُصته، وذهب بكمده، ولم يدرك
منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير



(7/23)








ص -38- زاد، وقدم على غير مهاد. فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن
صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، وُصِل الرخاء منها
بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها
باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها
مثلا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل. فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها
زاجر؟ فما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا تُنقِصُه عند الله جناح
بعوضة، فأَبَى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه.
فزواها عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا. فيظن المغرور بها المقتدر
عليها أنه أُكْرِم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حين شد
الحجر على بطنه".
وقال الحسن أيضا: إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخُشب. فأهينوها فأهنأ ما
تكون إذا أهنتموها. وهذا باب واسع.
وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم فى طلبها.
ولما كانت هى أكبر هَمّ من لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه، كان عذابه بها
بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده فى طلبها.
وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فانٍ فى حب معشوقه، وكلما رام
قربا من معشوقه نأى عنه، ولا يفى له ويهجره ويصل عدوه. فهو مع معشوقه فى أنكد عيش،
يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء، كثير الجفاء، كثير الشركاء، سريع
الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلون، لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع
أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه، ولا وصال يدوم له، فلو لم
يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها،
وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر



(7/24)








لذته به، التى شغلته عن سعيه فى طلب زاده، ومصالح معاده؟،
وسنعود إلى تمام الكلام فى هذا الباب فى باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء
الله تعالى، إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له



(7/25)








ص -39- لله تعالى، ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى: عذب به فى الدنيا
قبل يوم القيامة. كما قيل:
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فى الْهَوى مَنْ
تَصْطَفِى
فإذا كان يوم المعاد ولّى الحكَم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه فى الدنيا. فكان
معه: إما منعما أو معذبا. ولهذا:
"يُمَثَّلُ لِصاحِبِ المَالِ مَالُهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ يَأْخُذُ
بِلِهزمَتَيه، يعنى شدقيه، يقُولُ: أنَا مَالُكَ، أَنَا كَنزُكَ، وَيُصَفّحُ لَهُ
صَفَائحَ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنبهُ وَظَهْرُهُ".
وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما
فى النار، وعذب كلٌ منهما بصاحبه. قال تعالى:
{الأخِلاءُ يَوْمَئذٍ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو إلا المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وأخبر سبحانه أن الذين توادوا فى الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة،
ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين.
فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى. ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق:
"أَلَيْسَ عَدْلا مِنِّى أَنْ أُوَلّى كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ
يَتَوَلَّى فى دَارِ الدُّنْيا؟".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ". وقال
تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهَ يَقُولُ يَا لَيْتَنى
اتّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتّخِذْ فُلاناً
خَلِيلا لَقَدْ أَضَلّنِى عَنِ الذكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءنى وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29]. وقال تعالى: {اُحْشُرُوا الّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجحِيمِ وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَالَكُمْ
لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22 - 25].
قال عمر بن



(7/26)








الخطاب رضى الله عنه "أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم" وقال تعالى:
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7].
فقرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر.
والمقصود: أن من أحب شيئا سوى الله عز وجل فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن
فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه وتألم على قدر تعلق قلبه به، وإن وجده كان ما يحصل



(7/27)








ص -40- له من الألم قبل حصوله، ومن النكد فى حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد
فوته، أضعاف أضعاف ما فى حصوله له من اللذة:
فَمَا فى الأرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فى كلِّ حَالٍمَخَافَةَ فُرْقةٍ، أَوْ لاشْتِياقِ
فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إلَيْهِمْ وَيَبْكِى إِنْ دَنَوْا، حَذرَ
الْفِرَاقِ
فَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقى وَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ



(7/28)








وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهذا قال النبى صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره: "الدنيا ملعونة،
ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" فذِكْره: جميع أنواع طاعته، فكل من
كان فى طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاه الله فقد أحبه
وقربه؛ فاللعنة لا تنال ذلك إلا بوجهه، وهى نائلة كل ما عداه.
الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو
ولا بد، عكس ما أمله منه، فلا بد أن يخذل من الجهة التى قدر أن ينصر منها، ويذم من
حيث قدر أن يحمد، وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء
والتجارب، قال تعالى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا
سيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81- 82] وقال
تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74- 75].
أى يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه، وهم لا يستطيعون نصرهم،
بل هم كَل عليهم. وقال تعالى:
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلِكنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ
آلِهَتُهُمُ الّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَىْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]. أى غير تخسير، وقال
تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} [الشعراء:
213] وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً
مَخْذُولاً} [الإسراء: 22].
فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده
ينعكس عليه، ويحصل له الخذلان والذم.
والمقصود: أن هذين الوجهين فى المخلوق وضدهما فى الخالق



(7/29)








سبحانه. فصلاح القلب


(7/30)








ص -41- وسعادته وفلاحه فى عبادة الله تعالى والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه
وضرره العاجل والآجل فى عبادة المخلوق والاستعانة به.
الوجه الثامن: أن الله سبحانه غنى كريم، عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه
عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة،
بل رحمة منه وإحسانا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم
من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ منْهُمْ مِنْ
رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو
الْقُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وقال تعالى: {وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ
الّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فى اُلملْكِ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلِى مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111].
فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل، كما يوالى المخلوق المخلوق، وإنما يوالى
أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم. وأما العباد فإنهم كما قال عز وجل:
{وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38].
فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو
آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه. فهو فى الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى
نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه. فإنه إما
أن يحسن إليه لتوقع جزائه فى العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة
بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره. وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج
إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير. وإما أن يريد الجزاء
من الله تعالى فى الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم
فقره وفاقته، فهو غير ملوم فى هذا



(7/31)








القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن
يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى:
{إِنْ أحْسَنْتُمْ أََحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وقال: {وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:
272].
وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَا
عِبَادِى: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى، وَلَنْ تَبْلُغُوا
ضُرِّي فَتَضُرُّونِى، يا عِبَادِى: إِنّمَا هِىَ أَعْماَلكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ،
ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ
وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".



(7/32)








ص -42- فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك.
والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة،
بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته.
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب
منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا
حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك
مع سيده، والشريك مع شريكه. فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله
تعالى، وخاف الله تعالى فيهم، ولم يخفهم مع الله تعالى، ورجا الله تعالى بالإحسان
إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال
أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزَاءً وَلا شُكورًا} [الإنسان: 9].
الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا
يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه
إرادة ومشيئة. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذى بيده الخير كله، وإليه يرجع
الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه،
وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذى قدرها ويسرها وأوصلها إليك.
الوجه العاشر: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضر ذلك بدينك
ودنياك، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك، والرب تبارك وتعالى إنما يريدك
لك، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك
ورجاءك، وخوفك بغيره؟ وجماع هذا أن تعلم:
"أَنَّ الَخلْقَ كُلّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ
لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ



(7/33)








تَعَالَى لَكَ، ولَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ
لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكَ" قال
تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَولانَا وَعَلَى
اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].



(7/34)








ص -43- خاتمة لهذا الباب
لما كان الإنسان؛ بل وكل حى متحرك بالإرادة، لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك
الإرادة، وله مراد مطلوب، وطريق وسبب يوصل إليه، معين عليه، وتارة يكون السبب منه،
وتارة من خارج منفصل عنه، وتارة منه ومن الخارج، فصار الحى مجبولا على أن يقصد
شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى حصول مراده.
والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه. والثانى: ما هو مراد لغيره.
والمستعان قسمان؛ أحدهما: ما هو مستعان بنفسه، والثانى: ما هو تبع له وآلة.
فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه، ومراد لغيره، ومستعان بنفسه، ومستعان بكونه آلة
وتبعا للمستعان بنفسه.
فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه، وينتهى إليه محبته. ولا بد له من شىء يتوصل به؛
ويستعين به فى حصول مطلوبه، والمستعان مدعو ومسئول، والعبادة والاستعانة كثيرا ما
يتلازمان، فمن اعتمد القلب عليه فى رزقه ونصره ومتفعته ونفعه خضع له، وذل له،
وانقاد له وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى
يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به،
ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة، فإن علم أن محبوبه قادر على
تحصيل غرضه استعان به، فاجتمع له محبته والاستعانة به.
فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته، مستعان بنفسه. فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك
إلا لله وحده. وكل ما سواه فإنما ينبغى أن يحب تبعا لمحبته، ويستعان به لكونه آلة
وسببا.
الثانى: محبوب لغيره ومستعان به أيضاً، كالمحبوب الذى هو قادر على تحصيل غرض محبه
الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره
الرابع: مستعان به غير محبوب فى نفسه.
فإذا عرف ذلك تبين مَن أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة
غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرة على
العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها. والله المستعان



(7/35)








وعليه التكلان.


(7/36)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب السابع: فى أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه



(8/1)








ص -44- الباب السابع: فى أن القرآن متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظةٌ مِن ربكُمْ
وَشِفَاءٌ لِمَا فى الصُّدُورِ} [يونس: 57] وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هى أمراض الشبهات والشهوات. والقرآن شفاء للنوعين.
ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه
المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هى عليه، وليس تحت أديم
السماء كتاب متضمن للبراهين و الآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات
الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن.
فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها
بيانا. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه
ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه، كما
يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا
ثقة بها، وإنما هى آراء وتقليد. وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا. وبين أمور
صحيحة لا منفعة للقلب فيها. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا
الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها. فهى:
"لَحْمُ جَمَلٍ غَثّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، ولا
سَمِينٌ فَينتفلُ".
وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو فى القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا، فليس عندهم
إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل:
َلوْلا التَّنَافُسُ فى الدُّنْيَا لَما وُضِعَتْ كُتْبُ التَّنَاظُرِ، لا
المُغْنى وَلا الْعُمَدُ



(8/2)








يُحَلِّلُونَ بِزَعْمٍ مِنْهُمُ عُقَدًا وَبِالذِى وَضَعُوهُ زَادَتِ العُقَدُ


(8/3)








ص -45- فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذى وضعوه الشبه والشكوك، والفاضل الذكى يعلم
أن الشبه والشكوك زادت بذلك. ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى، والعلم واليقين
من كتاب الله تعالى وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين
الشاكين، الذين أخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من ميراثهم، حيث
يقول:
نهَايَةُ إِقدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ وَأَكثَرُ سعْىِ الْعَالَمِينَ ضَلاَلُ
وَأَرْوَاحُنَا فِى وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى
وَوَبَالُ
وَلمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمرِنَاسِوى أَنْ جَمَعْنَا فِيه قِيلَ
وَقَالوا



(8/4)








لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلا، ولا
تروى غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ فى الإثبات:
{الرَّحمنُ عَلَى الْعَرْش اسْتَوَى} [طه: 5]، {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وأقرأ فى النفى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً} [طه:
110].
ومن جرب مثل تجربتى عرف مثل معرفتى.
فهذا إنشاده وألفاظه فى آخر كتبه. وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق فى علم الكلام
والفلسفة، وكلام أمثاله فى مثل ذلك كثير جدا قد ذكرناه فى كتاب الصواعق وغيره.
وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء "آخر أمر المتكلمين الشك، وآخر أمر
المتصوفين الشطح" والقرآن يوصلك إلى نفس اليقين فى هذه المطالب التى هى أعلى
مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به. وجعله شفاء لما فى الصدور، وهدى ورحمة
للمؤمنين.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب
والترهيب، والتزهيد فى الدنيا، والترغيب فى الآخرة، والأمثال والقصص التى فيها
أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه فى معاشه
ومعاده ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبا للرشد، مبغضا للغى. فالقرآن مزيل للأمراض
الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التى فطر
عليها، فتصلح أفعاله



(8/5)








ص -46- الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعى،
فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل ليس بقابل إلا اللبن.
وَعَادَ الْفَتَى كَالطِّفْلِ، لَيْسَ بِقَابِلٍ سِوَى المَحْضِ شَيْئاً،
وَاسْتَراحَتْ عَوَاذِلُهْ
فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه،
ويثبت ملكه، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه. وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن
يتربى؛ فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية
المصلحة له والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك
القلب لا يزكو ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك
إلا من القرآن، وإن وصل إلى شىء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصله به تمام
المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذ يقال: زكا الزرع وكمل.
ولما كانت حياته ونعيمه لا تتم إلا بزكاته وطهارته لم يكن بد من ذكر هذا وهذا،
فنقول:



(8/6)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الثامن: فى زكاة القلب
الباب الثامن: فى زكاة القلب
الزكاة فى اللغة: هى النماء والزيادة فى الصلاح، وكمال الشىء، يقال: زكا الشىء إذا
نما، قال الله تعالى:
{خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:
103].
فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما. فإن نجاسة الفواحش والمعاصى فى
القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة فى البدن، وبمنزلة الدغل فى الزرع، وبمنزلة الخبث فى
الذهب والفضة والنحاس والحديد، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت
القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك
القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت إرادة القلب
وإرادته للخير، فاستراح



(9/1)








ص -47- من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة: زكا ونما، وقوى واشتد، وجلس
على سرير ملكه، ونفذ حكمه فى رعيته، فسمعت له وأطاعت. فلا سبيل له إلى زكاته إلا
بعد طهارته كما قال تعالى:
{قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهْمِ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ
أزْكَى لَهُمْ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يصْنَعُونَ} [النور: 30].
فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج.
ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التى هى أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله
تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى
الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن
المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما
قيل:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ
المنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِى لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ
صَابرُ



(9/2)








فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن
أطلق لحظاته دامت حسراته، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب
بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته. ثم تقوى فتصير غراما
يلزم القلب، كلزوم الغريم الذى لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب
المفرط. ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذى قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم
يقوى فيصير تتيماً. والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد
الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له. وهذا كله جناية النظر فحينئذ
يقع القلب فى الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا.
يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتنى. وهذا إنما
ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له، فإن القلب لا بد له من التعلق
بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره.
قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا
المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه
السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا.



(9/3)








ص -48- لفائدة الثانية فى غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة. قال أبو شجاع
الكرمانى: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن
الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة" وقد ذكر
الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك:
{إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].
وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين
بغض أبصارهم وحفظ فروجهم:
{اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ} [النور: 35].
وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه
عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله
نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى،
وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت
المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هى عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها
صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.
الفائدة الثالثة قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة،
كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما فى
الأثر:
"إنَّ الّذِى يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ
ظِلِّهِ".ولهذا يوجد فى المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله
الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى:
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال
تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ
فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10].
أى من كان يطلب العزة



(9/4)








فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح، وقال بعض السلف:
"الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا فى طاعة الله" وقال
الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفى
قلوبهم، أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد
والاه، ولا يذل من والاه الله، كما فى دعاء القنوت:
"إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:04

ص -49- والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة
على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى:
{وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:
21].
وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكى هو
باجتناب ذلك.
وكذلك قوله تعالى فى الاستئذان على أهل البيوت:
{وَإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28].
فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطَّلع عليها
كان ذلك أزكى لهم، كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه، وقال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15].
وقال تعالى عن موسى عليه السلام فى خطابه لفرعون:
{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] وقال تعالى {وَوَيلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} [فصلت: 6- 7].
قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هى التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله،
والإيمان الذى به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفى إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك
طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه؛ وهو أصل كل زكاة ونماء، فإن التزكى- وإن كان أصله
النماء والزيادة والبركة- فإنما يحصل بإزالة الشر. فلهذا صار التزكى ينتظم الأمرين
جمعياً. فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح. هو التوحيد: والتزكية جعل الشىء زكيا،
إما فى ذاته، وإما فى الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال: عدَّلته وفسَّقته، إذا جعلته
كذلك فى الخارج، أو فى الاعتقاد والخبر.
وعلى هذا فقوله تعالى:
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] هو على غير معنى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاهَا} [الشمس: 9].
أى لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون،



(9/6)








ولهذا قال عقيب ذلك:
{هُوَ أَعْلُم بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وكان اسم "زينب" "برة" فقال: "تُزَكِّى نَفْسهَا؟"
فسماها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "زينب" وقال:
"الله أَعْلمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ" وكذلك قوله:



(9/7)








ص -50- {أَلَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُم} [النساء: 49].
أى يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكى المزكى الشاهد، فيقول عن نفسه ما يقول
المزكى فيه، كما قال الله تعالى:
{بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ}[النساء: 49].
أى هو الذى يجعله زاكيا، ويخبر بطاعة الله فيصير زاكياً، وهذا بخلاف قوله:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] فإنه من باب قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى
أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] أى تعمل بطاعة الله تعالى، فتصير زاكيا، ومثله
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
وقد اختلف فى الضمير المرفوع فى قوله: زكاها فقيل: هو الله. أى أفلحت نفس زكاها
الله عز وجل، وخابت نفس دساها، وقيل: إن الضمير يعود على فاعل أفلح، وهو
"مَن" سواء كانت موصولة أو موصوفة، فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه
لقال: قد أفلح من زكاه وقد خاب من دساه. والأولون يقولون "من" وإن كان
لفظها مذكرا فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث، مراعاة
للمعنى، وبلفظ المذكر مراعاة للفظ، وكلاهما من الكلام الفصيح، وقد وقع فى القرآن اعتبار
لفظها ومعناها، فالأول كقوله:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] فأفرد الضمير، والثانى
كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42].
قال المرجحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا: ما رواه أهل السنن من حديث ابن أبى
مليكة عن عائشة رضى الله عنها قالت: "أتيْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يقُولُ: رَبِّ أَعْطِ نَفْسِى تَقْوَاهَا،
وزَكِّهَا، أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا".
فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية، وأن الله تعالى هو الذى يزكى النفوس فتصير
زاكية، فالله هو المزكى، والعبد هو المتزكى. والفرق بينهما فرق ما بين الفاعل
والمطاوع. قالوا: والذى جاء فى القرآن



(9/Cool








من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثانى، دون الأول. كقوله:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ
تَزَكَّى} [النازعات: 18].
أى تقبل تزكية الله تعالى لك، فتتزكى؟ قالوا: وهذا هو الحق. فإنه لا يفلح إلا من
زكاه الله تعالى. قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس، فإنه قال فى رواية
على بن أبى طلحة وعطاء والكلبى:
"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللهُ تَعَالَى نَفْسَه" وقال ابن زيد:
"قَدْ أَفلَحَ مَنْ زَكَّى اللهُ تعالى نَفْسَهُ".



(9/9)








ص -51- واختاره ابن جرير. قالوا: ويشهد لهذا القول أيضا قوله فى أول السورة:
{فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].
قالوا: وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أخبر أنه خالق النفس وصفاتها. وذلك فى معنى
التسوية.
قال أصحاب القول الآخر: ظاهر الكلام ونظمه الصحيح: يقتضى أن يعود الضمير على
"من" أى أفلح من زكى نفسه. هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم، بل لا
يكاد يفهم غيره، كما إذا قلت: هذه جارية قد ربح من اشتراها، وصلاة قد سعد من
صلاها، وضالة قد خاب من آواها. ونظائر ذلك.
قالوا: والنفس مؤنثة، فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام: قد أفلحت
نفس زكاها، أو أفلحت من زكاها، لوقوع "مَن" على النفس. قالوا: وإن جاز
تفريغ الفعل من التاء لأجل لفظ "من" كما تقول: قد أفلح من قامت منكن،
فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس. فإذا وقع الاشتباه لم يكن بد من ذكر ما يزيله.
قالوا: و "مَن" موصولة بمعنى الذى. ولو قيل: قد أفلح الذى زكاها الله لم
يكن جائزا، لعود الضمير المؤنث على الذى، وهو مذكر. قالوا: وهو سبحانه قصد نسبة
الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكى نفسه. ولهذا فرغ الفعل من التاء، وأتى ب
"من" التى هى بمعنى "الذى" وهذا الذى عليه جمهور المفسرين،
حتى أصحاب ابن عباس رضى الله عنهما. وقال قتادة:
{قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا} [الشمس: 9].
"من عمل خيرا زكاها بطاعة الله عز وجل" وقال أيضا: "قد أفلح من زكى
نفسه بعمل صالح" وقال الحسن: "قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على
طاعة الله تعالى، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى" قال ابن
قتيبة: "يريد أفلح من زكى نفسه، أى نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة،
واصطناع المعروف".
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10].
أى نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصى. والفاجر أبدا خفى المكان، زَمِن
المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس. فمرتكب الفواحش قد دس



(9/10)








نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف قد شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل
الربى ويفاع الأرض



(9/11)








ص -52- لتشهر أماكنها للمعتفين. وتوقد النيران فى الليل للطارقين. وكانت
اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، لتخفى أماكنها على الطالبين، فأولئك أعلوا
أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وأنشد:
وَبَوَّاب بَيْتِكَ فى مَعْلَمٍ رَحيبِ المَباءَةِ وَالمَسْرَحِ
كَفَيْتَ الْعُفَاةَ طِلابَ الْقِرَى وَنَبحَ الْكلابِ لِمُسْتَنْبِح
فهذان قولان مشهوران فى الآية.
وفيها قول ثالث: أن المعنى: خاب من دس نفسه مع الصالحين وليس منهم، حكاه الواحدى،
قال: ومعنى هذا: أنه أخفى نفسه فى الصالحين، يرى الناس أنه منهم وهو منطو على غير
ما ينطوى عليه الصالحون.
وهذا- وإن كان حقا فى نفسه- لكن فى كونه هو المراد بالآية نظر، وإنما يدخل فى
الآية بطريق العموم. فإن الذى يدس نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دس نفسه فيهم،
والله تعالى أعلم.



(9/12)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه
الباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه ونجاساته
هذا الباب وإن كان داخلا فيما قبله، كما بينا أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة،
ولكنا أفردناه بالذكر لبيان معنى طهارته، وشدة الحاجة إليها، ودلالة القرآن والسنة
عليها. قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبِّرْ وَثِياَبَكَ
فَطَهِّرْ} [المدثر: 1- 4] وقال تعالى: {أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ
يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد
بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق.



(10/1)








ص -53- قال الواحدى: اختلف المفسرون فى معناه، فروى عطاء عن ابن عباس رضى الله
عنهما قال "يعنى من الإثم، ومما كانت الجاهلية تجيزه" وهذا قول قتادة
ومجاهد، قالا: "نفسك فطهرها من الذنب" ونحوه قول الشعبى وإبراهيم
والضحاك والزهرى. وعلى هذا القول: "الثياب" عبارة عن النفس، والعرب تكنى
بالثياب عن النفس ومنه قول الشماخ:
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ، فَلا تَرَى لَها شَبهًا إلا النَّعَامَ المُنَفرَا
رموها يعنى الركاب بأبدانهم. وقال عنترة:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الأَصَمِّثِياَبَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَى
بِمُحَرَّمِ
يعنى نفسه.
وقال فى رواية الكلبى: يعنى لا تغدر، فتكون غادرا دنس الثياب. وقال سعيد بن جبير:
"كان الرجل إذا كان غادرا قيل: دنس الثياب، وخبيث الثياب" وقال عكرمة:
"لا تلبس ثوبك على معصية، ولا على فُجْرة" وروى ذلك عن ابن عباس، واحتج
بقول الشاعر:
وَإنِّى بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ، وَلا مِنْ خِزْيَةٍ
أَتَقَنَّعُ
وهذا المعنى أراد من قال فى هذه الآية "وعملك فأصلح" وهو قول أبى رزين
ورواية منصور عن مجاهد وأبى رَوْق، وقال السُّدى: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه
لطاهر الثياب، وإذا كان فاجراً: إنه لخبيث الثياب. قال الشاعر:
لا هُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ أوْ ذَمَ حَجا فى ثِيابٍ دُسْمِ
يعنى أنه متدنس بالخطايا، وكما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب وصفوا الصالح
بطهارة الثوب، قال امرؤ القيس:
ثِيابُ بِنى عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ
يريد أنهم لا يغدرون، بل يفون، وقال الحسن: "خُلقُك فحسنه"، وهذا قول
القرطبى، وعلى هذا: الثياب عبارة عن الخلق؛ لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله
اشتمال ثيابه على نفسه.



(10/2)








ص -54- وروى العوفى عن ابن عباس فى هذه الآية "لا تكن ثيابك التى تلبس من
مكسب غير طيب" والمعنى طهرها من أن تكون مغصوبة، أو من وجه لا يحل اتخاذها
منه، وروى عن سعيد بن جبير: "وقلبك ونيتك فطهر" وقال أبو العباس: الثياب
اللباس. ويقال: القلب، وعلى هذا ينشد:
فَسُلِّى ثِيابِى مِنْ ثِياَبِكِ تَنْسُلِى
وذهب بعضهم فى تفسير هذه الآية إلى ظاهرها، وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من
النجاسات التى لا تجوز معها الصلاة، وهو قول ابن سيرين، وابن زيد. وذكر أبو إسحاق:
"وثيابك فقصر" قال: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على
الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه، وهذا قول طاوس. وقال ابن عرفة "معناه:
نساءك طهرهن" وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس. قال تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ
لَكُمْ وَأَنْتُمْ لبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
ويكنى عنهن بالإزار، ومنه قول الشاعر:
أَلا أَبْلِغْ أبَا حَفْصٍ رَسُولاً فِدًى لَكَ مِنْ أخِى ثِقَةٍ: إِزَارِى
أى أهلى، ومنه قول البراء بن معرور للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة:
"لَنَمْنَعنّكَ مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا" أى نساءنا.
قلت: الآية تعم هذا كله، وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظا
فإن المأمور به إن كان طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث
الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك، ولذلك حرم لبس جلود
النمور والسباع بنهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك فى عدة أحاديث
صحاح لا معارض لها، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات، فإن
الملابسة



(10/3)








ص -55- الظاهرة تسرى إلى الباطن، ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما
يكتسب القلب من الهيئة التى تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء.
والمقصود: أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها، فإن
كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها، فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأموراً
به وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس، فلا يتم إلا بذلك، فتبين دلالة
القرآن على هذا وهذا.
وقوله: {أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:
41] عقيب قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لقوم آخرين لم يأتوك
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41].
مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن
مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر
على ذلك، وإلا حرفه، كما تصنع الجهمية بآيات الصفات وأحاديثها، يردون هذه بالتأويل
الذى هو تكذيب بحقائقها، وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها فى باب
معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته. فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر
قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى
ورسوله، كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوّضوا بالسماع
الشيطانى عن السماع القرآنى الإيمانى. قال عثمان بن عفان رضى الله عنه: "لو
طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله".
فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن،
ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله
تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب
النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح.
ودلت الآية على



(10/4)








أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى، وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر
قلوب القائلين بالباطل، المحرفين للحق، لم يحصل لها الطهارة.



(10/5)








ص -56- ولا يصح أن تفسر الإرادة هاهنا بالإرادة الدينية، وهى الأمر والمحبة،
فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرا ومحبة، ولم يرده منهم كونا فأراد الطهارة لهم
وأمرهم بها، ولم يرد وقوعها منهم، لما له فى ذلك من الحكمة التى فواتها أكره إليه
من فوات الطهارة منهم.
وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتابنا الكبير فى القدر.
ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلا بد أن يناله الخزى فى الدنيا والعذاب
فى الآخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه. ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من فى قلبه
نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره. فإنها دار الطيبين. ولهذا يقال لهم:
{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
أى ادخلوها بسبب طيبكم. والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى:
{الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ
ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شىء من الخبث. فمن تطهر فى الدنيا ولقى الله
طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوق، ومن لم يتطهر فى الدنيا فإن كانت نجاسته
عينية، كالكافر، لم يدخلها بحال. وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر
فى النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط
حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم، قصرت
بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول
الجنة.
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه
حتى يتطهر. وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا
طيب طاهر. فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب. ولهذا شرع للمتوضئ أن يقول
عقيب وضوئه:
"أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ



(10/6)








وَرَسُولُهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ
المُتَطَهِّرِينَ".
فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء. فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على
الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته.



(10/7)








ص -57- وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم:
"الّلهُمَّ طَهِّرْنِى مِنْ خَطَايَاىَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ
وَالْبَرَدِ".
كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله فى لفظ آخر "والماء
البارد" والحار أبلغ فى الإنقاء؟.
فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخى القلب وتضطرم فيه نار الشهوة
وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذى يمد النار ويوقدها ولهذا كلما
كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان
باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى فى التبريد وصلابة
الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا. هذا معنى كلامه، وهو محتاج إلى مزيد بيان
وشرح.
فاعلم أن هاهنا أربعة أمور: أمران حسيان، وأمران معنويان. فالنجاسة التى تزول
بالماء هى ومزيلها حسيان، وأثر الخطايا التى تزول بالتوبة والاستغفار هى ومزيلها
معنويان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا. فذكر النبى صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم من كل شطر قسما نبه به على القسم الآخر. فتضمن كلامه الأقسام
الأربعة فى غاية الاختصار، وحسن البيان. كما فى حديث الدعاء بعد الوضوء:
"اللّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ
المُتَطَهِّرِينَ".
فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة. ومن كمال بيانه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم،
وتحقيقه لما يخبر به، ويأمر به: تمثيله الأمر المطلوب المعنوى بالأمر المحسوس.
وهذا كثير فى كلامه، كقوله فى حديث على بن أبى طالب:
"سَلِ اللهَ الهُدَى وَالسَّدَادَ، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ
الطّرِيقَ، وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم".
هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه
وجنته: كونه مسافرا، وقد ضل عن الطريق، ولا يدرى أين يتوجه، فطلع له رجل خبير
بالطريق عالم بها،



(10/Cool








فسأله أن يدله على


(10/9)








ص -58- الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلا لها بالطريق المحسوس للمسافر.
وحاجة المسافر إلى الله سبحانه: إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر
إلى بلد من يدله على الطريق الموصل إليها. وكذلك السداد، وهو إصابة القصد قولا
وعملا، فمثله مثل رامى السهم، إذا وقع سهمه فى نفس الشىء الذى رماه، فقد سدد سهمه
وأصاب ولم يقع باطلا، فهكذا المصيب للحق فى قوله وعمله بمنزلة المصيب فى رميه.
وكثيرا ما يقرن فى القرآن هذا وهذا. فمنه قوله تعالى:
{وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر
الآخرة، وهو التقوى. فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه،
فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى، فجمع بين
الزادين، ومنه قوله تعالى:
{يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءاتِكُمْ
وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى، زينة الظاهر
والباطن، وكمال الظاهر والباطن، ومنه قوله تعالى:
{فَمنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123].
فنفى عنه الضلال، الذى هو عذاب القلب والروح، والشقاء الذى هو عذاب البدن والروح
أيضا، فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح، ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف عليه
السلام لما أرته النسوة اللائمات لها فى حبه:
{فَذلِكُنَّ الَّذِى لمُتُنَّنِى فِيه} [يوسف: 32] فأرتهن جماله الظاهر. ثم قالت:
{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32].
فأخبرت عن جماله الباطن بعفته، فأخبرتهن بجمال باطنه، وأرتهن جمال ظاهره. فنبه صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله: "اللهُمَّ طَهِّرْنى مِنْ خطَايَاىَ
بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ



(10/10)








وَالبَرَدِ".
على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، وتضمن دعاؤه سؤال
هذا وهذا، والله تعالى أعلم.
وقريب من هذا: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كان إِذَا خَرَجَ مِنَ
الخلاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ".
وفى هذا من السر والله أعلم، أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل
القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند
خروجه



(10/11)








ص -59- على خلاصه من هذا المؤذى لبدنه، وخفة البدن وراحته، وسأل أن يخلصه من
المؤذى الآخر ويريح قلبه منه ويخففه.
وأسرار كلماته وأدعيته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فوق ما يخطر بالبال.
فصل فيما فى الشرك والزنا واللواطة من الخبث
وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث فى كتابه دون سائر
الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذى وقع فى القرآن قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]
وقوله تعالى فى حق اللوطية: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِى كانَتْ تَعْمَلُ الخبَائِثَ إِنّهُمْ
كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِين} [الأنبياء: 74]، وقالت اللوطية: {أَخْرِجُوا آلَ
لُوطٍ مِنْ قَرْيتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك
باجتنابهم له، وقال تعالى فى حق الزناة:
{الخبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالَخبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26].
فأما نجاسة الشرك فهى نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، فالمغلظة: الشرك الأكبر
الذى لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخففة: الشرك الأصغر،
كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه. ونجاسة الشرك عينية.
ولهذا جعل سبحانه الشرك نجسا، بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجس، بالكسر،
فإن النجس عين النجاسة، والنجس، بالكسر، هو المتنجس. فالثوب إذا أصابه بول أو خمر
نجس. والبول والخمر نجس. فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم. فإن النجَس فى
اللغة والشرع هو المستقذر الذى يطلب مباعدته والبعد منه، بحيث لا يلمس ولا يشم ولا
يرى،



(10/12)








ص -60- فضلا أن يخالط ويلابس لقذارته، ونفرة الطباع السليمة عنه. وكلما كان
الحى أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى.
فالأعيان النجسة إما أن تؤذى البدن أو القلب، أو تؤذيهما معا. والنجَس قد يؤذى
برائحته، وقد يؤذى بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.
والمقصود: أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة فيغلب على
الروح والقلب الخبث والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحى ليشم من تلك الروح والقلب
رائحة خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من يشم رائحة النَّتْن، ويظهر ذلك كثيرا فى
عرقه، حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنا. فإن نَتْن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر
من ظاهره. والعرق يفيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق. وكان رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أطيب الناس عرقا. قالت أم سليم، وقد سألها
رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه وهى تلتقطه "هو من أطيب الطيب"
فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد. والنفس الطيبة
بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض،
ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض
الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له، وأشدها مقتا لديه. ورتب عليه من عقوبات الدنيا
والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من
قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم
أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم
وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدا، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة
الإلهية، وسوء ظن



(10/13)








ص -61- برب العالمين، كما قال تعالى:
{وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائرَة السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهمْ وَأعَد لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح: 6].
فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا به ظن
السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه
عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره فى ثلاثة مواضع من كتابه وكيف يقدره حق قدره من
جعل له عدلا وندا، يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر
مرضاته؟ قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يَحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165].
وقال تعالى: {الحمدُ لِلّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
[الأنعام: 1].
أى يجعلون له عَدْلا فى العبادة والمحبة والتعظيم. وهذه هى التسوية التى أثبتها
المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا، وهم فى النار، أنها كانت ضلالا وباطلا،
فيقولون لآلهتهم وهم فى النار معهم:
{تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98].
ومعلوم أنهم ما سووهم به فى الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت
السماوات والأرض، وأنها تحيى وتميت، وإنما سووها به فى محبتهم لها، وتعظيمهم لها،
وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام. ومن العجب أنهم
ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن
قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة
ولا نشورا، وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدا، بل قد



(10/14)








حرم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم فى
الشفاعة، فليس لهم من الأمر شىء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية
له، فليس لخلقه من دونه ولى ولا شفيع.



(10/15)








ص -62- فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى، ولهذا قال إبراهيم
إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين:
{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الصافات: 86-87 ].
وإن كان المعنى: ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم
له ندا؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟
فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه: من وزير،
أو ظهير، أو عون. وهذا أعظم التنقيص لمن هو غنى عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه
فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما
أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أو لا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم، أو لا
يكفى عبده وحده، أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع
المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به،
وتكثره به من القلة، وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا
الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق.
أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن
للمخلوق عليه حقا، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق،
كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته، وكل هذا
تنقص للربوبية، وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه،
والتوكل عليه، والإنابة إليه، من قلب المشرك، بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من
أشرك به، فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء، بسبب صرف
أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه- لكفى فى شناعته.
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، ولهذا
اقتضى حمده



(10/16)








سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه فى العذاب الأليم، ويجعله
أشقى البرية. فلا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يعظمه بذلك.
كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو متنقص للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن
زعم أنه معظم له بتلك البدعة. فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، أو يزعم
أنها هى السنة، وإن كان مستبصرا فى بدعته فهو مشاق لله ورسوله.



(10/17)








ص -63- فالمتنقصون المنقوصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه: هم أهل الشرك
والبدعة ولا سيما من بَنَى دينه على أن كلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد
اليقين، ولا تغنى من اليقين والعلم شيئا. فيالله للمسلمين، أى شىء فات من هذا
التنقص؟.
وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى، خشية ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم فقد
جاء من التنقص بضد ما وصف الله سبحانه نفسه من الكمال.
والمقصود: أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص فى الحقيقة، بل هم أعظم الناس تنقصا،
لبس عليهم الشيطان حتى ظنوا أن تنقصهم هو الكمال. ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك
فى كتاب الله تعالى، قال تعالى:
{قُلْ إِنّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإثْمَ وَالْبَغْىَ بغير الَحْقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
[الأعراف: 33].
فالإثم والبغى قرينان، والشرك والبدعة قرينان.
فصل
وأما نجاسة الذنوب والمعاصى، فإنها بوجه آخر، فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا
سوء الظن بالله عز وجل. ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما
رتبه على الشرك، وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة، كالنجاسة
فى محل الاستجمار، وأسفل الخف، والحذاء، وبول الصبى الرضيع وغير ذلك، مالا يعْفَى
عن المغلظة.
وكذلك يعفى عن الصغائر ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذى لم
يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك
فلو لقى الموحد الذى لم يشرك بالله شيئا



(10/18)








ص -64- البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص
توحيده وشابه بالشرك. فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب. فإنه
يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه وحده ما يوجب غسل
الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوى فلا تثبت معه، ولكن
نجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرهما من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف
توحيده جدا، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاء، فكلما كان الشرك فى
العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها
أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام.
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
المخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا
استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما، والتتيم التعبد، فيصير العاشق عابدا
لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعى فى مرضاته، وإيثار محابه
على حب الله وذكره، والسعى فى مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق
بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إلهه من
دون الله عز وجل يقدم رضاه وحبه على رضى الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى
الله، وينفق فى مرضاته ما لا ينفقه فى مرضاة الله، ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من
سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه: حبا، وخضوعا، وذلا، وسمعا، وطاعة.
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم
لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوى شرك العبد بُلىَ بعشق
الصور، وكلما قوى توحيده صرف ذلك عنه. والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع
العشق ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لِتنقله من محل إلى



(10/19)








محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب
نصيب من تألهه وتعبده.



(10/20)








ص -65- فليس فى الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية فى
تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو
طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا، ولهذا قال
المسيح عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد فى كتاب الزهد: "لا يكون البطالون
من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء".
ولما كانت هذا حال الزنا كان قريبا للشرك فى كتاب الله تعالى. قال الله تعالى:
{الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرمَ ذلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} [النور:
3].
والصواب: القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شىء، وهى مشتملة على خبر
وتحريم، ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة، والذى أشكل منها على كثير من الناس
واضح بحمد الله تعالى، فإنهم أشكل عليهم قوله: {الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] هل هو خبر أو نهى، أو إباحة؟ فإن كان خبرا
فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة، وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزانى أن يتزوج
إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له فى نكاح
المشركات والزوانى، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا
للآية وجها يصح حملها عليه.
فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنا، فكأنه قال: الزانى لا يزنى إلا بزانية
أو مشركة.
وهذا فاسد، فإنه لا فائدة فيه، ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك، فإنه
من المعلوم أن الزانى لا يزنى إلا بزانية، فأى فائدة فى الإخبار بذلك؟ ولما رأى
الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه.
ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهى
عناق البَغِى وصاحبها فإنه أسلم، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى



(10/21)








نكاحها فنزلت هذه الآية.


(10/22)








ص -66- وهذا أيضاً فاسد، فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن
لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها.
وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32].
وهذا أفسد من الكل، فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين، ولا تناقض إحداهما الأخرى،
بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة،
وذوات المحارم، فأين الناسخ والمنسوخ فى هذا؟.
فإن قيل: فما وجه الآية؟.
قيل: وجهها، والله أعلم، أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له
نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه فى سورتى النساء والمائدة والحكم
المعلق على الشرط ينتفى عند انتفائه، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا
انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه
الذى شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه
إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه، لم يصح النكاح، فيكون
زانيا، فظهر معنى قوله:
{لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3]
وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة.
وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة. ومقتضى العقل، فإن الله
سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرْنانًا دَيُّوثا زوج بغى، فإن الله تعالى فطر
الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا فى سب الرجل قالوا زوج قحبة،
فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك.
فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية، والله الموفق.
ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذى يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الجناية من
المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذى جعله الله تعالى بين الناس لتمام
مصالحهم،



(10/23)








ص -67- وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنا يفضى إلى اختلاط المياه، واشتباه
الأنساب، فمن محاسن الشريعة: تحريم نكاح الزانية، حتى تتوب وتستبرأ.
وأيضاً فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة
والرحمة والمودة وخالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجا له، والزوج سمى
زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الاثنان المتشابهان، والمنافرة ثابتة بين
الطيب والخبيث شرعاً وقَدَرًا، فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد، فلقد
أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة.
فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزانى البارحة،
وقال: ماء الزانى لا حرمة له، فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة، فكيف يجوز
اجتماعه مع ماء الزانى فى رحم واحد؟
والمقصود: أن الله سبحانه سمى الزوانى والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد
شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن
الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما يبعد
القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا
كاملا بالتوبة، وطهرًا لبدنه بالماء. وقول اللوطية:
{أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:
82].
من جنس قوله سبحانه فى أصحاب الأخدود:
{وَمَا نَقَموا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحمِيدِ}
[البروج: 8] وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا
إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ}
[المائدة: 59].
وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا
المبتدع: إنما ينقم على السنى تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء



(10/24)








الرجال، ولا بشىء مما خالفها. فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه
أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله
عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة.
إذَا لَمْ يَكُنْ بُد مِنَ الصَّبْرِ فَاصْطَبِرْ عَلَى الحقِّ ذَاكَ الصَّبْرُ
تُحْمَدُ عُقْبَاهُ



(10/25)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته



(11/1)








ص -68- الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته
كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص، به كماله فى حصول ذلك الفعل منه، ومرضه: أن
يتعذر عليه الفعل الذى خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب، فمرض
اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض
اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف
عنها، ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى
لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته، فلو عرف العبد كل شىء ولم يعرف
ربه، فكأنه لم يعرف شيئا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر
بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل
إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولا بد، فيصير معذبا
بنفس ما كان منعما به من جهتين من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة
تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب
الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له
ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه
مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة
الطيب، وتعوضت بمحبة غيره.
وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته
وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات
القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم
بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وَمَا لِجُرْحٍ بَمِّيتٍ إيلامُ



(11/2)








ص -69- وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو
يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه فى مخالفة الهوى، وذلك أصعب شىء على
النفس وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته
وصبره: كمن دخل فى طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو ي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:05

ص -77- وإذا كانت بضد ذلك فهى أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات
الغى، واتباع الباطل، فهى مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه.
وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء، ولم يقل "آمرة" لكثرة ذلك منها،
وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من
رحمة الله، لا منها. فإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها خلقت فى الأصل جاهلة ظالمة،
إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم
يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها. فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا
فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة.
فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح: من الإرادات
والتصورات، وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التى خلقت عليها من الجهل والظلم.
وسبب الظلم: إما جهل، وإما حاجة. وهى فى الأصل جاهلة. والحاجة لازمة لها، فلذلك
كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله.
وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، ولا تشبهها ضرورة تقاس بها، فإنه
إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك.
فصل
وأما اللوامة فاختلف فى اشتقاق هذه اللفظة، هل هى من التلوم، وهو التلون والتردد،
أو هى من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين.
قال سعيد بن جبير: "قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: هى النفس اللئوم".
وقال مجاهد: "هى التى تُنَدِّم على ما فات وتلوم عليه".
وقال قتادة: "هى الفاجرة" وقال عكرمة: "تلوم على الخير والشر"
وقال عطاء عن ابن عباس: "كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة، تلوم المحسن نفسه أن
لا يكون ازداد إحسانا، وتلوم المسىء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته".
وقال الحسن: "إن المؤمن، والله، ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته؛
يستقصرها فى كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن



(12/5)








الفاجر ليمضى قدما لا يعاتب نفسه".


(12/6)








ص -78- فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللوم.
وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها، وأنها لا تستقر على حال واحدة.
والأول أظهر، فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلومة. كما يقال: المتلونة
والمترددة. ولكن هو من لوازم القول الأول، فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعل الشىء
ثم تلوم عليه. فالتلوم من لوازم اللوم.
والنفس قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل فى اليوم الواحد
والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا. والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها
مطمئنة وصف مدح لها. وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها. وكونها لوامة ينقسم إلى
المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.
والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه. وله علاجان: محاسبتها،
ومخالفتها، وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفى الحديث
الذى رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الكَيسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى
على الله" دان نفسه: أى حاسبها.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل
أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن
تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم
خافية".
وذكر أيضا عن الحسن قال: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت
تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟. والفاجر يمضى قدما قدما لا يحاسب
نفسه". وقال قتادة فى قوله تعالى:
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه.
وقال الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة
من همته".



(12/7)








ص -79- وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد
محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب
بمالك".
وقال ميمون بن مهران أيضاً: "إن التقى أشد محاسبة لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن
شريك شحيح".
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: "مكتوب فى حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا
يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها
مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين
لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن فى هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماماً
للقلوب" وقد روى هذا مرفوعًا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم. رواه أبو
حاتم وابن حبان وغيره.
وكان الأحنف بن قيس يجىء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حس يا حنيف ما
حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ويبكى.
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: "حاسب نفسك فى الرخاء قبل حساب الشدة فإن
من حاسب نفسه فى الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته
حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
وقال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم
القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا
هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشىء ويعجبه، فيقول: والله إنى
لأشتهيك. وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بينى
وبينك، ويفرط منه الشىء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالى ولهذا؟
والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين
هلكتهم، إن المؤمن أسير فى الدنيا يسعى فى فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى
الله، يعلم أنه مأخوذ عليه فى سمعه وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه
فى ذلك



(12/Cool








كله".
قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة
كذا؟ ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا".
وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك فى المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من



(12/9)








ص -80- الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل،
والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع
عليه رابعا، فكذلك النفس: يشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التى حفظها هو رأس
المال، والربح بعد ذلك. فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع فى الربح؟ وهذه الجوارح
السبعة وهى العين، والأذن، والفم، واللسان والفرج، واليد، والرجل: هى مراكب العطب
والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها. وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها
فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر. قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحفظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وقال تعالى:
{وَلا تَمْشِ فى الأرْضِ مَرَحًا إِنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ
الجبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلٌم إِن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبادى يَقُولُوا الّتى هِىَ
أحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً} [الأحزاب: 70] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
[الحشر: 18].
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها
ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة رتعت فى الخيانة ولا بد، فإن تمادى
على الإهمال تمادت فى الخيانة حتى تُذهب رأس المال كله، فمتى أحس بالنقصان انتقل
إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحَسَّ بالخسران وتيقنه
استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ
والمراقبة فى المستقبل، ولا مطمع له فى فسخ عقد الشركة مع



(12/10)








هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه فليجتهد فى مراقبته
ومحاسبته، وليحذر من إهماله.
ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها
غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.
ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب
سبحانه، وخسارتها: دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه
الحساب اليوم. فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة
نفسه والتضييق عليها فى حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس
العمر جوهرة نفيسة



(12/11)








ص -81- لا حظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد
الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا
يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران
يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً
وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً
بَعِيداً} [آل عمران: 30].
فصل
ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له
رجحانه على تركه.
قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره
تأخر.
وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد، وقف أولا
ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدورا لم يقدم
عليه، وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه، أو تركه خير له
من فعله؟ فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر:
هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من
المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس
الشرك. ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله
تعالى، حتى يصير أثقل شىء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان
عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك أم لا؟ فإن لم
يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار
له شوكة وأنصار،



(12/12)








ص -82- وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من
فوت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح.
فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل، فما كل ما يريد العبد
فعله يكون مقدورا له، ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه، ولا كل
ما يكون فعله خيرا له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانا عليه،
فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه، وما يحجم عنه.
فصل
النوع الثانى: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذى
ينبغي.
وحق الله تعالى فى الطاعة ستة أمور قد تقدمت، وهى: الإخلاص فى العمل، والنصيحة لله
فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه فيه، وشهود
تقصيره فيه بعد ذلك كله.
فيحاسب نفسه: هل وَفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها فى هذه الطاعة؟.
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار
الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها، فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر
به.
فصل
وأضر ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا
يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمُشِّى الحال،
ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر فى العاقبة. وإذا فعل ذلك سهل عليه
مواقعة



(12/13)








ص -83- الذنوب، وأنس بها، وعسر عليها فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية
أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد.
قال ابن أبى الدنيا: حدثني رجل من قريش، ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله قال:
"كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسبا لنفسه، فحسب يوما، فإذا هو ابن ستين
سنة، فحسب أيامها، فإذا هى أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ، وقال: يا
ويلتى، ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفى كل يوم آلاف من الذنوب؟. ثم خرج
مغشيا عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلا يقول: "يا لك ركضة إلى الفردوس
الأعلى"".
وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصا تداركه، إما بقضاء
أو إصلاح. ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة
والاستغفار والحسنات الماحية. ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق
له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى. ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه
رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا؟ ولم فعلته؟ وعلى أي وجه
فعلته؟ ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لم فعلته؟ وكيف
فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثانى سؤال عن المتابعة، وقال تعالى:
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْمَلُونَ} [الحجر: 92
- 93] وقال تعالى {فَلَنَسْئَلَنَّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ
المُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبينَ}
[الأعراف: 6 - 7] وقال تعالى {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهمْ} [الأحزاب:
8].
فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟.
قال مقاتل: "يقول تعالى: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين، يعني
النبيين، عن تبليغ الرسالة". وقال مجاهد: "يسأل المبلغين المؤدين عن
الرسل، يعني: هل بلغوا عنهم كما يسأل الرسل، هل بلغوا عن



(12/14)








الله تعالى؟".
والتحقيق: أن الآية تتناول هذا وهذا، فالصادقون هم الرسل، والمبلغون عنهم، فيسأل
الرسل عن تبليغ رسالاته ويسأل المبلغين عنهم عن تبليغ ما بلغتهم الرسل، ثم يسأل
الذين بلغتهم الرسالة ماذا أجابوا المرسلين، كما قال تعالى:
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} [القصص: 65].



(12/15)








ص -84- قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟
وماذا أجبتم المرسلين؟ فيسأل عن المعبود وعن العبادة.
وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
قال محمد بن جرير: يقول الله تعالى: ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم
فيه فى الدنيا: ماذا عملتم فيه؟ من أين دخلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا عملتم
به؟.
وقال قتادة: "إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمته وحقه".
والنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف فى حقه، فيسأل عن شكره. ونوع أخذ
بغير حله وصرف فى غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه.
فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شىء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال
تعالى:
{إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا}
[الإسراء: 36].
فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب.
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التى
تنجيه، أم من السيئات التى توبقه؟
قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد".
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.
فصل
وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه
لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها فى ذات الله تعالى.
وقد روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل
الفقه حتى يمقت الناس فى جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا".
وقال مُطرِّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقَليْتُ الناس".



(12/16)








ص -85- وقال مصرف فى دعائه بعرفة: "اللهم لا ترد الناس لأجلى".
وقال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم،
لولا أني كنت فيهم".
وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعزل".
ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال له حماد:
"يا أبا عبد الله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه؟ وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم
الراحمين، فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إنى
لأرجو لك ذلك".
وذكر زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره
قال: "خرجنا فى غزاة إلى كابل، وفى الجيش: صِلة بن أشيم، فنزل الناس عند
العتمة، فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت
العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد
حتى دنا منه، فصعدت فى شجرة فتراه التفت أو عده جروا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه،
فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيرا،
أقول: تصدع الجبال منه. قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله
تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إنى أسألك أن تجيرني من النار، ومثلى
يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت
وبى من الفترة شىء الله به عالم".
وقال يونس بن عبيد: "إنى لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن فى نفسي
منها واحدة".
وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلى".
وذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: "كان راهب فى بنى إسرائيل فى
صومعة



(12/17)








ص -86- منذ ستين سنة. فأتِىَ فى منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك-
ليلة بعد ليلة- فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بى أحد
إلا ظننته أنه فى الجنة وأنا فى النار، ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه".
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء؛ فأثنوا عليه فقال: "لو يعلم الناس بعض ما
نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا".
وقال أبو حفص: "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها فى جميع
الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها
باستحسان شىء منها فقد أهلكها".
فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء؛ فهى
تجري بطبعها فى ميدان المخالفة.
فالنعمة التى لا خطر لها: الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين
العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتا لها.
قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمي: حدثنا عامر ابن صالح عن
أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: "اللهم اغفر لى ظلمى
وكفرى، فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: إن الإنسان
لظلوم كفار".
قال: وحدثنا يونس بن حبيب: حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن
صهبان الهنائى قال: "سألت عائشة رضى الله عنها عن قول الله عز وجل:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالَخْيَراتِ
بِإِذْنِ اللهِ} [فاطر: 32]. فقالت: يا بنى، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات
فمن مضي علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما
الظالم لنفسه فمثلى ومثلكم، فجعلت نفسها معنا".



(12/18)








ص -87- وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج: حدثنا شريك عن عاصم عن أبى وائل عن
مسروق، قال: دخل عبد الرحمن علي أم سلمة رضي الله عنها، فقالت:
"سَمِعْتُ الَّنبيَّ صلي اللهُ وسلم يقول: إِنَّ مِنْ أصْحَابى لمَنْ لا
يَرَانِى بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبَدا فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحمنِ مِنْ عِنْدِهَا
مَذْعُوراً، حَتَّى دَخَلَ عَلَي عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ. فَقَالَ لهُ:
اسْمَعْ مَا تَقُولُ أُمُّكَ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَاهَا
فَدَخَلَ عَلَيهَا فَسَأَلهَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللهِ، أَمِنْهُمْ أَنَا؟
قالَتْ: لا، وَلَنْ أُبَرئَ بَعْدَكَ أَحَداً".
فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب، ولم ترد أنك وحدك
البرئ من ذلك دون سائر الصحابة.
ومقت النفس فى ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه فى لحظة
واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو به بالعمل.
ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: "إن قوما من بني إسرائيل كانوا في
مسجد لهم فى يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم،
أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم: إن
فلانا صديق".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس: حدثنا منذر عن وهب: "أن رجلا
سائحا عبد الله عز وجل سبعين سنة. ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه.
واعترف بذنبه فأتاه آت من الله عز وجل فقال: إن مجلسك هذا أحب إلي من عملك فيما
مضى من عمرك".
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، أبو هلال، عن قتادة قال: قال عيسى ابن مريم عليه
السلام: "سلونى، فإنى لين القلب، صغير عند نفسى".



(12/19)








ص -88- وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري قال "كان داود عليه
السلام ينظر أغمص حلقة فى بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا رب مسكين
بين ظهرانى مساكين".
وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام: "يا رب أين أبغيك؟
قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم، فإني أدنو منهم كل يوم باعا، ولولا ذلك
انهدموا".
وفى كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن رجلا من بنى إسرائيل تعبد ستين سنة فى طلب
حاجة. فلم يظفر بها. فقال فى نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك، فأتى فى
منامه، فقيل له: أرأيت ازدراءك على نفسك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك
السنين".
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه. ومن لم يعرف حق الله
تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج: حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: "بلغني أن
نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه، فإني قد
رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر فى
حقي عليه".
فمن أنفع ما للقلب النظر فى حق الله على العبد. فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزدراء
عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي
الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن
من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر فى هذا الحق الذى لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي،
وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذى أيأسهم من أنفسهم، وعلق
رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون فى حقهم على الله، ولا ينظرون
فى حق الله عليهم. ومن



(12/20)








هاهنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم
بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد فى حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي



(12/21)








ص -89- ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر فى ذلك؛ فإنه يُسَيِّر القلبَ إلى الله
ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعًا منكسراً كسراً فيه جبره، ومفتقرًا فقراً فيه غناه.
وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإذا فاته هذا فالذي
فاته من البر أفضل من الذي أتى.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم حدثنا صالح المدني عن أبي عمران الجونى عن أبي
الخلد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "إذا ذكرتني فاذكرني وأنت
تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء
قلبك، وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم،
وناجنى حين تناجيني بقلب وجل ولسان صادق".
ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه
أن لا يتركه ذلك يُدِلُّ بعمل أصلا كائنا ما كان، ومن أدلَّ بعمله لم يصعد إلى
الله تعالى كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: "إني
لأقوم في صلاتى؛ فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى؛ فقال له: إنك إن تضحك وأنت
تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك. فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد
فوقه. فقال له: أوصنى، قال: عليك بالزهد فى الدنيا، وأن لا تنازعها أهلها، وأن
تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عود لم تضره
ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه
ويأبى إلا أن يحوطهم، وينصحهم".
ومن هاهنا أخذ الشاطبى قوله:
وَقَدْ قِيلَ: كُنْ كالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُوَلا يَأْتلى فى نُصْحِهِمْ
مُتَبَتِّلا



(12/22)








وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار: حدثنا جعفر: حدثنا الجريرى قال: "بلغنى أن
رجلاً من بني إسرائيل كانت له إلى الله عز وجل حاجة. فتعبد واجتهد، ثم طلب إلي
الله تعالى حاجته، فلم ير نجاحا، فبات ليلته مزريا على نفسه. وقال: يا نفس، مالك
لا [تقضى] حاجتك؟ فبات محزونا قد أزرى على نفسه وألزم الملامة نفسه، فقال: أما
والله ما من قِبَل ربى أتيت ولكن من قِبَل نفسى أتِيت، فبات ليلته مزرياً، وألزم
نفسه الملامة، فقضيت حاجته".



(12/23)








إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان - الجزء الأول

الباب الثانى عشر: فى علاج مرض القلب بالشيطان



(13/1)








ص -90- الباب الثانى عشر: فى علاج مرض القلب بالشيطان
هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم
يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصروا فى
هذا الباب.
ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر
النفس، فإن النفس المذمومة ذكرت فى قوله: {إِن النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}
[يوسف: 53].
واللوامة فى قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ} [القيامة: 2].
وذكرت النفس المذمومة فى قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
وأما الشيطان فذكر فى عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة. فتحذير الرب تعالى لعباده
منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذى لا ينبغي غيره، فإن شر النفس
وفسادها ينشأ من وسوسته، فهى مركبه وموضع شره، ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه
بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم
يأمر بالاستعاذة من النفس فى موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها فى خطبة
الحاجة فى قوله صلى الله عليه وسلم: "وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا".
كما تقدم ذلك فى الباب الذى قبله.
وقد جمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين الاستعاذة من الأمرين فى الحديث
الذى رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضى الله عنه:
"أَنّ أَبَا بكرٍ الصِّديقَ رَضى الله عنه قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ،
عَلِّمْنِى شْيئاً أَقولُهُ إِذا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ قُلِ:
اللهُمَّ عَالمَ الْغَيَبِ وَالشّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأرْضِ، رَبَّ
كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ
شَرِّ نَفْسِى وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِى
سُوءًا أَوْ



(13/2)








أَجرهُ إِلَى مُسْلِمٍ، قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا
أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ".



(13/3)








ص -91- فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته، فإن
الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل. أو
على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدرى الشر اللذين يصدر عنهما وغايتيه اللتين يصل
إليهما.
فصل
قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ
الرَّجِيمِ إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100].
ومعنى "استعذ بالله" امتنع به واعتصم به والجأ إليه، ومصدره العوذ،
والعياذ، والمعاذ؛ وغالب استعماله فى المستعاذ به، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: "لَقَدْ عُذْتِ بمُعَاذٍ".
وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب "أطيب اللحم
عوذه" أى الذى قد عاذ بالعظم واتصل به. وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها، وجمعها
"عوذ" كحمر. ومنه فى حديث الحديبية: "مَعَهُمُ العُوذُ
المَطَافِيلُ".
والمطافيل: جمع مطفل، وهى الناقة التى معها فصيلها.
قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء، أى معهم النساء وأطفالهم،
ولا حاجة إلى ذلك، بل اللفظ على حقيقته. أى قد خرجوا إليك بدوابهم



(13/4)








ص -92- ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التى معها أولادها، فأمر سبحانه بالاستعاذة
به من الشيطان عند قراءة القرآن. وفى ذلك وجوه:
منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس
والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمَرَّه فيها الشيطان، فأمر أن يطرد
مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكن منه، ويؤثر فيه،
كما قيل:
أَتَانِى هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوى فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً
فَتَمَكّنَا
فيجىء هذا الدواء الشافى إلى قلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.
ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير فى القلب، كما أن الماء مادة النبات،
والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا، فكلما أحس بنبات الخير فى القلب سعى فى
إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له
بالقرآن.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذى قبله، أن الاستعاذة فى الوجه الأول لأجل حصول
فائدة القرآن، وفى الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.
وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى، وهو لعمر الله ملحظ جيد،
إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول
جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصل للأمرين.
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما فى حديث أُسيد ابنُ
حضَير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال النبىّ عليه الصلاة
والسلام: "تِلْكَ المَلائِكُة".
والشيطان ضد الملك وعدوه. فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى
يحضره خاصته وملائكته، فهذه وليمة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.



(13/5)








ص -93- ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود
بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على
أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع
أن يستعيذ بالله عز وجل منه.
ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله تعالى كلامه، والله تعالى أشد أذناً للقارئ الحسن
الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته. والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء.
فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته تعالى واستماع الرب قراءته.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى
الشيطان فى أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته.
كما قال الشاعر فى عثمان:
تَمنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ



(13/6)








فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم؟ ولهذا يغلط
القارئ تارة ويخلط عليه القراءة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه
ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما
له، فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه عند القراءة.
ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير، أو يدخل فيه فهو
يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنّ
شَيْطَاناً تَفَلّتَ عَلَىَّ البَارِحَةَ، فأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَىَّ
صَلاتِي" الحديث.
وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر. وفى
مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبى الفاكه أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم
يقول:
"إِنّ الشّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ
بِطَرِيقِ الإسْلامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ
وآبَاءِ آبَائِكَ؟ فعصاهُ



(13/7)








ص -94- فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:
أَتُهاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَماءَكَ؟ وَإِنَما مَثَلُ المهَاجِرِ كالفَرَسِ
فى الطول فَعَصَاهُ وَهاجَر، ثُمَّ قعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ
جِهَادُ النَّفْسِ وَالمَال فقال: تقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ المَرْأَةُ
وَيُقْسَمُ المَالُ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ".
فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير.
وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: "ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس
مثل عدتهم" رواه ابن أبي حاتم فى تفسيره، فهو بالرصد، ولاسيما عند قراءة
القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذى يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله
تعالى منه أولا، ثم يأخذ فى السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل
بدفعه، ثم اندفع فى سيره.
ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن، ولهذا
لم تشرع الاستعاذة بين يدى كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي
يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى،
ثم [شرع] ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحكم وغيرها.
فهذه بعض فوائد الاستعاذة.
وقد قال أحمد فى رواية حنبل: "لا يقرأ فى صلاة ولا غير صلاة، إلا استعاذ؛
لقوله عز وجل:
{فَإذَا قَرَأْتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
[النحل: 98].
وقال فى رواية ابن مشيش: "كلما قرأ يستعيذ".
وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي كان إذا قرأ استعاذ، يقول: أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم".
وفى المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كانَ النَّبيُّ صلى الله
عليه وسلم إذا قامَ إِلَى الصَّلاةِ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ يَقُولُ: أعُوذُ باللهِ
السَّمِيعِ العليم مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ: مِنْ هَمْزِهِ



(13/Cool








وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ".


(13/9)








ص -95- وقال ابن المنذر: "جَاءَ عَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ
كانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ
الرَّجِيمِ".
واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي فى الجامع أنه كان يقول: "أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم" وهو رواية عن أحمد، لظاهر الآية، وحديث ابن المنذر.
وعن أحمد من رواية عبد الله: "أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ
الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ".
لحديث أبى سعيد، وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود فى قصة
الإفك:
"أَنّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ:
أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ".
وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ
إِنّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".
وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار، واختاره القاضي فى المجرد وابن عقيل؛ لأن
قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَان الرَّجِيمِ}[فصلت: 36].
ظاهره أنه يستعيذ بقوله "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وقوله فى الآية
الأخرى: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36].
يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم فى جملة مستقلة بنفسها مؤكدة
بحرف "إن" لأنه سبحانه هكذا ذكره.
وقال إسحاق: الذى أختاره ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الّلهُمَّ
إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ
وَنَفْثِه".
وقد جاء فى الحديث تفسير ذلك، قال: "وهمزه: المُؤتة، ونفخه: الكبر، ونفثه:
الشعر".
وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ هَمَزاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ
رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98].
والهمزات: جمع همزة كتمرات وتمرة. وأصل الهمز الدفع، قال أبو عبيد عن الكسائي: همزته،
ولَمَزْتُهُ،



(13/10)








ولهزته، ونهزته- إذا دفعته، والتحقيق: أنه دفع بنَخْز، وغمز يشبه الطعن، فهو
دفع خاص، فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب، قال ابن عباس
والحسن: "همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم" وفسرت همزاتهم بنفخهم
ونفثهم، وهذا قول مجاهد، وفسرت بخنقهم وهو المؤتة التى تشبه الجنون.
وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال- وهو الأظهر- إن همزات
الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث
كانت نوعا خاصا، كنظائر ذلك



(13/11)








ص -96- ثم قال: {وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98].
قال ابن زيد: فى أموري. وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن، وقال عكرمة: عند النزع
والسياق، فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم له بالهمز وقربهم ودنوهم منه.
فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: {ادْفَعْ
بِالتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيَئةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بمَا يصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتى هى أحسن، وأن يدفع شر
شياطين الجن بالاستعاذة منهم.
ونظير هذا قوله فى سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الجاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه
فقال: {وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
ونظير ذلك قوله فى سورة فصلت: {وَلا تَسْتَوِى الحسَنَةُ وَلا السيَّئِّةُ ادْفَعْ
بِالتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإذَا الّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِى
حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36] وقال
هاهنا: {إنه هو السميع العليم} [فصلت: 36]، فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام فى
{السميع العليم} [فصلت: 36]. وقال فى الأعراف: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
[الأعراف: 200].
وسر ذلك- والله أعلم- أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد
الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك
فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل
المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين،



(13/12)








وامتاز المذكور فى سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك
بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا فى سمعه لقولهم وعلمهم به، كما جاء فى الصحيحين
من حديث ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان
وقرشي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال
أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله، فأنزل
الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ
وَلا أَبْصاَرُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلِكنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ
كَثِيراً مما تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ



(13/13)








ص -97- مِنَ الخاسِرِينَ} [فصلت: 22 - 23 ].
فجاء التوكيد فى قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].
فى سياق هذا الإنكار: أى هو وحده الذى له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن
به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون، وحسن
ذلك أيضا: أن المأمور به فى سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق
على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبه بقوله:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ.
وأيضا فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد
توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37]
وبقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:06

ص -106- وقال الكلبى: "مُنَيِّهم أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث".
وقال الزجاج: "أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من
الآخرة".
وقيل: "لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع".
وقيل: "أمنيهم طول البقاء فى نعيم الدنيا، فأطيل لهم الأمل فيها ليؤثروها على
الآخرة".
وقوله: {وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} [النساء: 119].
البتك: القطع وهو فى هذا الموضع: قطع آذان البحيرة، عن جميع المفسرين، ومن هاهنا
كره جمهور أهل العلم تثقيب أذنى الطفل للحلق، ورخص بعضهم فى ذلك للأنثى، دون
الذكر، لحاجتها إلى الحلية، واحتجوا بحديث أم زَرْعٍ، وفيه: "أنَاسَ مِنْ
حُلِىّ أُذُنَىّ"
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِى زَرْعٍ لأمِّ
زَرْعٍ".
ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك فى حق البنت وكراهته فى حق الصبي.
وقوله: {وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119].
قال ابن عباس: "يريد دين الله". وهو قول إبراهيم، ومجاهد، والحسن،
والضحاك، وقتادة، والسُّدى، وسعيد بن المسيَّب، وسعيد بن جُبير.
ومعنى ذلك: هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة؛ وهى ملَّة الإسلام؛
كما قال تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلِكنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتّقُوهُ} [الروم: 30-
31].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمجِّسَانِهِ
كَما تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، فَهَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ
جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا".
ثم قرأ أبو هريرة: {فِطرَتَ اللهِ الّتِى فَطَرَ



(14/Cool








النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية، متفق عليه.


(14/9)








ص -107- فجمع النبىّ عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد
والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن
يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التى خلقوا عليها، وغير الصورة
بالجدع والبتك، فغيروا الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير
خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة.
ثم قال: {يعدهم ويمنيهم} [النساء: 120] فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول
عمرك، وتنال من الدنيا إربك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول ستكون
لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأمانى
الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أن الوعد فى الخير والتمنية
فى الطلب والإرادة، فيعده الباطل الذى لا حقيقة له- وهو الغرور- ويمنيه المحال
الذى لا حاصل له. ومن تأمل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلقين بوعده وتمنيه وهم لا
يشعرون أنه يعد الباطل، ويمنى المحال، والنفس المهينة التى لا قدر لها تغتذى بوعده
وتمنيته، كما قال القائل:
مُنًى إنْ تَكُنْ حَقا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى وَإِلا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا
زَمَناً رَغْدا



(14/10)








فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانى الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها،
كما يفرح بها النساء والصيبان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان
وتمنيه، فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه، ويعدهم الوصول إليه من غير
طريقه، فكل مبطل فله نصيب من قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [النساء: 120].
ومن ذلك قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268].
قيل: {يعدكم الفقر} [البقرة: 268]: يخوفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم،
{ويأمركم بالفحشاء} [البقرة: 268] قالوا: هى البخل فى هذا الموضع خاصة، ويذكر عن
مقاتل والكلبى كل فحشاء فى القرآن فهى الزنا إلا فى هذا الموضع فإنها البخل.
والصواب: أن الفحشاء على بابها، وهى كل فاحشة، فهى صفة لموصوف محذوف، فحذف موصوفها
إرادة للعموم، أى بالفعلة الفحشاء والخلة الفحشاء، ومن جملتها البخل، فذكر سبحانه
وعد الشيطان وأمره يأمرهم بالشر ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران هما جماع ما
يطلبه الشيطان من الإنسان فإنه إذا خوفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء
وزينها له ارتكبها، وسمى سبحانه تخويفه وعد الانتظار الذى خوفه إياه كما ينتظر
الموعود ما وعد به ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه،
وهى المغفرة



(14/11)








ص -108- والفضل، فالمغفرة: وقاية الشر، والفضل: إعطاء الخير، وفى الحديث
المشهور: "إن للمَلك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد
بالخير، وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالوعد"، ثم قرأ:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]
الآية.
فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله
أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه نهاراً كله، وآخر بضده، نستعيذ
بالله تعالى من شر الشيطان.
فصل
ومن كيده للإنسان: أنه يورده الموارد التى يخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصْدِرهُ
المصادر التى فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره
بالسرقة والزنا والقتل، ويدل عليه ويفضحه، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّن لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمَ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ
وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّى أَرَى مَالا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ الله
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].
فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر فى صورة سراقة بن مالك، وقال: أنا جار لكم
من بنى كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدو الله جنود الله تعالى
من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم، وأسلمهم، كما قال حسان:



(14/12)








ص -109- دَلاهُمُ بِغُرُورٍ، ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ إِنَّ الخبِيثَ لمنْ وَالاهُ
غَرَّارُ
وكذلك فعل بالراهب الذى قتل المرأة وولدها، أمره بالزنا ثم بقتلها، ثم دل أهلها
عليه، وكشف أمره لهم، ثم أمره بالسجود له، فلما فعل فر عنه وتركه. وفيه أنزل الله
سبحانه:
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنى
بَرِىءٌ مِنْكَ إِنِّى أَخَافَ اللهَ رَبَّ الْعَالِمينَ} [الحشر: 16].
وهذا السياق لا يختص بالذى ذكرت عنه هذه القصة، بل هو عام فى كل من أطاع الشيطان
فى أمره له بالكفر، لينصره ويقضى حاجته، فإنه يتبرأ منه ويسلمه كما يتبرأ من
أوليائه جملة فى النار، ويقول لهم: {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ
قَبْلُ} [إبراهيم: 22].
فأوردهم شر الموارد وتبرأ منهم كل البراءة.
وتكلم الناس فى قول عدو الله {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] فقال قتادة
وابن إسحاق: "صدق عدو الله فى قوله {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْن} [الأنفال:
48] وكذب فى قوله {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] والله ما به مخافة الله،
ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة فأوردهم وأسلمهم. وكذلك عادة عدو الله بمن
أطاعه".
وقالت طائفة: "إنما خاف بطش الله تعالى به فى الدنيا، كما يخاف الكافر
والفاجر أن يقتل أو يؤخذ بجرمه، لا أنه خاف عقابه فى الآخرة". وهذا أصح، وهذا
الخوف لا يستلزم إيمانا ولا نجاة.
قال الكلبى: "خاف أن يأخذه جبريل فيعرفهم حاله فلا يطيعونه".
وهذا فاسد، فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فر ونكص على عقبيه، إلا أن يريد أنه إذا
عرف المشركون أن الذى أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك، وقد أبعد
النجعة إن أراد ذلك، وتكلف غير المراد.
وقال عطاء: "إنى أخاف الله أن يهلكنى فيمن يهلك"، وهذا خوف هلاك الدنيا
فلا ينفعه.



(14/13)








ص -110- وقال الزجاج وابن الأنبارى: "ظن أن الوقت الذى أنظر إليه قد
حضر". زاد ابن الأنبارى قال: "أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذى يزول معه
إنظارى قد حضر فيقع بى العذاب، فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد
انقضى، فقال ما قال إشفاقا على نفسه".
فصل
ومن كيد عدو الله تعالى: أنه يخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا
يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد
أخبرنا الله سبحانه عنه بهذا فقال:
{إِنَّمَا ذلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه. قال قتادة: "يعظمهم فى صدوركم،
ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فكلما قوى
إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوى خوفه
منهم".
ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله،
فيزين له الفعل الذى يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذى
هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره، فلا إله إلا الله. كم فتن بهذا السحر
من إنسان، وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وكم جلا الباطل
وأبرزه فى صورة مستحسنة، وشنع الحق وأخرجه فى صورة مستهجنة؟ وكم بهرج من الزيوف
على الناقدين، وكم روّج من الزغل على العارفين؟ فهو الذى سحر العقول حتى ألقى
أربابها فى الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم فى سبل الضلال كل مسلك
وألقاهم من المهالك فى مهلك بعد مهلك، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام،
ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان،
وأبرز لهم الشرك فى صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه على عرشه وتكلمه
بكتبه فى



(14/14)








قالب التنزيه، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قالب التودد إلى
الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله:
{عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105].
والإعراض عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فى قالب التقليد،



(14/15)








ص -111- والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدهان فى دين الله فى
قالب العقل المعيشى الذى يندرج به العبد بين الناس.
فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح
حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة،
وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين
أخذوا الأخذة الرابية، وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين
دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون.
فصل
وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة: أنه ناصح لهما، وأنه إنما
يريد خلودهما فى الجنة، قال تعالى: {فَوَسْوسَ لَهُمَا الشّيْطَانُ لِيُبْدِىَ
لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَانَهَاكُمَا
رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشّجرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ
الخالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إنِّى لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا
بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22].
فالوسوسة: حديث النفس والصوت الخفى، وبه سمى صوت الحلى وسواسا، ورجل موسوس بكسر
الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: موسوس؛ لأن نفسه توسوس إليه، قال تعالى:
{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ} [ق: 16].
وعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما، فإنها معصية، والمعصية
تهتك ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انهتك ذلك الستر فبدت لهما سوآتهما
فالمعصية تبدى السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم
فى رؤياه الزناة والزوانى عراة بادية سوآتهم، وهكذا إذا رؤى الرجل أو المرأة فى
منامه مكشوف السوأة يدل على فساد فى دينه، قال الشاعر:



(14/16)








ص -112- إِنِّى كَأَنِّى أَرَى مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ وَلا أمَانَةَ وَسْطَ
النَّاسِ عُرْيَانَا
فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسا ظاهرا يوارى العورة ويسترها، ولباسا باطنا من
التقوى، يُجَمِّل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة،
كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها.
ثم قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشجَرَةِ إِلا أنْ تَكُونَا
مَلَكْين} [الأعراف: 20].
أى: إلا كراهة أن تكونا ملكين، وكراهة أن تخلدا فى الجنة، ومن هاهنا دخل عليهما
لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها، وهذا باب كيده الأعظم الذى يدخل منه على ابن
آدم، فإنه يجرى منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطها، ويسألها عما تحبه وتؤثره،
فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك علم إخوانه
وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من
الباب الذى يحبونه ويهوونه، فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول
من غيره فالباب عليه مسدود، وهو عن طريق مقصده مصدود.
فشام عدو الله الأبوين، فأحسَّ منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد فى تلك الدار فى
النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنه لهما
لمن الناصحين، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا
من الخالدين.
وكان عبد الله بن عباس يقرؤها ملكين بكسر اللام، ويقول: لم يطمعا أن يكونا من
الملائكة، ولكن استشرفا أن يكونا ملكين فأتاهما من جهة الملك، ويدل على هذه
القراءة قوله فى الآية الأخرى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120].
وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون
بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب؟ وكان آدم عليه
السلام أعلم بالله



(14/17)








وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولا سيما مما نهاه الله عز
وجل عنه؟،
فالجواب: أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا فى ذلك أصلاً، وإنما كذبهما عدو
الله وغرَّهما، وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد
ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التى تحب النفوس مسمياتها، فسموا
الخمر: أم الأفراح،



(14/18)








ص -113- وسموا أخاها بلقيمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس
بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر، وهو
جحد صفات الرب، تنزيها، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة. فلما سماها شجرة الخلد
قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا فى الجنة ولا
تموتا فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون، ولم يكن آدم عليه السلام قد علم أنه
يموت بعد، واشتهى الخلود فى الجنة، وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد
أيمانه، أنه ناصح لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة، وساعده القدر، ولما فرغ الله
سبحانه من تقديره فأخذتهما سنة الغَفْلة، واستيقظ لهما العدو، كما قيل:
وَاسْتَيْقَظُوا وَأَرَادَ اللهُ غَفْلَتَهُمْ لِيَنْفُذَ الْقَدَرُ المَحْتُومُ
فى الأزَلِ



(14/19)








إلا أن هذا الجواب يعترض عليه قوله {أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20].
فيقال: الماكر المخادع لا بد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما
يدل على مكره وكيده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله، والاعتذار عنه، وإنما
يعتذر عن الأب فى كون ذلك راج عليه وولج سمعه، فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا
منها صارا ملكين، وإنما ردد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع، والآخر: ممكن، وهذا من
أبلغ أنواع الكيد والمكر، ولهذا لما أطمعه فى الأمر الممكن جزم له به ولم يردده.
فقال: {يَا آدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يْبلَى}
[طه: 120].
فلم يدخل أداة الشك هاهنا كما أدخلها فى قوله: {إلا أَنْ تَكونَا مَلَكَيْنِ أوْ
تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] فتأمله، ثم قال: {وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21].
فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد:
أحدها: تأكيده بالقسم.
الثانى: تأكيده بإنّ.
الثالث: تقديم المعمول على العامل، إيذانا بالاختصاص. أى نصيحتى مختصة بكما،
وفائدتها إليكما لا إلى.
الرابع: إتيانه باسم الفاعل الدال على الثبوت واللزوم، دون الفعل الدال على
التجدد: أى النصح صفتى وسجيتى، ليس أمرا عارضا لى.



(14/20)








ص -114- الخامس: إتيانه بلام التأكيد فى جواب القسم.
السادس: أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين، فكأنه قال لهما: الناصحون لكما
فى ذلك كثير، وأنا واحد منهم، كما تقول لمن تأمره بشىء: كل أحد معى على هذا وأنا
من جملة من يشير عليك به.
سَعَى نَحْوَهَا حَتَّى تجَاوَزَ حَدَّهُ وَكَثَّرَ فَارْتَابَتْ، وَلَوْ شَاءَ
قَلَّلا
وورّث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون
يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جاءوه: {نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللهِ} [المنافقون: 1]. فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد،
وكذلك قوله سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ
مِنْكُمْ} [التوبة: 56].
ثم قال تعالى: {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22].
قال أبو عبيدة: "خذلهما وخلاهما، من تدلية الدلو، وهو إرسالها فى
البئر".
وذكر الأزهرى لهذه اللفظة أصلين: أحدهما قال: "أصله الرجل العطشان يتدلى فى
البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور. فوضعت التدلية
موضع الإطماع فيما لا يجدى نفعا، فيقال: دلاه، إذا أطمعه"، ومنه قول أبى جندب
الهذلى:
أَحُصُّ، فَلاَ أُجِيرُ وَمَنْ أُجِرْهُ فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بِالْغُرُورِ
أحص: أى أقطع.
الثانى: "فدلاهما بغرور، أى جرأهما على أكل الشجرة، وأصله: دللهما من الدلال
والدالة وهى الجراءة"، قال شمر: "يقال: ما دَلَّكَ على أى ما جرأك
على"، وأنشد لقيس بن زهير:
أَظنُّ الْحِلْمَ دَلَّ عَلَىَّ قَوْمِى وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الْحَلِيمُ



(14/21)








ص -115- قلت: أصل التدلية فى اللغة الإرسال والتعليق. يقال: دلى الشىء فى
مهواة، إذا أرسله بتعليق. وتدلى الشىء بنفسه. ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا
وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19].
قال عامة أهل اللغة: يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها فى البئر. ودلاها بالتخفيف إذا
نزعها من البئر، فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها، ودلاها يدلوها دلوا، إذا
نزعها وأخرجها، ومنه الإدلاء، وهو التوصل إلى الرجل برحم منه، ويشاركه فى الاشتقاق
الأكبر الدلالة وهى التوصل إلى الشىء بإبانته وكشفه، ومنه الدل وهو ما يدل على
العبد من أفعاله، وكان عبد الله بن مسعود يتشبه برسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم فى هديه ودله وسمته، فالهدى الطريقة التى عليها العبد، من أخلاقه وأقواله
وأعماله، والدل ما يدل من ظاهره على باطنه، والسمت هيأته ووقاره ورزانته.
والمقصود: ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين.
قال مطرف بن عبد الله: "قال لهما إنى خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعانى
أرشدكما وحلف لهما، وإنما يخدع المؤمن بالله"، قال قتادة: "وكان بعض أهل
العلم يقول من خادعنا بالله خدعنا"، فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم، وفى
الصحيح: "أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق، فقال: سرقت؟ فقال: لا
والله الذى لا إله إلا هو، فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت بصرى".
وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله، فظنه المسيح
سرقة، وهذا تكلف، وإنما كان الله سبحانه وتعالى فى قلب المسيح عليه السلام أجل
وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا، فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة
بصره، فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له فى اليمين بالله، كما ظن آدم عليه السلام
صدق إبليس لما حلف له بالله عز وجل، وقال: ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا.
فصل
ومن كيده العجيب: أنه يشام النفس، حتى يعلم أى القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام



(14/22)








والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟.


(14/23)








ص -116- فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ فى تثبيطه وإضعاف همته
وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، فهون عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يقصر فيه
ويتهاون يه.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه
لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصر بالأول ويتجاوز بالثانى، كما
قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى
تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالى بأيهما ظفر".
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل فى هذين الواديين: وادى التقصير، ووادى
المجاوزة والتعدى. والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذى كان عليه رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما فى
أيديهم وقعدوا كَلا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.
وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا
بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وكذلك قصر بقوم فى حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم فى خلطة الناس حتى اعتزلوهم فى الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد
وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم فى الظلم والمعاصى والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على
الدماء المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذى ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى
جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بنى آدم، وتجاوز بآخرين حتى
أطعمهم الحرام الخالص.
وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى



(14/24)








عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا
إليه من الحرام.



(14/25)








ص -117- وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم
يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز
بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة.
وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم،
ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا
يفعلون شيئا البتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهى نفس فعله لا
أفعالهم. والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل البتة.
وقصر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلا فى خلقه ولا بائنا عنهم، ولا هو
فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز
بآخرين حتى قالوا: هو فى كل مكان بذاته، كالهواء الذى هو داخل فى كل مكان.
وقصر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة، وتجاوز بآخرين حتى
قالوا: لم يزل أزلا وأبدا قائلا: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى، ويقول
لموسى {اذهب إلى فرعون} فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعاً منه، كقيام صفة
الحياة به.
وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يشفع أحدا فى أحد البتة، ولا يرحم أحدا
بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو
الجاه عند الملوك ونحوهم.
وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن
أبى بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.
وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى
شبهوه بخلقه ومثلوه بهم.
وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوهم، واستحلوا



(14/26)








حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها. وربما
ادعوا فيهم الإلهية.



(14/27)








ص -118- وكذلك قصر باليهود فى المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله
تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلها يعبد مع الله.
وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها
أمراً لازماً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير. وقصر
بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات، وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم
الوسواس إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود.
وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه،
وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم
عندهم، وسموا أنفسهم الملامية.
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا، أو فضولا،
وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال
الجوارح، وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده.
وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.
فصل
ومن حيله ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التى
هى زبالة الأذهان، ونُحاتة الأفكار، والزبد الذى يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة،
التى تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت
عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس
لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحى بعضهم إلى
بعض زخرف القول غرورا، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم
فقالوا منكرا من القول وزورا فهم فى شكهم يعمهون، وفى حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب
الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما



(14/28)








تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يتحاكمون، وبه
يتخاصمون، فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن
سواء السبيل.



(14/29)








ص -119- فصل
ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام
الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية
والبراهين اليقينية فى المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس
الهدى واليقين من مشْكاة القرآن، وأحالهم على منطق يونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى
الكاذبة العريَّة عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان،
ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان
والدين، كإخراج الشعرة من العجين.
فصل
ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم فى قالب
الكشف من الخيالات، فأوقعهم فى أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى
الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العيان،
وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن، فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية
الأخلاق والتجافى عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم
والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شىء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما
خلا من صورة العلم الذى جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من
أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا، فإذا أنكره عليهم ورثة
الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا
باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب، فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب
والسنة والآثار كما ينسلخ الليل عن النهار، ثم أحالهم فى سلوكهم على تلك الخيالات،
وأوهمهم أنها عن الآيات البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا
تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل



(14/30)








إلا بالقبول والإذعان.
فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع



(14/31)








ص -120- لهذيان. وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان
هذا الفتح على قلوبهم أعظم.
فصل
ومن أنواع مكايده ومكره: أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من
الآثام والفجور، فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس فى وجهه والإعراض
عنه، فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره، وطلاقة وجهه، وحسن كلامه، فيتعلق به، فيروم
التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته، فيدخل على العبد
بكيده من باب حسن الخلق، وطلاقة الوجه، ومن هاهنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن
أهل البدع وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس
والإعراض.
وكذلك أوصوا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان، وقالوا: متى كشفت
للمرأة أو الصبى عن بياض أسنانك كشفا لك عما هنالك، ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت
شرهما.
ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوى الحاجات بوجه عبوس ولا تريهم بشرا
ولا طلاقة، فيطمعوا فيك، ويتجرأوا عليك، وتسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح
أدعيتهم، وميل قلوبهم إليك، ومحبتهم لك فيأمرك بسوء الخلق، ومنع البشر والطلاقة مع
هؤلاء، وبحسن الخلق والبشر مع أولئك، ليفتح لك باب الشر، ويغلق عنك باب الخير.
فصل
ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب تعالى فى إذلالها
وابتذالها، كجهاد الكفار والمنافقين، وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن
المنكر، فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل، وتسليط الأعداء وطعنهم
فيك، فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك.



(14/32)








ص -121- ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها فى إعزازها وصيانتها، كما
يأمرك بالتبذل لذوى الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تعزها بهم، وترفع
قدرها بالذل لهم، ويذكرك قول الشاعر:
أُهِينُ لَهُمْ نفسى لأرْفَعهَا بِهِمْ وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِى لا
تُهِينُهَا
وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده، فإنه كلما أهان العبد نفسه له
أكرمه وأعزه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه
وهنت عليه.
ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها فى إعزازها وصيانتها، كما يأمرك
بالتبذل لذوى الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تعزها بهم، وترفع قدرها
بالذل لهم، ويذكرك قول الشاعر:
أُهِينُ لَهُمْ نفسى لأرْفَعهَا بِهِمْ وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِى لا
تُهِينُهَا



(14/33)








وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده، فإنه كلما أهان العبد نفسه له
أكرمه وأعزه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه
وهنت عليه.
فصل
ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه فى مسجد، أو رباط، أو زاوية أو تربة،
ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس، وسقطت من أعينهم،
وذهبت هيبتك من قلوبهم، وربما ترى فى طريقك منكرا، وللعدو فى ذلك مقاصد خفية
يريدها منه: منها الكبر، واحتقار الناس، وحفظ الناموس، وقيام الرياسة، ومخالطة
الناس تذهب ذلك. وهو يريد أن يزار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح بمجىء
الأمراء إليه، واجتماع الناس عنده، وتقبيل يده، فيترك من الواجبات والمستحبات
والقربات ما يقربه إلى الله، ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه.
وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج إلى السوق، قال بعض الحفاظ:
"وَكَانَ يَشْتَرِى حَاجَتَهُ وَيَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ".
ذكره أبو الفرج بن الجوزى وغيره.
وكان أبو بكر رضى الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب، فيبيع ويشترى.
ومر عبد الله بن سلام رضى الله عنه وعلى رأسه حزمة حطب، فقيل له: ما يحملك على
هذا، وقد أغناك الله عز وجل؟ فقال: أردت أن أدفع به الكبر، فإنى سمعت رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "لا يَدْخُلُ الجنَّةَ عَبْدٌ فِى قلبه
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ كِبْرٍ".
وكان أبو هريرة رضى الله تعالى عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على
المدينة، ويقول: "افسحوا لأميركم، افسحوا لأميركم".



(14/34)








ص -122- وخرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوماً وهو خليفة فى حاجة له ماشيا،
فأعيى، فرأى غلاماً على حمار له، فقال: يا غلام احملنى فقد أعييت، فنزل الغلام عن
الدابة، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك، فركب خلف
الغلام، حتى دخل المدينة والناس يرونه.
فصل
ومن كيده: أنه يغرى الناس بتقبيل يده، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء،
ونحو ذلك، حتى يرى نفسه، ويعجبه شأنها، فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض، وبك يدفع
البلاء عن الخلق، ظن ذلك حقا، وربما قيل له: إنه يتوسل به إلى الله تعالى ويسأل
الله تعالى به وبحرمته، فيقضى حاجتهم، فيقع ذلك فى قلبه، ويفرح به، ويظنه حقا،
وذلك كل الهلاك، فإذا رأى من أحد من الناس تجافيا عنه، أو قلة خضوع له، تذمر لذلك
ووجد فى باطنه، وهذا شر من أرباب الكبائر المصرين عليها، وهم أقرب إلى السلامة
منه.
فصل
ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلى والزهد والرياضة العمل بهاجسهم وواقعهم، دون
تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره
معصومة من الخطإ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم.
فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية، كالرؤيا، فلو بلغ
العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت،
والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، والعصمة إنما هى للرسل صلوات الله وسلامه
عليهم الذين هم وسائط بين الله عز وجل وبين خلقه، فى تبليغ أمره ونهيه ووعده
ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطئ، وليس بحجة على الخلق.
وقد كان سيد المحدثين الملهمين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول الشىء فيرده عليه



(14/35)








ص -123- من هو دونه، فيتبين له الخطأ، فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره
على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها.
وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شىء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا
يلتفت إليهما، ويقول: حدثنى قلبى عن ربى، ونحن أخذنا عن الحى الذى لا يموت، وأنتم
أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق، وأنتم اتبعتم الرسوم، وأمثال ذلك من
الكلام الذى هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله، حتى قيل لبعض
هؤلاء: ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق
من يسمع من الملك الخلاق؟.
وهذا غاية الجهل، فإن الذى سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن. وأما
هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعى أنه يسمع الخطاب من
مرسله، فيستغنى به عن ظاهر العلم، ولعل الذى يخاطبهم هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة،
أو هما مجتمعتين، ومنفردتين.
ومن ظن أنه يستغنى عما جاء به الرسول بما يلقى فى قلبه من الخواطر والهواجس فهو من
أعظم الناس كفرا. وكذلك إن ظن أنه يكتفى بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقى فى القلوب
لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة،
وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان.
وقد سئل عبد الله بن مسعود عن مسألة المفوضة شهرا، فقال بعد الشهر: "أقول
فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، والله برىء



(14/36)








ص -124- منه ورسوله".
وكتب كاتب لعمر رضى الله عنه بين يديه: هذا ما أرى الله عمر، فقال: لا. امحه
واكتب: هذا ما رأى عمر.
وقال عمر رضى الله عنه أيضا: "أيها الناس اتهموا الرأى على الدين، فلقد
رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته".
واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبر الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأبعدها
من الشيطان، فكانوا أتبع الأمة للسنة، وأشدهم اتهاما لآرائهم، وهؤلاء ضد ذلك.
وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شىء من الخواطر والهواجس
والإلهامات، حتى يقوم عليها شاهدان.
قال الجنيد: قال أبو سليمان الدارانى: "ربما يقع فى قلبى النكتة من نكت القوم
أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة".
وقال أبو زيد: "لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يتربع فى الهواء، فلا
تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى، وحفظ الحدود".



(14/37)








ص -125- وقال أيضاً: "من ترك قراءة القرآن، ولزوم الجماعات، وحضور
الجنائز، وعيادة المرضى، وادعى بهذا الشأن، فهو مدّع".
وقال سرىّ السقطى: "من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط".
وقال الجنيد: "مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب
ويكتب الحديث، ويتفقه، لا يقتدى به".
وقال أبو بكر الدقاق: "من ضيع حدود الأمر والنهى فى الظاهر حرم مشاهدة القلب فى
الباطن".
وقال أبو الحسين النورى: "من رأيته يدعى مع الله حالة تخرجه عن حد العلم
الشرعى فلا تقربه، ومن رأيته يدعى حالة لا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه على
دينه".
وقال أبو سعيد الخراز: "كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل".
وقال الجريرى: "أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد: أن تلزم قلبك المراقبة،
ويكون العلم على ظاهرك قائما".
وقال أبو حفص الكبير الشأن: "من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم
يتهم خواطره فلا تعدوه فى ديوان الرجال".
وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازى: "كان الصوفية يسخرون من الشيطان، والآن
الشيطان يسخر منهم".
ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: "كان الشيطان فيما مضى يهب من الناس،
واليوم الرجل الذى يهب من الشيطان".
فصل
ومن كيده: أمرهم بلزوم زى واحد، ولبسة واحدة، وهيئة ومشية معينة، وشيخ معين،
وطريقة مخترعة، ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض، فلا يخرجون عنه
ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه، وربما يلزم أحدهم موضعاً معيناً للصلاة لا يصلى إلا
فيه، وقد نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ
المَكانَ لِلصَّلاةِ



(14/38)








ص -126- كَمَا يُوَطِّن الْبَعِيرُ".
وكذلك ترى أحدهم لا يصلى إلا على سجادة، ولم يصل رسول الله عليه السلام على سجادة
قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه، بل كان يصلى على الأرض، وربما سجد فى الطين،
وكان يصلى على الحصير، فيصلى على ما اتفق بسطه، فإن لم يكن ثمة شىء صلى على الأرض.
وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة، فصاروا واقفين مع الرسوم
المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه، ولا مع أهل الحقائق، فصاحب الحقيقة أشد شىء عليه
التعبد بالرسوم الوضعية، وهى من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله، فمتى تقيد بها حبس
قلبه عن سيره. وكان أخس أحواله الوقوف معها، ولا وقوف فى السير، بل إما تقدم وإما
تأخر، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أوْ يَتَأَخَّرَ}
[المدثر: 37].
فلا وقوف فى الطريق إنما هو ذهاب وتقدم، أو رجوع وتأخر.
ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسيرته وجده مناقضا لهدى هؤلاء
فإنه كان يلبس القميص تارة، والقباء تارة، والجبة تارة، والإزار والرداء تارة،
ويركب البعير وحده، ومردفا لغيره، ويركب الفرس مسرجا وعريانا، ويركب الحمار، ويأكل
ما حضر، ويجلس على الأرض تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى البساط تارة، ويمشى وحده
تارة، ومع أصحابه تارة، وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه، فبين هديه
وهدى هؤلاء بون بعيد.
فصل
ومن كيده الذى بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذى كادهم به فى أمر الطهارة
والصلاة عند النية، حتى ألقاهم فى الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى حتى
يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو
تنقيصه.



(14/39)








ص -127- ولا ريب أن الشيطان هو الداعى إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان،
ولبوا دعوته، واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم، أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا
مشاقة للرسول، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد، وهو قريب
من ثلث رطل بالدمشقى، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث، والموسوس يرى أن ذلك القدر
لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل
أخبر أن:
"مَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ".
فالموسوس مسىء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكيف
يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعدّ فيه لحدوده؟،
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل هو وعائشة رضى الله عنها من قصعة بينهما
فيها أثر العجين، ولو رأى الموسوس من
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:08

ص -136- سبيله كنت قرينه، وستقولين: {يَا لَيْتَ بَيْنى وَبَيْنَكَ بُعْدَ
المَشْرقين فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]. ولينظر أحوال السلف فى متابعتهم
لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم
أنه قال: لقد تقدمنى قوم لو لم يتجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته. قلت: هو
إبراهيم النخعى.
وقال زين العابدين يوماً لابنه: "يا بنى، اتخذ لى ثوباً ألبسه عند قضاء
الحاجة، فإنى رأيت الذباب يسقط على الشىء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال: ما كان
للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد، فتركه".
وكان عمر رضى الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله رسول
الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى، حتى إنه قال: "لقد هممت أن أنهى عن لبس
هذه الثياب، فإنه قد بلغنى أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبى: ما لك أن تنهى،
فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولبست فى زمانه ولو علم الله أن لبسها
حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: صدقت".
ثم ليعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيهم موسوس. ولو كان
الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر رضى الله
تعالى عنه لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم، وها أنا أذكر ما جاء فى
خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلاً:
الفصل الأول: فى النية فى الطهارة والصلاة
النية هى القصد والعزم على فعل الشىء، ومحلها القلب، لا تعلق لها باللسان أصلاً
ولذلك لم ينقل عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن أصحابه فى النية لفظ
بحال، ولا سمعنا



(14/54)








ص -137- عنهم ذكر ذلك. وهذه العبارات التى أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة
قد جعلها الشيطان معتركاً لأهل الوسواس، يحبسهم عندها ويعذبهم فيها، ويوقعهم فى
طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه فى التلفظ بها، وليست من الصلاة في شىء،
وإنما النية قصد فعل الشىء، فكل عازم على فعل فهو ناويه، لا يتصور انفكاك ذلك عن
النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها فى حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى
الوضوء، ومن قام ليصلى فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات
ولا غيرها بغير نية، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة، لا يحتاج إلى تعب
ولا تحصيل. ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك. ولو كلفه الله
عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه. وما كان
هكذا فما وجه التعب فى تحصيله؟ وإن شك فى حصول نيته فهو نوع جنون. فإن علم الإنسان
بحال نفسه أمر يقينى. فكيف يشك فيه عاقل من نفسه؟ ومن قام ليصلى صلاة الظهر خلف
الإمام فكيف يشك فى ذلك؟ ولو دعاه داع إلى شغل فى تلك الحال لقال: إنى مشتغل أريد
صلاة الظهر، ولو قال له قائل فى وقت خروجه إلى الصلاة: أين تمضى؟ لقال: أريد صلاة
الظهر مع الإمام، فكيف يشك عاقل فى هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا؟.
بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال، فإنه إذا رأى إنساناً
جالساً فى الصف فى وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة. وإذا رآه قد
قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلى. فإن تقدم بين يدى المأمومين
علم أنه يريد إمامتهم، فإن رآه فى الصف علم أنه يريد الائتمام.
قال: فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال، فكيف يجهلها من
نفسه، مع اطلاعه هو على باطنه؟ فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له فى جحد
العيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقيناً. ومخالفة للشرع، ورغبة عن



(14/55)








السنة، وعن طريق الصحابة.
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها، والموجودة لا يمكن إيجادها؛ لأن من شرط
إيجاد



(14/56)








ص -138- الشىء كونه معدوما، فإن إيجاد الموجود محال، وإذا كان كذلك فما يحصل
له بوقوفه شىء، لو وقف ألف عام.
قال: ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه، حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر
سريعاً وأدركه. فمن لم يحصل النية فى الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها فى
الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة؟،
ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلاً أو عسيراً، فإن كان سهلاً فكيف يعسره؟ وإن كان
عسيراً فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواه؟ وكيف خفى ذلك على النبى صلى الله تعالى
عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم، والتابعين ومن بعدهم؟ وكيف لم ينتبه له سوى
من استحوذ عليه الشيطان، أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له؟ أما علم أنه لا يدعو إلى
هدى، ولا يهدى إلى خير؟ وكيف يقول فى صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس؟ أهى ناقصة عنده مفضولة؟ أم هى
التامة الفاضلة؟ فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم؟.
فإن قال: هذا مرض بليت به، قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله تعالى
أحدا بذلك، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة،
ونودى عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر؛ لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران
به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته، وبين لك عداوته، وأوضح لك الطريق،
فمالك عذر ولا حجة فى ترك السنة والقبول من الشيطان.
قلت: قال شيخنا: ومن هؤلاء من يأتى بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،
نويت أصلى صلاة الظهر فريضة الوقت، أداء لله تعالى، إماما أو مأموما، أربع ركعات،
مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويحنى جبهته ويقيم عروق عنقه، ويصرح بالتكبير. كأنه
يكبر على العدو. ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش: هل فعل رسول الله صلى
الله تعالى



(14/57)








عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك، لما ظفر به، إلا أن يجاهر بالكذب
البحت. فلو كان



(14/58)








ص -139- فى هذا خير لسبقونا إليه، ولدلونا عليه. فإن كان هذا هدى فقد ضلوا
عنه، وإن كان الذى كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال: ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله فى التحيات:
إت إت، التحى التحى، وفى السلام: أس أس. وقوله فى التكبير: أكككبر ونحو ذلك، فهذا
الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة
التى هى من أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به
الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه. وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى
الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر
الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما
هو أنفع له، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه، وتغرير الجاهل بالاقتداء به؛ فإنه يقول:
لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه، وأساء الظن بما جاءت به السنة، وأنه لا يكفى
وحده، وانفعال النفس وضعفها للشيطان، حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه
بالقدر، عقوبة له، وإقامته على الجهل، ورضاه بالخبل فى العقل، كما قال أبو حامد
الغزالى وغيره: "الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خبل فى العقل، وكلاهما
من أعظم النقائص والعيوب".
فهذه نحو خمسة عشر مفسدة فى الوسواس، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير.
وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث عثمان بن أبى العاص قال: قلت: "يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنّ الشيطان قَدْ حَالَ بَيْنِى وَبَيْنَ صَلاتِى يُلَبِّسُهَا عَلَىَّ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى علَيْهِ وَسلّم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَب،
فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَاركَ
ثَلاثاً، فَفَعَلْتُ ذلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ تَعَالَى



(14/59)








عَنِّى".
فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه، نعوذ بالله عز وجل منه.



(14/60)








ص -140- فصل
ومن ذلك الإسراف فى ماء الوضوء والغسل.
وقد روى أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمرو: "أنّ رَسُولَ الله صلّى
اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسّلَم مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضّأُ، فَقالَ: لا
تُسْرِفْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَفِى المَاءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ،
وَإنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ".
وفى جامع الترمذى من حديث أبى بن كعب: أَنّ النّبىَّ صلى اللهُ تَعَالَى عليهِ
وسلّمَ قَالَ: "إِنّ لِلْوُضُوءِ شَيْطاناً يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ،
فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ المَاءِ".
وفى المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جَاءَ
أَعْرَابِى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلّم يَسْأَلُهُ
عَن الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلاثاً ثلاثاً، وَقالَ: هذا الْوُضُوءُ فَمنْ زَادَ
عَلَى هذاَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدّى وَظَلَمَ".
وفى كتاب الشافى لأبى بكر عبد العزيز من حديث أم سعد قالت: قَالَ رسُولُ اللهِ
صلّى الله تَعَالَى عَلْيهِ وسلّم: "يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ مُد،
والْغُسْلِ صَاعٌ. وَسَيَأْتِى قَوْمٌ يَسْتَقِلُّونَ ذلِكَ، فَأُولِئِكَ خِلافُ
أَهْل سُنَّتى، وَالآخِذ بِسُنتِى فى حَضْرَةِ الْقُدُسِ مُنتَزه أَهْلِ
الجنَّةِ".
وفى سنن الأثرم من حديث سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال:
"يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ المُدُّ، وَمِنَ الْغَسْلِ مِنَ الجنَابَةِ
الصَّاعُ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِى، فَغَضِبَ جَابِرٌ حَتّى تَرَبّدَ
وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَكْثَرُ شَعْراً".
وقد رواه الإمام أحمد فى مسنده مرفوعاً. ولفظه عن جابر قال: قالَ رَسُولُ اللهِ
صلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وسلّم: "يُجْزِئُ مِنَ الْغَسْلِ الصَّاعُ،
وَمِنَ الْوُضُوءِ المُدُّ".
وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها: "أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ



(14/61)








هِىَ وَالنَّبىُّ صلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وسلّم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ
يَسَعُ ثَلاَثَةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيباً مِنْ ذلِكَ".
وفى سنن النسائى عن عبيد بن عمير: "أَنّ عَائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عَنهَا
قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُنى أَغْتَسِلُ



(14/62)








ص -141- أنَا وَرَسُولُ اللهِ مِنْ هذَا، فَإِذَا تَوْرٌ مَوْضُوعٌ مِثْلُ
الصَّاعِ أوْ دُونَهُ - نَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعاً، فَأَفِيضُ بِيَدَىَّ عَلَى
رَأْسِى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَمَا أَنْقُضُ لِى شَعْرًا".
وفى سنن أبى داود والنسائى عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبى صلى الله
تعالى عليه وسلم: "تَوَضّأَ فَأُتِىَ بمِاءٍ فِى إناء قَدْرِ ثُلُثَىِ
المُدَّ".
وقال عبد الرحمن بن عطاء: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "إن لى ركوة أو قدحاً،
ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، أبول ثم أتوضأ منه، وأفضل منه فضلاً". قال عبد
الرحمن: "فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال: وأنا يكفينى مثل ذلك". قال
عبد الرحمن: "فذكرت ذلك لأبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال: وهكذا
سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، رواه الأثرم فى سننه.
وقال إبراهيم النخعى: "كانوا أشد استيفاء للماء منكم، وكانوا يرون أن ربع
المد يجزئ من الوضوء".
وهذا مبالغة عظيمة، فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفاً بالدمشقى.
وفى "الصحيحين" عن أنس قال: "كَانَ رَسُولُ صلى اللهُ تعالى عليهِ
وسلم يَتَوَضَّأُ بِالمُد، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَة أمْدَاد".
وفى "صحيح مسلم" عن سفينة قال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ
تَعَالَى عليْهِ وَسلم يَغْسِلُهُ الصَّاعُ مِنَ الجَنَابَةِ، وَيُوَضئُهُ
المُدُّ".
وقال إبراهيم النخعى: "إنى لأتوضأ من كوز الحب مرتين".
وتوضأ القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل.
وقال محمد بن عجلان: "الفقه فى دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق
الماء".
وقال الإمام أحمد: "كان يقال: من قلة فقه الرجل ولعه بالماء" وقال
الميمونى: "كنت أتوضأ بماء كثير: فقال لى أحمد: يا أبا الحسن، أترضى أن تكون
كذا؟ فتركته".



(14/63)








ص -142- وقال عبد الله بن أحمد: "قلت لأبى: إنى لأكثر الوضوء، فنهانى عن
ذلك، وقال يا بنى، يقال: إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان. قال لى ذلك غير مرة،
ينهانى عن كثرة صب الماء، وقال لى: أقلل من هذا الماء يا بنى".
وقال إسحاق بن منصور: "قلت لأحمد: نزيد على ثلاث فى الوضوء؟ فقال: لا والله
إلا رجل مبتلى".
وقال أسود بن سالم، الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد: "كنت مبتلى بالوضوء، فنزلت
دجلة أتوضأ، فسمعت هاتفاً يقول: يا أسود، يحيى عن سعيد: الوضوء ثلاث، ما كان
أكثرلم يرفع، فالتفت فلم أر أحدا".
وقد روى أبو داود فى سننه من حديث عبد الله بن مُغفَّل قال: سمعت رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم يقول: "سَيَكُونُ فى هذِهِ الأُمَّةِ قَوْمَ
يَعْتَدُونَ فى الطُهورِ وَالدُّعَاءِ".
فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ}
[الأعراف: 55]. وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس
بعبادة يقبلها الله تعالى، وإن أسقطت الفرض عنه، فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية
لوضوئه يدخل من أيها شاء.
ومن مفاسد الوسواس: أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكاً لغيره
كماء الحمام، فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته، ويتطاول عليه الدين
حتى يرتهن من ذلك بشئ كثير جداً يتضرر به فى البرزخ ويوم القيامة.
فصل
ومن ذلك الوسواس فى انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه.
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه، قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم.
"إذَا وَجَدَ أَحَدُ كُمْ فى بَطْنِه شَيْئاً فَأَشْكلَ عَلَيْهِ: أَخْرَجَ
مِنْهُ شَئْ أَمْ لا؟ فَلاَ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِد حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ
يَجَدَ رِيحاً".



(14/64)








ص -143- وفى الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال:
"شكِىَ إِلى رَسُولِ صلى اللهُ عليه وسلَم: الرَّجُلُ يخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ
يَجِدُ الشّئْ فى الصَّلاَةِ، قَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ
يَجَد رِيحاً".
وفى المسند وسنن أبى داود عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم قال:
"إنَّ الشّيْطَانَ يِأْتِى أَحَدَكُمْ وَهُوَ فى الصَّلاَةِ، فَيَأخُذُ بِشَعْرَةٍ
مِنْ دُبُرِهِ فَيُمِدُّهَا فَيُرَى أَنّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَلاَ يَنْصَرِفُ
حَتَّى يسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجَدَ رِيحاً" ولفظ أبى داود: "إِذَا
أَتَى الشّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فقَالَ لَهُ: إِنّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ
لَهُ: كَذَبْتَ، إِلا مَا وَجَدَ ريحِاً بِأَنْفِه أوْ سَمِعَ صَوْتاً
بِأُذُنِهِ".
فأمر عليه الصلاة والسلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه، فكيف إذا كان كذبه
معلوماً متيقناً، كقوله للموسوس: لم تفعل كذا، وقد فعله؟
قال الشيخ أبو محمد: ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال، ليدفع
عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللا قال: هذا من الماء الذى نضحتا، لما روى أبو داود
بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفى، أو الحكم بن سفيان قال:
"كانَ النَّبىُّ صلّى الله تَعالى عليهِ وسلم إِذا بَالَ تَوَضأَ
وينتضح".
وفى رواية: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَم بَالَ ثُمَّ
نَضَحَ فَرْجَهُ".
وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله.
وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه
إذا بال، قال: "ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه".
وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال: "اله عنه". فأعاد عليه المسألة
فقال: "أتستدره لا أب لك، أله عنه".
فصل
ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء: السلت، والفطر،
والنحنحة، والمشى، والقفز، والحبل، والتفقد، والجور،



(14/65)








والحشو، والعصابة، والدرجة.


(14/66)








ص -144- أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه، على أنه قد روى فى ذلك حديث غريب
لا يثبت، ففى المسند وسنن ابن ماجه عن عيسى بن يزداد عن أبيه قال: قال: رَسُولُ
اللهِ تعالى عليه وسلَّم: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمْسَحْ ذَكَرَهُ
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ".
وقال جابر بن زيد: "إِذَا بُلْتَ فَامْسَح أَسْفَلَ ذَكَرِكَ فإِنَّهُ
يَنْقَطِعُ". رواه سعيد عنه.
قالوا: ولأنه بالسلت والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء.
قالوا: وإن احتاج إلى مشى خطوات لذلك ففعل فقد أحسن، والنحنحة ليستخرج الفضلة.
وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئاً ثم يجلس بسرعة، والحبل يتخذ بعضهم حبلاً يتعلق
به حتى يكاد يرتفع، ثم ينخرط منه حتى يقعد، والتفقد: يمسك الذكر ثم ينظر فى المخرج
هل بقى فيه شىء أم لا. والوجور: يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء: والحشو: يكون
معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها. والعصابة: يعصبه بخرقة، والدرجة
يصعد فى سلم قليلا ثم ينزل بسرعة، والمشى يمشى خطوات ثم يعيد الاستجمار.
قال شيخنا: "وذلك كله وسواس وبدعة"، فراجعته فى السلت والنتر فلم يره،
وقال: "لم يصح الحديث"، قال: "والبول كاللبن فى الضرع إن تركته قر
وإن حلبته در".
قال: "ومن اعتاد ذلك ابتلى منه بما عوفى منه من لها عنه".
قال: "ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله عليه الصلاة والسلام
وأصحابه"، وقد قال اليهودى لسلمان: "لقد علمكم نبيكم كل شىء حتى الخرأة،
فقال: أجل"، فأين علمنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أو شيئاً منه؟
بلى علم المستحاضة أن تتلجم، وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ، ويشد عليه
خرقة.
فصل
ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها هؤلاء.
فمن ذلك المشى حافياً فى الطرقات، ثم يصلى ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود فى



(14/67)








ص -145- سننه: عن امرأة من بنى عبد الأشهل قالت:
"قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَناَ طَرِيقاَ إِلى المَسْجِدِ
مُنْتِنَةً، فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا تَطهَّرْنَا؟ قَال: أَلَيْسَ بَعْدَهَا
طَرِيقٌ أَطْيَبُ مِنْهَا؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهذِهِ بهذِهِ".
وقال عبد الله بن مسعود: "كُنَّا لا نَتَوَضّأُ مِنْ مَوْطِىٍء".
وعن على رضى الله عنه: أنه خاص فى طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى، ولم يغسل رجليه.
وسئل ابن عباس رضى الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: "إن كانت يابسة فليس
بشىء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه".
وقال حفص: أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد. فلما انتهينا عدلت إلى
المطهرة لأغسل قدمى من شىء أصابهما، فقال عبد الله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطىء
الردئ، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب- أو قال: النظيف- فيكون ذلك طهوراً، فدخلنا
المسجد جميعاً فصلينا.
وقال أبو الشعثاء: "كان ابن عمر يمشى بمنى فى الفروث والدماء اليابسة حافياً،
ثم يدخل المسجد فيصلى فيه، ولا يغسل قدميه".
وقال عمران بن حُدير: كنت أمشى مع أبى مِجْلز إلى الجمعة، وفى الطريق عذرات يابسة،
فجعل يتخطاهن ويقول: ما هذه إلا سوادات، ثم جاء حافياً إلى المسجد فصلى، ولم يغسل
قدميه".
وقال عاصم الأحول: "أتينا أبا العالية، فدعونا بوضوء، فقال: ما لكم؟ ألستم
متوضئين؟ قلنا:



(14/68)








ص -146- بلى، ولكن هذه الأقذار التى مررنا بها. قال: هل وطئتم على شىء رطب
تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا. فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجفّ، فينسفها الريح فى
رؤوسكم ولحاكم"؟
فصل
ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه بالأرض مطلقاً وجازت
الصلاة فيه بالسنة الثابتة. نص عليه أحمد. واختاره المحققون من أصحابه قال أبو
البركات: ورواية: "أَجْزَأَ الدَّلْكُ مُطْلَقاً".
هى الصحيحة عندى لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم قال: "إِذَا وطِىءَ أَحَدكُمْ بِنَعْلِه الأَذَى فَإِنَّ
التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ"، وفى لفظ: "إِذَا وَطِىءَ أَحَدُكُمُ الأَذَى
بخُفّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ". رواهما أبو داود.
وروى أبو سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. "صَلَّى
فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالهُمْ فلما انْصَرَفَ قَالَ: لِمَ
خَلَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا،
فقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أتانى فَأَخْبَرَنى أَنَّ بهِماَ خَبَثاً، فإِذَا جَاءَ
أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَقلِبْ نَعْلَيهِ ثُمَّ لِيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى
خَبَثاً فَلْيَمْسَحْهُ بِالأرْضِ ثُمَّ لِيُصَل فِيهِمَا". رواه الإمام
أحمد.
وتأويل ذلك: على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح، لوجوه:
أحدها: أن ذلك لا يسمى خبثاً.
الثانى: أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها.
الثالث: أنه لا تخلع النعل لذلك فى الصلاة، فإنه عمل لغير حاجة، فأقل أحواله
الكراهة.
الرابع: أن الدارقطنى روى فى سننه فى حديث الخلع من رواية ابن عباس: أن النبى عليه
الصلاة والسلام قال: "إنّ جِبْرِيلَ أَتَانِى، فَأَخْبَرَنِى أَنّ فِيهِمَا
دَمَ حَلَمَةٍ" والحَلَمْ كبار القراد.



(14/69)








ص -147- ولأنه بمحل يتكرر ملاقاة النجاسة غالبا، فأجزأ مسحه بالجامد، كمحل
الاستجمار، بل أولى. فإن محل الاستجمار يلاقى النجاسة فى اليوم مرتين أو ثلاثاً.
فصل
وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة: "إنى أطيل ذيلى وأمشى فى
المكان القذر. فقالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يطهره ما
بعده" رواه أحمد وأبو داود.
وقد رخص النبى عليه الصلاة والسلام للمرأة أن ترخى ذيلها ذراعاً، ومعلوم أنه يصيب
القذر ولم يأمرها بغسل ذلك، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض.
فصل
ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين: الصلاة فى النعال. وهى سنة رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه، فعلا منه وأمرا. "كانَ يُصَلّى فى
نَعْلَيْهِ"، متفق عليه.
وعن شداد بن أوس قال: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى اللهُ تَعَالى عليه وآله وسلم:
"خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ فى خِفَافِهِمْ وَلا
نِعَالِهمْ". رواه أبو داود.
وقيل للإمام أحمد: أيصلى الرجل فى نعليه؟ فقال: إى والله.
وترى أهل الوسواس إذا بلى أحدهم بصلاة الجنازة فى نعليه قام على عقبيهما كأنه واقف
على الجمر، حتى لا يصلى فيهما.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:09

ص -148- وفى حديث أبى سعيد الخدرى: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ
فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى عَلَى نَعْلَيْهِ قَذَرًا فَليَمْسَحْهُ،
وَلْيُصَل".
فصل
ومن ذلك: أن سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الصلاة حيث كان، وفى أى
مكان كان، سوى ما نهى عنه من المقبرة والحمام وأعطان الإبل، فصح عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال:
"جُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُورًا، فَحَيْثُمَا أدْرَكَتْ
رَجُلاً مِنْ أُمَّتىِ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل".
وكان يصلى فى مرابض الغنم، وأمر بذلك، ولم يشترط حائلا.
قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة فى
مرابض الغنم، إلا الشافعي". فإنه قال: "أكره ذلك، إلا إذا كان سليماً من
أبعارها". وقال: أبو هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلا تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ
الإِبِلِ". رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الَغْنمِ، وَلاَ تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ
الإِبِل، أَوْ مَبَارِكِ الإبِل".
وفى المسند أيضاً، من حديث عبد الله بن المغفل قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ
تعالى عليهِ وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الغنم وَلاَ تُصَلُّوا فى
أَعْطَانِ الإِبِل، فإنّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ".
وفى الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأسيد بن الحضير وذى الغرة، كلهم
رووا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "صَلوا فى مَرَابِضِ
الْغَنمِ".
وفى بعض ألفاظ الحديث: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الْغَنمِ، فَإِنَّ فِيهاَ
بَرَكَةً".



(14/71)








ص -149- وقال: "الأرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلا المَقْبَرَةُ
وَالْحَمّامُ". رواه أهل السنن كلهم، إلا النسائى.
فأين هذا الهدىُ من فعل من لا يصلى إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير ويضع
عليها المنديل؟ ولا يمشى على الحصير ولا على البساط، بل يمشى عليها نقرا كالعصفور.
فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود: "لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة
ضلالة".
وقد صلى النبى عليه الصلاة والسلام على حصير قد اسودّ من طول ما لبس، فنضح له
بالماء وصلى عليه، ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة،
وعلى الحصى تارة، وفى الطين تارة، حتى يرى أثره على جبهته وأنفه.
وقال ابن عمر: "كانَتِ الكِلاَبُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فى
المَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ".
رواه البخارى، ولم يقل "وتبول" وهو عند أبى داود بإسناد صحيح بهذه
الزيادة.
فصل
ومن ذلك: أن الناس فى عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يأتون المساجد حفاة
فى الطين وغيره.
قال يحيى بن وثاب: "قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ ثم يخرج إلى المسجد حافياً؟
قال: لا بأس به".
وقال كميل بن زياد: "رأيت عليا رضى الله عنه يخوض طين المطر ثم دخل المسجد
فصلى ولم يغسل رجليه".
قال إبراهيم النخعى: "كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد فيصلون".
وقال يحيى بن وثاب: "كانوا يمشون فى ماء المطر وينتضح عليهم". رواها
سعيد بن منصور فى سننه.



(14/72)








ص -150- وقال ابن المنذر: "وطئ ابن عمر بمنى وهو حاف فى ماء وطين ثم صلى
ولم يتوضأ". قال: "وممن رأى ذلك علقمة، والأسود، وعبد الله بن مغفل
وسعيد بن المسيب، والشعبى، والإمام أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، وأحد الوجهين
للشافعية"، قال: "وهو قول عامة أهل العلم، ولأن تنجيسها فيه مشقة عظيمة
منتفية بالشرع، كما فى أطعمة الكفار وثيابهم، وثياب الفساق شربة المسكر وغيرهم".
قال أبو البركات بن تيمية: "وهذا كله يقوى طهارة الأرض بالجفاف، لأن الإنسان
فى العادة لا يزال يشاهد النجاسات فى بقعة من طرقاته التى يكثر فيها تردده إلى
سوقه ومسجده وغيرهما، فلو لم تطهر إذا أذهب الجفاف أثرها للزمه تجنب ما شاهده من
بقاع النجاسات بعد ذهاب أثرها، ولما جاز له التحفى بعد ذلك، وقد علم أن السلف
الصالح لم يحترزوا من ذلك. ويعضده أمره عليه الصلاة والسلام بمسح النعلين بالأرض
لمن أتى المسجد ورأى فيهما خبثاً، ولو تنجست الأرض بذلك نجاسة لا تطهر بالجفاف
لأمر بصيانة طريق المسجد عن ذلك، لأنه يسلكه الحافى وغيره".
قلت: وهذا اختيار شيخنا رحمه الله.
وقال أبو قلابة: "جفاف الأرض طهورها".
فصل
ومن ذلك: أن النبى عليه الصلاة والسلام سئل عن المذى، فأمر بالوضوء منه، فقال:
"كَيْفَ تَرَى بمَا أَصَابَ ثَوْبى مِنْهُ؟ قَالَ: تَأْخُذُ كَفا مِنْ مَاءٍ
فَتَنْضحُ بِه حَيْثُ تَرَى أَنّهُ أصَابَهُ". رواه أحمد والترمذى والنسائى.
فجوّز نضح ما أصابه المذى، كما أمر بنضح بول الغلام.
قال شيخنا: وهذا هو الصواب، لأن هذه نجاسة يشق الأحتراز منها، لكثرة ما يصيب ثياب
الشاب العزب، فهى أولى بالتخفيف من بول الغلام، ومن أسفل الخف والحذاء.



(14/73)








ص -151- فصل
ومن ذلك: إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من جواز
الاستجمار بالأحجار فى زمن الشتاء والصيف، مع أن المحل يعرق، فينضح على الثوب ولم
يأمر بغسله من ذلك.
ومن ذلك: أنه يعفى عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع، فى إحدى الروايتين عن
أحمد، اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز.
قال الوليد بن مسلم: "قلت للأوزاعى: فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه، كالبغل
والحمار والفرس؟ فقال: قد كانوا يبتلون بذلك فى مغازيهم، فلا يغسلونه من جسد ولا
ثوب".
ومن ذلك: نص أحمد على أن الوَدْىَ يعفى عن يسيره كالمذى، وكذلك يعفى عن يسير القئ
نص عليه أحمد.
وقال شيخنا: "لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المِدَّة والقيح والصديد"،
قال: "ولم يقم دليل على نجاسته".
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طاهر، حكاه أبو البركات. وكان ابن عمر رضى الله عنهما
لا ينصرف منه فى الصلاة، وينصرف من الدم. وعن الحسن نحوه.
وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب؟ فقال: "ليس بشىء، إنما ذكر الله
الدم ولم يذكر القيح".
وقال إسحاق بن راهويه: "كل ما كان سوى الدم فهو عندى مثل العرق المنتن وشبهه،
ولا يوجب وضوءا".
وسئل أحمد رحمه الله: الدم والقيح عندك سواء؟ فقال: "لا، الدم لم يختلف الناس
فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه". وقال مرة: "القيح والصديد والمِدة
عندى أسهل من الدم".
ومن ذلك: ما قاله أبو حنيفة: "أنه لو وقع بعر الفأر فى حنطة فطحنت، أو فى دهن
مائع جاز أكله ما لم يتغير، لأنه لا يمكن صونه عنه". قال: "فلو وقع فى
الماء نجسه".



(14/74)








ص -152- وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى جواز أكل الحنطة التى أصابها بول الحمير
عند الدياس من غير غسل. قال: "لأن السلف لم يحترزوا من ذلك".
وقالت عائشة رضى الله عنها: "كُنَّا نَأكُلُ اللَّحْمَ، وَالدَّمُ خُطُوطٌ
عَلَى القِدْرِ".
وقد أباح الله عز وجل صيد الكلب وأطلق، ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا
تقويره، ولا أمر به رسوله، ولا أفتى به أحد من الصحابة.
ومن ذلك: ما أفتى به عبد الله بن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن المسيب وطاووس
وسالم، ومجاهد، والشعبى، وإبراهيم النخعى، والزهرى، ويحيى بن سعيد الأنصارى،
والحكم، والأوزاعى، ومالك، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور والإمام أحمد فى أصح
الروايتين، وغيرهم: "أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم
يكن عالماً بها، أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها، لكنه عجز عن إزالتها أن
صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه".
فصل
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "كانَ يُصَلى وَهُوَ حَامِلٌ
أُمَامَةَ بِنْتَ ابْنَتِه زَيْنَبَ، فإذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ
حَمَلَهَا" متفق عليه.
ولأبى داود: "أَنَّ ذلِكَ كانَ فى إحْدَى صَلاَتَىِ العشى".
وهو دليل على جواز الصلاة فى ثياب المربية والمرضع والحائض والصبى، ما لم يتحقق
نجاستها.
وقال أبو هريرة: "كُنَّا مَع النَّبى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلَم فى
صَلاَةِ العِشَاءِ فَلمَّا سَجَدَ وَثَبَ الَحْسَنُ وَالْحُسَينُ عَلَى ظَهْرِهِ،
فَلمَّا رَفعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدَه مِنْ خَلْفِه أَخْذًا رَفِيقاً
وَوَضَعَهُمَا عَلَى الأرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى
صَلاَتَهُ". رواه الإمام أحمد.
وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: عن أبيه: "خَرَج عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى
الله تعالى عليهِ وآله وسلم وَهُوَ حامِلٌ الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، فَوَضَعَهُ
ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ، فَصَلّى



(14/75)








فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانى صَلاَتِه سَجْدَة أَطَالهَا. فَلمَّا قضى
الصَّلاَةَ قَالَ: إنَّ ابْنِى ارْتحَلَنى فَكرهْتُ أَنْ أُعْجِلَهُ". رواه
أحمد والنسائى.
وقالت عائشة رضى الله تعالى عنها: "كانَ رَسُولُ صلى اللهُ تعالى عليه وآله
وسلَم يُصَلّى بِاللَّيْلِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِه، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَىَّ
مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ". رواه أبو داود.



(14/76)








ص -153- وقالت: "كُنْتَ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسَلم نَبِيتُ
فى الشَّعَارِ الوَاحِدِ، وَأَنَا طَامِثٌ- حَائِضٌ- فَإِنْ أصَابَهُ مِنى شَىْ
غَسَلَ مَكَانَهُ، وَلَمَ يَعْدُهْ، وَصَلى فِيهِ" رواه أبو داود.
فصل
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلبس الثياب التى نسجها المشركون
ويصلى فيها.
وتقدم قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، وهَمّه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها
تصبغ بالبول، وقول أبى له: "مالك أن تنهى عنها، فإن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم لبسها، ولبست فى زمانه؟ ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله. قال:
صدقت".
قلت: وعلى قياس ذلك: الجوخ، بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب، فتجنبه من باب
الوسواس.
ولما قدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجابية استعار ثوباً من نصرانى فلبسه، حتى
خاطوا له قميصه وغسلوه. وتوضأ من نجرة نصرانية.
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضى الله عنهما فى بيت نصرانية. فقال لها أبو الدرداء:
"هل فى بيتك مكان طاهر فنصلى فيه؟" فقالت: طهرا قلوبكما، ثم صليا اين
أحببتما. فقال له سلمان: "خذها من غير فقيه".
فصل
ومن ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأوانى المكشوفة ولا
يسألون: هل أصابتها نجاسة، أو وردها كلب أو سبع؟ ففى الموطإ عن يحيى ابن سعيد أن
عمر رضى الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو:
"يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟"، فقال عمر رضى الله عنه: "لا
تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا".



(14/77)








ص -154- وفى سنن ابن ماجه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"سُئِلَ: أَنَتَوَضّأُ بمَا أفْضَلَتِ الُحُمرُ؟ قَالَ: نَعمْ، وَبَما
أَفْضَلَتِ السبَاعُ".
ومن ذلك: أنه لو سقط عليه شئ من ميزاب، لا يدرى هل هو أو بول. لم يجب عليه أن يسأل
عنه. فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولو علم أنه نجس، ولا يجب عليه غسل ذلك.
ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوماً، فسقط عليه شئ من ميزاب، ومعه صاحب له،
فقال: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر رضى الله عنه: "يا صاحب
الميزاب لا تخبرنا ومضى"، ذكره أحمد.
قال شيخنا: "وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شىء رطب ولا يعلم ما هو لم
يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو. واحتج بقصة عمر رضى الله عنه فى الميزاب وهذا هو
الفقه، فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها، وقبل ذلك هى على
العفو. فما عفا الله عنه فلا ينبغى البحث عنه".
فصل
ومن ذلك: الصلاة مع يسير الدم، ولا يعيد.
قال البخارى: قال الحسن رحمه الله: "مازال المسلمون يصلون فى جراحاتهم".
قال: "وعصر ابن عمر رضى الله عنهما بثرة، فخرج منها دم فلم يتوضأ، وبصق ابن
أبى أو فى دما ومضى فى صلاته. وصلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجرحه يثعب
دما".



(14/78)








ص -155- ومن ذلك: أن المراضع مازلن من عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وإلى الآن يصلين فى ثيابهن، والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة
وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك، لأن ريق الرضيع مطهر لقمه لأجل الحاجة. كما أن ريق
الهرة مطهر لفمها.
وقد قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم:
"إنّهَا لَيْسَتْ بِنَجِس، إِنّهَا مِنَ الطّوَّافينَ عَلَيْكُمْ
وَالطَّوَّافَاتِ وَكَانَ يُصْغِى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ".
وكذلك فعل أبو قتادة. مع العلم اليقينى أنها تأكل الفأر والحشرات، والعلم القطعى
أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعاً.
ومن ذلك: أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم، وقد أصابها الدم.
وكانوا يمسحونها، ويجتزئون بذلك.
وعلى قياس هذا: مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة، فإنه يطهرها.
وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها.
ومن ذلك: أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس، ثم تجففه الشمس، فينشر
عليه الثوب الطاهر. فقال: لا بأس به. وهذا كقول أبى حنيفة: "إن الأرض النجسة
يطهرها الريح والشمس". وهو وجه لأصحاب أحمد، حتى إنه يجوز التيمم بها. وحديث
ابن عمر رضى الله عنهما كالنص فى ذلك وهو قوله: "كانت الكلاب تقبل وتدبر
وتبول فى المسجد ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك".



(14/79)








ص -156- وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس.
ومن ذلك: أن الذى دلت عليه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآثار
أصحابه: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان يسيراً.
وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث. وبه أفتى عطاء بن أبى رباح،
وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، والأوزاعى، وسفيان الثورى، ومالك بن أنس، وعبد
الرحمن بن مهدى، واختاره ابن المنذر. وبه قال أهل الظاهر. ونص عليه أحمد فى إحدى
روايتيه. وإختاره جماعة من أصحابنا، منهم ابن عقيل فى مفرداته وشيخنا أبو العباس،
وشيخه ابن أبى عمر.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"المَاء لا يُنَجسُهُ شَئ" رواه الإمام أحمد.
وفى المسند والسنن عن أبى سعيد قال: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَوَضّأُ
مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِىَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيضُ ولُحُومُ الكِلاَبِ
وَالنَّتْنُ فَقَال: المَاءُ طَهُورٌ، لا يُنَجسُهُ شئ".
قال الترمذى: "هذا حديث حسن". وقال الإمام أحمد: "حديث بئر بضاعة
صحيح".
وفى لفظ للإمام أحمد: "إِنّهُ يُسْتَقَىِ لَكَ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِىَ
بِئْر يُطْرَحُ فِيهَا حَايِضُ النسَاءِ، وَلَحْمُ الْكِلاَبِ، وَعَذَر النَّاسِ؟
فَقَالَ رَسولُ اللهِ تعالى عليهِ وَسلم: إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجسُهُ
شَىْ".
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى أمامة مرفوعاً:
"المَاءُ لا يُنَجسُهُ شَىْ إِلاّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ، أَوْ طَعْمِهِ،
أَوْ لَوْنِه".
وفيها من حديث أبى سعيد الحدرى: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
"سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الّتِى بَيْنَ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السبَاعُ
وَالْكِلاَبُ وَالْحُمُرُ، وَعَنِ الطّهَارَةِ بهَا؟ فَقالَ: لَها مَا حَمَلَتْ فى
بُطُونهَا وَلنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ".
وإن كان فى إسناد هذين



(14/80)








الحديثين مقال. فإنا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد.
وقال البخارى: قال الزهرى: "لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو
لون".



(14/81)








ص -157- وقال الزهرى أيضاً: "إذا ولغ الكلب فى الإناء ليس له وضوء غيره
يتوضأ به ثم يتيمم".
قال سفيان: "هذا الفقه بعينه"، يقول الله تعالى:
"{فَلَمْ تجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]. وهذا ماء، وفى النفس
منه شىء يتوضأ به ثم يتيمم" ونص أحمد رحمه الله فى جب زيت ولغ فيه كلب، فقال:
"يؤكل".
فصل
ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يجيب من دعاه، فيأكل من
طعامه وأضافه يهودى بخبز شعير وإهالة سنخة. وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل
الكتاب.
وشرط عمر رضى الله تعالى عنه عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وقال:
"أطعموهم مما تأكلون". وقد أحل الله عز وجل ذلك فى كتابه.
ولما قدم عمر رضى الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه، فقال: "أين
هو؟" قالوا: فى الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعلى رضى الله عنه: "اذهب
بالناس، فذهب على بالمسلمين". فدخلوا وأكلوا، وجعل على رضى الله عنه: ينظر
إلى الصور، وقال: "ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل؟".
وكان النبى عليه السلام يقبل ابنى ابنته فى أفواههما، ويشرب من موضع فم عائشة رضى
الله عنها، ويتعرق العرق، فيضع فاه على موضع فيها، وهى حائض.
وحمل أبو بكر رضى الله عنه الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه.
وأتى رسول الله عليه السلام بصبى، فوضعه فى حجره، فبال عليه فدعا بماء، فنضحه ولم
يغسله.
وكان يؤتى بالصبيان فيضعهم فى حجره يبرك عليهم، ويدعو لهم.



(14/82)








ص -158- وهذا الذى ذكرناه قليل من كثير من السنة، ومن له اطلاع على ما كان
عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لا يخفى عليه حقيقة الحال.
وقد روى الإمام أحمد فى مسنده عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "بُعِثْتُ
بِالْحنِيفِيَّةِ السمْحِةِ".
فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة. فهى حنيفية فى التوحيد، سمحة فى العمل. وضد
الأمرين: الشرك، وتحريم الحلال، وهما اللذان ذكرهما النبى صلى الله تعالى عليه
وآله فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:
"إِنى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ وَإِنّهُمْ أتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينْهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَلْتُ لَهُمْ،
وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بى مَا لَمْ أُنَزلْ بِهِ سُلْطَاناً".
فالشرك وتحريم الحلال قرينان. وهما اللذان عابهما الله تعالى فى كتابه على
المشركين فى سورة الأنعام والأعراف.
وقد ذم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المتنطعين فى الدين، وأخبر بمهلكهم
حيث يقول:
"أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ، أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ، أَلا هَلَكَ
المُتَنَطعُونَ". وقال ابن أبى شيبة: حدثنا أبو أسامة عن مسعر قال:
"أخرج إلى معن بن عبد الرحمن كتاباً، وحلف بالله أنه خط أبيه، فإذا فيه: قال
عبد الله: والله الذى لا إله غيره ما رأيت أحداً كان أشد على المتنطعين من رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا رأيت بعده أحداً أشد خوفاً عليهم من أبى
بكر، وإنى لأظن عمر رضى الله عنه كان أشد أهل الأرض خوفاً عليهم".
وكان عليه الصلاة والسلام يبغض المتعمقين، حتى إنه لما واصل بهم ورأى الهلال. قال:
"لَوْ تَأَخّرَ الهِلالُ لَوَاصَلتُ وِصالا يَدَعُ المُتَعَمقُونَ
تَعَمُّقَهُمْ، كالمَنكلِ بهِمْ".



(14/83)








ص -159- وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا، اقتداء بنبيهم صلى الله تعالى وسلم.
قال الله تعالى:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلفِينَ}
[ص: 86]. وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "من كان منكم مستنا فليستن
بمن قد مات. فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه
الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً. اختارهم الله تعالى لصحبة
نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا
على الهدى المستقيم".
وقال أنس رضى الله عنه: "كنا عند عمر رضى الله عنه، فسمعته يقول: نهينا عن
التكلف".
وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة
على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها. من اقتدى بها
فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه
الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
وقال مالك: بلغنى أن عمر بن الخطاب كان يقول: "سُنَّت لكم السنن، وفرضت لكم
الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالاً".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "يَحْمِلُ هذا العِلُمَ مِنْ كُل خَلَفٍ عُدُولُهُ،
يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ
الْجَاهِلِينَ".
فأخبر أن الغالبين يحرفون ما جاء به. والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه.
والجاهلون يتأولونه على غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة.
فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفى عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان
الأنبياء قبله من هؤلاء.



(14/84)








ص -160- فصل
ومن ذلك الوسوسة فى مخارج الحروف والتنطع فيها.
ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم:
قال أبو الفرج بن الجوزى: "قد لبس إبليس على بعض المصلين فى مخارج الحروف،
فتراه يقول: الحمد، الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة. وتارة يلبس
عليه فى تحقيق التشديد فى إخراج ضاد "المغضوب" قال: "ولقد رأيت من
يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده. والمراد تحقيق الحرف حسب. وإبليس يخرج
هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويشغلهم بالمبالغة فى الحروف عن فهم التلاوة. وكل
هذه الوساوس من إبليس".
وقال محمد بن قتيبة فى مشكل القرآن: "وقد كان الناس يقرؤون القرآن بلغاتهم،
ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم
التكلف، فهفوا فى كثير من الحروف. وذلوا فأخلواً. ومنهم رجل ستر الله عليه عند
العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين. فلم أر فيمن تتبعت فى وجوه قراءته أكثر
تخليطاً ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل فى الحروف ما يدعه فى نظيره، ثم يؤصل
أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة، ويختار فى كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على
طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نبذه فى قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه فى
المد والهمز والإشباع، وإفحاشه فى الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المذهب
الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى، وتضييقه ما فسحه الله. ومن العجب
أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها. ففى أى موضع يستعمل هذه القراءة،
إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟، وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ فى صلاته بحرفه، أو ائتم
بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين. منهم بشر بن
الحارث، والإمام أحمد بن حنبل، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم. وليس ذلك إلا
لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها. فإذا رأوه قد
اختلف فى أم الكتاب



(14/85)








عشرا. وفى مائة آية شهراً، وفى السبع الطوال حولا. ورأوه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:11

ص -161- عند قراءته مائل الشدقين، دار الوريدين، راشح الجبين، توهموا أن ذلك
لفضله فى القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت سهلة
رسلة".
وقال الخلال فى الجامع: عن أبى عبد الله، إنه قال: "لا أحب قراءة فلان"،
يعنى هذا الذى أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يعجب من قراءته،
وقال: "لا تعجبنى. فإن كان رجل يقبل منك فانهه".
وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها.
وقال الفضل بن زياد: "إن رجلاً قال لأبى عبد الله: فما أترك من قراءته؟ قال:
الإدغام، والكسر. ليس يعرف فى لغة من لغات العرب".
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: "أكره الكسر الشديد والإضجاع".
وقال فى موضع آخر: "إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به".
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: "أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟"،
قال: "أكرهه أشد كراهة، إنما هى قراءة محدثة". وكرهها شديداً حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: "أكرهها أشد الكراهة"، قيل له: ما
تكره منها؟ قال: "هى قراءة محدثة، ما قرأ بها أحد".
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها. وقال: "كرهها ابن إدريس"،
وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدى. وقال: "ما أدرى، إيش هذه القراءة؟" ثم
قال: "وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب".
وقال عبد الرحمن بن مهدى "لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة".



(14/87)








ص -162- ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد. وعنه رواية أخرى: "أنه لا
يعيد".
والمقصود. أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو فى النطق بالحرف.
ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وإقراره أهل كل لسان على
قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة فى إخراج الحروف ليس من سنته.
فصل
فى الجواب عما احتج به أهل الوسواس
أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواساً.
قلنا: سموه ما شئتم، فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم وأمره، وما كان عليه أصحابه، أو مخالف؟
فإن زعمتم أنه موافق، فبهت وكذب صريح. فإذن لا بد من الإقرار بعدم موافقته وأنه
مخالف له، فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطاً. وهذا نظير من ارتكب محظوراً وسماه بغير
اسمه، كما يسمى الخمر بغير اسمها، والربا معاملة، والتحليل الذى لعن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله: نكاحاً، ونقر الصلاة الذى أخبر رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم أن فاعله لم يصل، وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله
تعالى منه: تخفيفاً. فهكذا تسمية الغلو فى الدين والتنطع: احتياطاً.
وينبغى أن يعلم أن الاحتياط الذى ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه الاحتياط فى موافقة
السنة، وترك مخالفتها. فالاحتياط كل الاحتياط فى ذلك، وإلا فما احتاط لنفسه من خرج
عن السنة، بل ترك حقيقة الاحتياط فى ذلك.
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق فى موارد النزاع الذى اختلف فيه الأئمة، كطلاق



(14/88)








ص -163- لمكره، وطلاق السكران، والبتة، وجمع الثلاث، والطلاق بمجرد النية،
والطلاق المؤجل المعلوم مجئ أجله، واليمين بالطلاق، وغير ذلك مما تنازع فيه
العلماء إذا أوقعه المفتى تقليدا بغير برهان، وقال: ذلك احتياط للفروج. فقد ترك
معنى الاحتياط. فإنه يحرم الفرج على هذا، ويبيحه لغيره. فأين الاحتياط هاهنا؟ بل
لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له، أو يأتى
برهان من الله ورسوله على ذلك، لكان قد عمل بالاحتياط. ونص على مثل ذلك الإمام
أحمد فى طلاق السكران.
فقال فى رواية أبى طالب: "والذى لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة. والذى
يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين: حرمها الله عليه وأحلها لغيره". فهذا خير من هذا،
فلا يمكن الاحتياط فى وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة. أو كان هناك نص عن الله
ورسوله يجب المصير إليه.
قال شيخنا: "والاحتياط حسن، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة. فإذا أفضى
إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط"، وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِه
وَعِرْضِهِ" وقوله: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ"
وقوله: "الإِثمُ مَا حَاكَ فى الصَّدْرِ".
فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس.
فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل، والحلال بالحرام، على وجه لا يكون فيه
دليل على أحد الجانبين، أو تتعارض الأمارتان عنده، فلا يترجح فى ظنه احداها،
فيشتبه عليه هذا بهذا، فأرشده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ترك المشتبه
والعدول إلى الواضح الجلى.
ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة؟
هذا أحسن أحواله، والواضح الجلى هو اتباع طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم، وما سنه للأمة قولا وعملا. فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا
الواضح. فكيف



(14/89)








ولا شبهة بحمد الله هناك؟ إذ قد بينت بالسنة أنه تنطع وغلو، فالمصير إليه ترك
للسنة، وأخذ بالبدعة، وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه، وأخذ بما يكرهه ويبغضه،
ولا يتقرب به إليه البتة، فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع، لا بما يهواه العبد
ويفعله من تلقاء



(14/90)








ص -164- نفسه. فهذا هو الذى يحيك فى الصدر ويتردد فى القلب، وهو حوازّ القلوب.
وأما التمرة التى ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أكلها، وقال:
"أَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ".
فذلك من باب اتقاء الشبهات، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام، فإن التمرة كانت قد
وجدها فى بيته، وكان يؤتى بتمر الصدقة، يقسمه على من تحل له الصدقة، ويدخل بيته
تمر يقتات منه أهله، فكان فى بيته النوعان، فلما وجد تلك التمرة لم يدر عليه
الصلاة والسلام، من أى النوعين هى؟ فأمسك عن أكلها. فهذا الحديث أصل فى الورع
واتقاء الشبهات، فما لأهل الوسواس وما له؟.
وأما قولكم: إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر: أواحدة طلق أم ثلاثا: إنها ثلاث
احتياطاً، فنعم، هذا قول مالك، فكان ماذا؟ أفحجة هو على الشافعى، وأبى حنيفة
وأحمد، وعلى كل من خالفه فى هذه المسألة؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله،
وهذا القول مما يحتج له، لا مما يحتج به، على أن هذا ليس من باب الوسواس فى شىء
وإنما حجة هذا القول: أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة. والرجعة ترفع ذلك التحريم، فهو
يقول: قد تيقن سبب التحريم، وهو الطلاق، وشك فى رفعه بالرجعة، فإنه يحتمل أن يكون
رجعيا فترفعه الرجعة، ويحتمل أن يكون ثلاثاً، فلا ترفعه الرجعة فقد تيقن سبب التحريم،
وشك فيما يرفعه.
والجمهور يقولون: النكاح متيقن. والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه، فإنه
يحتمل أن يكون المأتى به رجعياً فلا يزيل النكاح. ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله،
فقد تيقنا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله. فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن ما يرفعه.
فإن قلتم: فقد تيقن التحريم وشك فى التحليل، قلنا: الرجعية ليست بحرام عندكم ولهذا
تجوزون وطأها، ويكون رجعة، إذا نوى به الرجعة.
فإن قلتم: بل هى حرام، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء. قلنا: لا ينفعكم ذلك أيضاً.



(14/91)








ص -165- فإنه إنما تيقن تحريماً يزول بالرجعة، ولم يتيقن تحريماً لا تؤثر فيه
الرجعة.
وليس المقصود تقرير هذه المسألة. والمقصود أنه لا راحة فى ذلك لأهل الوسواس.
فصل
وأما من حلف بالطلاق: أن فى هذه اللوزة حبتين، ونحو ذلك، مما لا يتيقنه الحالف،
فبان كما حلف عليه.
فهذا لا يحنث عند الأكثرين. وكذلك لو لم يتبين الحال استمر مجهولا. فإن النكاح
ثابت بيقين، فلا يزيله بالشك.
ولمالك رحمه الله أصل نازعه فيه غيره. وهو إيقاع الطلاق بالشك فى الحنث، وإيقاعه
بالشك فى عدده كما تقدم. وإيقاعه بالشك فى المطلقة. كما لو طلق واحدة من نسائه ثم
أنسيها، ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين، طلق عليه الجميع.
وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان، وهو غير متيقن له، بل هو شاك حال الحلف، فتبين
أن الأمر كما حلف عليه. فإنه يحنث عنده، وتطلق امرأته. فمن حلف على رجل أنه زيد
فتبين أنه غيره، أو لم يتبين: أهو المحلوف عليه أم لا، حنث عنده. وإن تبين أنه
المحلوف عليه- وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته، ولا يغلب على ظنه. ولا طريق له إلى
العلم به فى العادة- فإنه يحنث عنده لشكه حال الحلف. فالحالف يحنث بالمخالفة لما
حلف عليه. أما فى الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه، وأما فى الخبر فبأن يتبين
كذبه. وعند مالك يحنث بأمر آخر، وهو الشك حال اليمين، سواء تبين صدقة أم لا.
وأبلغ من هذا: أنه يحنث من حلف بالطلاق على إنسان إلى جانبه إنسان أو حجر: أنه
حجر، ونحو ذلك مما لا شك فيه.
وعمدته فى الموضعين: أن الحالف هازل. فإن من قال: أنت طالق إذ لم تكونى امرأة، أو
إن لم أكن رجلاً، لا معنى لكلامه إلا الهزل، فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه.
قالوا: وإن لم يكن هذا هزلا فإن الهزل لا حقيقة له.



(14/92)








ص -166- وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق، ثم ندم، فوصله بما لا
يفيد ليرفعه.
وأما فى القسم الأول: فأصله فيه: تغليب الحنث بالشك، كمن حلف ثم شك: هل حنث أم لا،
فإنهم يأمرونه بفراق زوجته، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ على قولين، الأول: لابن
القاسم، والثانى: لمالك.
فمالك يراعى بقاء النكاح، وقد شككنا فى زواله، والأصل البقاء. وابن القاسم يقول:
قد صار حل الوطء مشكوكاً فيه، فيجب عليه مفارقتها. والأكثرون يقولون: لا يجب عليه
مفارقتها، ولا يستحب له، فإن قاعدة الشريعة: أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل
المعلوم، ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه، أو مساو له.
فصل
وأما من طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها، أو طلق واحدة مبهمة ولم يعينها، فقد اختلف
الفقهاء فى حكم هذه المسألة على أقوال:
فقال أبو حنيفة، والشافعى، والثورى، وحماد: يختار أيتهن شاء، فيوقع عليها الطلاق
فى المبهمة. وأما فى المنسية. وأما فى المنسية فيمسك عنهن وينفق عليهن، حتى ينكشف
الأمر. فإن مات الزوج قبل أن يقرع، فقال أبو حنيفة: يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة.
وقال الشافعى: "يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن".
وقالت المالكية: إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده، بأن قال: أنت طالق، ولا يدرى
من هى. طلق الجميع. وإن طلق واحدة معلومة ثم أنسيها، وقف عنهن حتى يتذكر. فإن طال
ذلك ضرب له مدة المولى. فإن تذكر فيها وإلا طلق عليه الجميع ولو قال: إحداكن طالق،
ولم يعينها بالنية طلق الجميع.
وقال أحمد: "يقرع بينهن فى الصورتين"، نص على ذلك فى رواية جماعة من
أصحابه، وحكاه عن على وابن عباس.
وظاهر المذهب الذى عليه جل الأصحاب: أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية.



(14/93)








ص -167- وقال صاحب المغنى: "يخرج المبهمة بالقرعة، وأما المنسية فإنه
يحرم عليه الجميع. حتى يتيقن المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع، فإن مات أقرع بينهن
للميراث"، قال: وقد روى إسماعيل بن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا
تستعمل فى المنسية لمعرفة الحل، وإنما تستعمل لمعرفة الميراث. فإنه قال:
"سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق". قال:
"أكره أن أقول فى الطلاق بالقرعة". قلت: "أرأيت إن مات هذا؟"،
قال: "أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال". قال:
"وجماعة من روى عنه القرعة فى المطلقة المنسية إنما هو فى التوريث. وأما فى
الحل فلا ينبغى أم تثبت القرعة". قال: "وهذا قول أكثر أهل العلم".
واحتج الشيخ لصحة قوله: بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحل له إحداهما
بالقرعة، كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد، ولأن القرعة لا تزيل
التحريم من المطلقة، فلا يرفع الطلاق عمن وقع عليها، ولاحتمال كون المطلقة غير من
خرجت عليها القرعة. ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه. ولو ارتفع التحريم
أو زال بالطلاق لما عاد بالذكر. فيجب بقاء التحريم بعد القرعة، كما كان قبلها.
قال: "وقد قال الخرقى فيمن طلق امرأته فلم يدر، واحدة طلق أم ثلاثاً، ومن حلف
بالطلاق لا يأكل تمرة، فوقعت فى تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته حتى يعلم
أنها ليست التى وقعت اليمين عليها. فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه
يقين التحريم، فهاهنا أولى".
قال: "وهكذا الحكم فى كل موضع وقع الطلاق على امرأة بعينها، ثم اشتبهت
بغيرها. مثل أن يرى امرأة فى روزنة، أو مولية، فيقول: أنت طالق، ولا يعلم عينها من
نسائه. وكذلك إذا أوقع الطلاق على واحدة من نسائه فى مسألة الطائر وشبهها، فإنه
يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة. ويؤخذ بنفقة الجميع، لأنهن محبوسات عليه،
وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا. ولا



(14/94)








يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج، لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة. ولا يحل
للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة".
وقال أصحابنا: إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن: ثبت حكم الطلاق فيها



(14/95)








ص -168- فحل لها النكاح بعد انقضاء عدتها. وحل للزوج مَنْ سواها. كما لو كان
الطلاق فى واحدة غير معينة.
وقال شيخنا: الصحيح استعمال القرعة فى الصورتين.
قلت: وهو منصوص أحمد فى رواية الجماعة. وأما رواية الشالنجى فإنه توقف، وكره أن
يقول فى الطلاق بالقرعة، ولم يعين المنسية، ولا المبهمة، وأكثر نصوصه على القرعة
فى الصورتين.
قال فى رواية الميمونى، فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن، ولم يدر: "يقرع
بينهن، وكذلك فى الأعبد. فإن أقرع بينهن، فوقعت القرعة على واحدة، ثم ذكر التى طلق
رجعت هذه التى وقعت عليها القرعة. ويقع الطلاق على التى ذكر. فإن تزوجت فذاك شىء
قد مر".
وكذلك نقل أبو الحارث عنه فى رجل له أربع نسوة طلق إحداهن، ولم يكن له نية فى
واحدة بعينها: "يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهى المطلقة، وكذلك إن قصد
إلى واحدة بعينها ونسيها".
فنص على القرعة فى الصورتين، مسوياً بينهما.
والذى أفتى به على رضى الله عنه هو فى المنسية. وبه احتج أحمد رحمه الله.
قال وكيع: سمعت عبد الله قال: "سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق
إحداهن، لا يدرى أيتهن طلق"، فقال: قال على رضى الله عنه: "يقرع
بينهن".
والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين، والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعاً فلا
فرق بينها وبين المبهمة المجهولة، ولأن فى الإيقاف والإمساك حتى يتذكر، وتحريم
الجميع عليه، وإيجاب النفقة على الجميع عدة مفاسد له وللزوجات مندفعة شرعاً، ولأن
القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع، ومصلحة الزوج والزوجات من تركهن معلقات، لا ذوات
أزوج ولا أيامى، وتركه هو معلقاً، لا ذا زوج ولا عزباً، وليس فى الشريعة نظير ذلك،
بل ليس فيها وقف الأحكام، بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق. فإذا ضاقت الطرق،
ولم يبق إلا القرعة، تعينت طريقاً، كما عينها الشارع فى عدة قضايا، حيث لم يكن
هناك غيرها، ولم



(14/96)








ص -169- يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف، فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلى انكشاف
الحال، كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر من أعظم المفاسد التى لا تأتى بها الشريعة.
وغاية ما يقدر أن القرعة تصيب التى لم يقع عليها الطلاق وتخطئ المطلقة. وهذا لا
يضرها هاهنا، فإنها لما جهل كونها هى التى وقع عليها الطلاق صار المجهول كالمعدوم،
وكل ما يقدر من المفسدة فى ذلك فمثلها فى العتق سواء. وقد دلت سنة رسول الله عليه
الصلاة والسلام الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة، وقد نص أحمد
على حل البضع بالقرعة.
فقال- فى رواية ابن منصور وحنبل- إذا زوجها الوليان من رجلين، ولم يعلم السابق
منهما أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حكم أنه الأول.
فإذا قويت القرعة على تعيين الزوج فى حل البضع له فلأن تقوى على تعيين المطلقة فى
تحريم بضعها عنه أولى. فإن الطلاق مبنى على التغليب والسراية، وهو أسرع نفوذا
وثبوتا من النكاح من وجوه كثيرة.
وقول الشيخ أبى محمد، قدس الله تعالى روحه: "إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية
فلم تحل له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عقد".
جوابه: بالفرق بين حالتى الدوام والابتداء، فإنه هناك شك فى هذه الأجنبية هل حصل
عقد أم لا؟ والأصل فيها التحريم، فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يقدم على واحدة منهما.
وهاهنا ثبت الحل و النكاح. وحصل الشك بعده، هل ترك التحريم فى هذا أو فى هذه. فإما
أن يحرما جميعاً أو يحلا جميعاً، أو يقال له: اختر من ينزل عليه التحريم، أو يوقف
الأمر أبدا، أو تستعمل القرعة، والأقسام الأربعة الأول باطلة، لا أصل لها فى
السنة، ولم يعتبرها الشارع بخلاف القرعة.
وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى، إذ هناك تحريم متيقن، ونحن



(14/97)








ص -170- نشك فى حله، وهنا حل متيقن نشك فى تحريمه بالنسبة إلى كل واحدة.
قوله: ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، ولا ترفع الطلاق على من وقع عليه.
فيقال: إذا جهلت المطلقة. ولم يكن له سبيل إلى تعيينها قامت القرعة مقام الشاهد
والمخبر بأنها المطلقة للضرورة، حيث تعينت طريقاً، فالمطلقة المجهولة قد صار
طلاقها بعينها كالمعدوم، ولو كانت مطلقة فى نفس الأمر فإن الشارع لم يكلفنا بما فى
نفس الأمر، بل بما ظهر وبدا. ولهذا لو نسى الطلاق بالكلية وأقام على وطئها حتى
توفى، كانت أحكامه أحكام الزوج، والنسب لاحق به، والميراث ثابت، وهى مطلقة فى نفس
الأمر، ولكن ليست مطلقة فى حكم الله، كما لو طلع الهلال فى نفس الأمر ولم يره أحد
من الناس، أو كان الهلال تحت الغيم، فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر، ولا يكون
طالعاً فى حكم الله تعالى، وإن كان طالعاً فى نفس الأمر، ونظائر هذا كثيرة جداً.
فغاية الأمر: أن هذه مطلقة فى نفس الأمر، ولا علم له بطلاقها، فلا تكون مطلقة فى
الحكم، كما لو نسى طلاقها.
قوله: ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق
لما عاد بالذكر.
جوابه: أن القرعة إنما عملت مع استمرار النسيان، فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة،
كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه. فإن التراب إنما يعمل
عند العجز عن الماء، فإذا قدر عليه بطل حكمه. ونظائر ذلك كثيرة.
منها: أن الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص، فإذا تبين النص، فلا اجتهاد إلا فى
إبطال ما خالفه.
قوله: وقد قال الخرقى فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثاً؟ يلزمه
الثلاث. ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت فى تمر، فأكل منه واحدة لا تحل له
امرأته حتى يعلم



(14/98)








ص -171- نها ليست التى وقعت اليمين عليها فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح،
ولم يعارضه يقين التحريم فهاهنا أولى.
فيقال: الخرقى نص على المسألتين مفرقاً بينهما فى مختصره، فقال: وإذا طلق واحدة من
نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة. وقال: ما حكاه الشيخ عنه فى الموضعين. فأما من شك:
هل طلق واحدة أم ثلاثاً، فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة، وهو ظاهر المذهب.
والخرقى اختار الرواية الأخرى. وهى مذهب مالك، وقد تقدم مأخذ القولين وبيان الراجح
منهما.
وعلى القول بلزوم الثلاث فالفرق بين ذلك، وبين إخراج المنسية بالقرعة: أن المجهول
فى الشرع كالمعدوم. فقد جهلنا وقوع الطلاق بأى الزوجتين، فلم يتحقق تحريم إحداهما.
ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما. والوقف مفسدة ظاهرة فتعينت القرعة،
بخلاف من أوقع على زوجته طلاقاً قد شك فى عدده فإنه قد شك: هل يرتفع ذلك الطلاق
بالرجعة أولا يرتفع بها؟ فألزمه بالثلاث. فظهر الفرق بينهما على هذا القول.
وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال.
وأما من حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت فى تمر، أكل منه واحدة. فقد قال الخرقى:
إنه يمنع من وطء زوجته حتى يتيقن. وهذا يحتمل الكراهة والتحريم. ومذهب الشافعى
وأبى حنيفة: أنه لا يحنث، ولا يحرم عليه وطء زوجته: هو اختيار أبى الخطاب، وهو
الصحيح. وإن أراد به التحريم فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلق وشك، هل طلق واحدة
أم ثلاثاً؟
فصل
وأما من حلف على يمين ثم نسيها. وقولهم: يلزمه جميع ما يحلف به، فقول شاذ جدا.
وليس عن مالك، إنما قاله بعض أصحابه. وسائر أهل العلم على خلافه. وأنه لا يلزمه
شىء حتى يتيقن، كما لو شك: هل حلف أو لا؟
فإن قيل: فينبغى أن يلزمه كفارة يمين، لأنها الأقل.
قيل: موجب الأيمان مختلف. فما من يمين إلا وهى مشكوك فيها، هل حلف بها أم لا؟



(14/99)








ص -172- وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمين حسب، لأن ذلك موجب الأيمان كلها
عنده.
فصل
وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا. فعند الجمهور هو على التراخى إلى آخر عمره،
إلا أن يعين بنيته وقتا، فيتقيد به. فإن عزم الترك بالكلية حنث حالة عزمه، نص عليه
أحمد.
وقال مالك: هو على حنث حتى يفعل، فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتى بالمحلوف،
عليه وهذا صحيح على أصله فى سد الذرائع، فإنه إذا كان على التراخى إلى وقت الموت
لم يكن لليمين فائدة، وصار لا فرق بين الحلف وعدمه، والحمل فى ذلك على القرينة
والعرف، وإن لم تكن نية. ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة.
فصل
وأما تعليق الطلاق بوقت يجئ لا محالة، كرأس الشهر والسنة، وآخر النهار ونحوه.
فللفقهاء فى ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنها لا تطلق بحال، وهذا مذهب ابن حزم، واختيار أبى عبد الرحمن الشافعى،
وهو من أجل أصحاب الوجوه.
وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط، كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة
والإبراء.
قالوا: والطلاق لا يقع فى الحال، ولا عند مجئ الوقت. أما فى الحال فلأنه لم يوقعه
منجزا، وأما عند مجئ الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ، ولم يتجدد سوى مجئ
الزمان. ومجئ الزمان لا يكون طلاقاً.
وقابل هذا القول آخرون، وقالوا: يقع الطلاق فى الحال، وهذا مذهب مالك، وجماعة من
التابعين.



(14/100)








ص -173- وحجتهم أن قالوا: لو لم يقع فى الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت، وذلك
غير جائز فى الشرع، لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقاً غير مؤقت، ولهذا حرم
نكاح المتعة لدخول الأجل فيه، وكذلك وطء المكاتبة. ألا ترى أنه لو عرى من الأجل،
بأن يقول: إن جئتنى بألف درهم فأنت حرة، لم يمنع ذلك الوطء.
قال الموقعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء، فإن الشريعة
فرقت بينهما فى مواضع كثيرة، فإن ابتداء عقد النكاح فى الإحرام فاسد دون دوامه،
وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم
خوف العنت فاسد، دون دوامه، وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون
دوامه. ونظائر ذلك كثيرة جداً.
قالوا: والمعنى الذى حرم لأجله نكاح المتعة: كون العقد مؤقتا من أصله، وهذا العقد
مطلق، وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه، فلا يبطل، كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم
أنها تفعله، أو يفعله هو ولا بد، ولكن يجوز تخلفه.
والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجئ الوقت المعلوم ثلاثاً وقع فى الحال،
وإن كان رجعياً لم يقع قبل مجيئه، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، نص عليه فى
رواية مهنا: "إذا قال: أنت طالق ثلاثاً قبل موتى بشهر: هى طالق الساعة. كان
سعيد بن المسيب والزهرى لا يوقتون فى الطلاق". قال مهنا: فقلت له:
"أفتزوج هذه التى قال لها: أنت طالق ثلاثاً قبل موتى بشهر؟"، قال
"لا: ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت" هذا لفظه.
وهو فى غاية الإشكال، فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزاً، فكيف يمنعها من التزويج؟



(14/101)








ص -174- وقوله "يمسك عن الوطء أبدا" يدل على أنها زوجته إلا أنه لا
يطأها، وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق. فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها.
فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق، ومنعها من التزويج للخلاف فى ذلك فحرم
وطأها وهو أثر الطلاق، ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص.
ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثاً لم يحل وطؤها بعد الأجل. فيصير حال الوطء
مؤقتاً، وإن كان رجعياً جاز له وطؤها بعد الأجل. فلا يصير الحال مؤقتا، وهذا أفقه
من القول الأول.
والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجئ الأجل، وهو قول الجمهور. وإنما تنازعوا،
هل هو مطلق فى الحال، ومجئ الوقت شرط لنفوذ الطلاق، كما لو وكله فى الحال. وقال:
لا تتصرف إلى رأس الشهر فمجئ رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه، لا بحصول الوكالة، بخلاف
ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك. وهذا يفرق الشافعى بينهما. فيصحح الأولى
ويبطل الثانية، أو يقال: ليس مطلقاً فى الحال. وإنما هو مطلق عند مجئ الأجل، فيقدر
حينئذ أنه قال: أنت طالق. فيكون حصول الشرط وتقدير حصول: أنت طالق معاً. فعلى
التقدير الأول: السبب تقدم، وتأخر شرط تأثيره، وعلى التقدير الثانى: نفس السبب
تأخر تقدير إلى مجئ الوقت. وكأنه قال إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك: أنت
طالق فإذا جاء رأس الشهر قدر قائلاً لذلك اللفظ المتقدم.
فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة. فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير
وجودها مضافاً إلى الشرط، وقيل تحققه لم يكن المعلق عليه علة، بخلاف الوجوب. فإنه
ثابت قبل مجئ الشرط، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فالعلة للوقوع: التلفظ
بالطلاق، والشرط الدخول، وتأثيره فى امتناع وجود العلة قبله، فإذا وجد وجدت.
وأصحاب الشافعى يقولون: أثر الشرط فى تراخى الحكم، والعلة قد وجدت، وإنما تراخى
تأثيرها إلى وقت مجئ الشرط، فالمتقدم عله قد تأخر تأثيرها إلى



(14/102)








مجئ الشرط.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:12

ص -175- فصل
وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعى ومالك، فى إحدى الروايتين عنه: أن من شك هل
انتقض وضوءه أم لا؟ وجب عليه أن يتوضأ احتياطاً، ولا يدخل فى الصلاة بطهارة مشكوك فيها
فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء.
وقد قال الجمهور، منهم الشافعى، وأحمد، وأبو حنيفة، وأصحابهم، ومالك فى الرواية
الأخرى عنه: إنه لا يجب عليه الوضوء، وله أن يصلى بذلك الوضوء الذى تيقنه وشك فى
انتقاضه.
واحتجوا بما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم:
"إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فى بَطْنِهِ شَيْئاً فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ
مِنْهُ شَىْ أمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً
أَوْ يَجِدَ رِيحاً".
وهذا يعم المصلى وغيره.
وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابته فى ذمته بيقين، وهو يشك فى براءة الذمة
منها بهذا الوضوء، فإنه على تقدير بقائه هى صحيحة، وعلى تقدير انتقاضه باطلة، فلم
يتيقن براءة ذمته، ولأنه شك فى شرط الصلاة: هل هو ثابت أم لا؟ فلا يدخل فيها
بالشك.
والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك فى بطلانها فلا
يلتفت إلى الشك، ولا يزيل اليقين به، كما لو شك: هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة؟ فإنه
لا يجب عليه غسله، وقد دخل فى الصلاة بالشك.
ففرقوا بينهما بفرقين.
أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط. ولهذا لا يجب نيته، وإنما هو مانع، والأصل
عدمه، بخلاف الوضوء، فإنه شرط، وقد شك فى ثبوته، فأين هذا من هذا؟.
الثانى: أنه قد كان قبل الوضوء محدثاً، وهو الأصل فيه. فإذا شك فى بقائه كان ذلك
رجوعاً إلى الأصل. وليس الأصل فيه النجاسة، حتى نقول: إذا شك فى حصولها رجعنا إلى
أصل النجاسة، فهنا يرجع إلى أصل الطهارة، وهناك يرجع إلى أصل الحدث.



(14/104)








ص -176- قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة، فصارت هى الأصل، فإذا
شككنا فى الحدث رجعنا إليه، فأين هذا من الوسواس المذموم شرعاً، وعقلاً وعرفاً؟.
فصل
وأما قولكم: إن من خفى عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله: فليس هذا من
باب الوسواس، وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به. فإنه قد وجب عليه غسل جزء
من ثوبه ولا يعلمه بعينه، ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه.
فصل
وأما مسألة الثياب التى اشتبه الطاهر منها بالنجس، فهذه مسألة نزاع.
فذهب مالك، فى رواية عنه، وأحمد: إلى أنه يصلى فى ثوب بعد ثوب، حتى يتيقن أنه صلى
فى ثوب طاهر.
وقال الجمهور، ومنهم أبو حنيفة، والشافعى، ومالك، فى الرواية الأخرى: إنه يتحرى
فيصلى فى واحد منها صلاة واحدة، كما يتحرى فى القبلة.
وقال المزنى وأبو ثور: "بل يصلى عرياناً ولا يصلى فى شىء منها، لأن الثوب
النجس فى الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عجز عن السترة بثوب طاهر، فيسقط
فرض السترة"، وهذا أضعف الأقوال.
والقول بالتحرى هو الراجح الظاهر، سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل. وهو اختيار
شيخنا. وابن عقيل يفصل، فيقول: "إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة، وإن قل
عمل باليقين".
قال شيخنا: "اجتناب النجاسة من باب المحظورات، فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة
ثوب منها فصلى فيه، لم يحكم ببطلان صلاته بالشك، فإن الأصل عدم النجاسة، وقد شك
فيها فى هذا الثوب، فيصلى فيه، كما لو استعار ثوباً أو اشتراه ولا يعلم
حاله".



(14/105)








ص -177- وقول أبى ثور فى غاية الفساد. فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته
فيه خيراً وأحب إلى الله من صلاته عرياناً، بادى السوءة للناظرين.
وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم.
فصل
وأما مسألة اشتباه الأوانى فكذلك ليست من باب الوسواس.
وقد اختلف فيها الفقهاء اختلافاً متبايناً.
فقال أحمد: "يتيمم ويتركها، وقال مرة يريقها ويتيمم، ليكون عادماً للماء
الطهور بيقين".
وقال أبو حنيفة: "إن كان عدد الأوانى الطاهرة أكثر، تحرى، وإن تساوت أو كثرت
النجسة، لم يتحر". وهذا اختيار أبى بكر وابن شاقلاً والنجاد من أصحاب أحمد.
وقال الشافعى وبعض المالكية: "يتحرى بكل حال".
وقال عبد الملك بن الماجشون: "يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلى".
وقال محمد بن مسلمة من المالكية: "يتوضأ من أحدها ويصلى، ثم يغسل ما أصابه
منه، ثم يتوضأ من الآخر ويصلى".
وقالت طائفة- منهم شيخنا- يتوضأ من أيها شاء، بناء على أن الماء لا ينجس إلا
بالتغير، فتستحيل المسألة، وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها.
فصل
وأما إذا اشتبهت عليه القبلة، فالذى عليه أهل العلم كلهم: أنه يجتهد ويصلى صلاة
واحدة.



(14/106)








ص -178- وشذ بعض الناس فقال: يصلى أربع صلوات إلى أربع جهات، وهذا قول شاذ
مخالف للسنة، وإنما التزمه قائله فى مسألة اشتباه الثياب، وهذا ونحوه من وجوه
الالتزامات عند المضايق، طرداً لدليل المستدل مما لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها.
ونظيره: التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة، لما ألزمهم أصحاب أبى حنيفة
بذلك، قال بعضهم: نقول به.
ونظيره: إدراك الجمعة والجماعة بإدراك تكبيرة مع الإمام، لما ألزمت الحنفية من
نازعها فى ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم، وقال: نقول به.
فصل
وأما من ترك صلاة من يوم لا يعلم عينها، فاختلف الفقهاء فى هذه المسألة على أقوال.
أحدها: أنه يلزمه خمس صلوات. نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى حنيفة
وإسحاق، لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينا إلا بذلك.
القول الثانى: أنه يصلى رباعية ينوى بها ما عليه. ويجلس عقيب الثانية والثالثة
والربعة. وهذا قول الأوزاعى، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن مقاتل من الحنفية، بناء على
أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبى صلى الله تعالى وآله عليه وسلم، وبدون
السلام، وأن نية الفرضية تكفى من غير تعيين، كما فى الزكاة، ولا يضر جلوسه عقيب
الثالثة، إن كانت المنسية رباعية، لأنه زيادة من جنس الصلاة، لا على وجه العمد.
القول الثالث: أنه يجزيه أن يصلى فجراً، ومغربا ورباعية ينوى ما عليه. وهذا قول
سفيان الثورى، ومحمد بن الحسن.
ويخرج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفى من غير تعيين.
وقد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبى يُسأل: ما تقول فى رجل ذكر أن عليه صلاة لم
يعينها، فصلى ركعتين وجلس وتشهد، ونوى بها الغداة ولم يسلم، ثم قام فأتى بركعه
وجلس وتشهد ونوى بها المغرب، وقام ولم يسلم، وأتى برابعة ثم جلس، فتشهد ونوى بها
ظهراً أو عصراً أو عشاء الآخرة ثم سلم؟ فقال له أبى: "هذا يجزيه، ويقضى عنه
على مذهب العراقيين،



(14/107)








ص -179- لأنهم اعتمدوا فى التشهد على خبر ابن مسعود: "إذَا قُلْتَ هذَا
فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ".
وأما على مذهب صاحبنا أبى عبد الله الشافعى، ومذهبنا: لا يجزئ عنه، لأنا نذهب إلى
قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ".
ونذهب إلى الصلاة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيها"، وهذا
لفظه.
قال أبو البركات: "هذا من أحمد يبين أن قضاء الواحدة لا يجزيه، لتعذر التحليل
المعتبر لا لفوات نية التعيين، فإذا قضى ثلاثاً كما قال الثورى- اندفع المفسد-
وبكل حال فليس فى هذا راحة للموسوسين".
فصل
وأما من شك فى صلاته، فإنه يبنى على اليقين، لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك.
وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بالجرح أو بالماء؟ وتحريم أكله



(14/108)








ص -180- إذا خالط كلابه كلبا من غيره، فهو الذى أمر به رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم، لأنه قد شك فى سبب الحل، والأصل فى الحيوان التحريم. فلا
يستباح بالشك فى شرط حله، بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل. فإنه لا يحرم بالشك فى
سبب تحريمه كما لو اشترى ماء أو طعاماً، أو ثوباً لا يعلم حاله، جاز شربه وأكله
ولبسه. وإن شك هل تنجس أم لا؟ فإن الشرط متى سبق اعتباره، أو كان الأصل عدم
المانع، لم يلتفت إلى ذلك.
فالأول: كما إذا أتى بلحم لا يعلم: هل سمى عليه ذابحه أم لا؟. وهل ذكاه فى الحلق
واللبة، واستوفى شروط الذكاة أم لا؟ لم يحرم أكله، لمشقة التفتيش عن ذلك وقد قالت
عائشة رضى الله عنها:
"يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ نَاساً مِنَ الأعْرَابَ يَأْتُونَنَا بِالّلحْمِ، لا
نَدْرِى أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ
وَكُلُوا".
مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى.
والثانى كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس. فإن الأصل فيها الطهارة، وقد شك فى
وجود المتنجس، فلا يلتفت إليه.
فصل
وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر، وأبى هريرة رضى الله عنهما فشئ تفردا به، دون الصحابة
ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول: "إن
بى وسواساً فلا تقتدوا بى".
وظاهر مذهب الشافعى وأحمد: أن غسل داخل العينين فى الوضوء لا يستحب، وإن أمن
الضرر. لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فعله قط، ولا أمر
به، وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان، وعلى، وعبد الله بن زيد، والربُّيع بنت معوذ
وغيرهم، فلم يقل أحد منهم إنه غسل داخل عينيه. وفى وجوبه فى الجنابة روايتان عن
أحمد، أصحهما أنه لا يجب، وهو قول الجمهور. وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة،
وأولى لأن المضرة به أغلب لزيادة التكرار والمعالجة.



(14/109)








ص -181- وقالت الشافعية والحنفية: يجب، لأن إصابة النجاسة لهما تندر، فلا يشق
غسلهما منها.
وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، فأوجب غسلهما فى الوضوء. وهو قول لا يلتفت إليه
ولا يعرّج عليه. والصحيح أنه لا يجب غسلهما فى وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة.
وأما فعل أبى هريرة رضى الله عنه فهو شئ تأوله، وخالفه فيه غيره، ينكرونه عليه،
وهذه المسألة تلقب بمسألة إطالة الغرة، وإن كانت الغرة فى الوجه خاصة.
وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، وفيها روايتان عن الإمام أحمد.
إحداهما: يستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة والشافعى، واختارها أبو البركات ابن
تيمية وغيره.
والثانية: لا يستحب، وهى مذهب مالك، وهى اختيار شيخنا أبى العباس.
فالمستحبون يحتجون بحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ تَعَالى عَليْه وَآلِه وَسَلَّمَ: "أَنْتُمُ
الْغُرُّ المُحَجَّلونَ يوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمنِ
اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غرَّته وَتَحْجِيلَهُ" متفق عليه، ولأن
الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.
قال النافون للاستحباب: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إنّ
الله حَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا".
والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين، فلا ينبغى تعديهما، ولأن رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم لم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداهما، ولأن ذلك أصل
الوسواس ومادته، ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة، والعبادات مبناها على
الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ، وإلى الكتف.
وهذا مما لا يعلم أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا
مرة واحدة، ولأن هذا من الغلو، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "إياكمْ
وَالْغُلُوَّ فى الدَّينِ".
ولأنه تعمق، وهو منهى عنه، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة، فكره مجاوزته كالوجه.



(14/110)








ص -182- وأما الحديث فراويه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه نعيم المجمر. وقد
قال: "لا أدرى قوله: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، من قول رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو من قول أبى هريرة رضى الله عنه؟"، روى ذلك
عنه الإمام أحمد فى المسند.
وأما حديث الحلية، فالحليه المزينة ما كان فى محله، فإذا جاوز محله لم تكن زينة.
فصل
وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف
اتفق، وإلى آخره.
فلعمر الله إنهما لطرفاً إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان، وقد نهى الله
سبحانه وتعالى عن الأمرين فى غير موضع. كقوله:
{وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]. وَقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّهُ وَالمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذَّرْ تبذيرا} [الإسراء: 26]. وقوله: {وَالَّذِينَ
إذَا أَنْفقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً}
[الفرقان: 67]. وقوله {وَكُلُوا وَاشْرِبوا ولا تسرفوا إِنّهُ لا يُحِبُّ
المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] فدين الله بين الغالى فيه والجافى عنه. وخير الناس
النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد
جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين
المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط. والآفات إنما ينتظرون إلى
الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها. قال الشاعر:
كانَتْ هِىَ الوَسَطُ المَحْمِى، فَاكْتَنَفَتْ بهَا الحَوَادِثُ حَتَّى
أَصْبَحَتْ طَرَفَا
فصل
ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى
فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور. حتى آل الأمر
فيها إلى



(14/111)








ص -183- أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانا، وبنيت
عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت
أصناما، وعبدت مع الله تعالى.
وكان أول هذا الداء العظيم فى قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم فى كتابه، حيث يقول:
{قَالَ نُوحٌ رَب إنهم عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا وَمَكرُوا مَكْرًا كبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 21-24]. قال ابن جرير: "وكان من خبر هؤلاء
فيما بلغنا ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: أن
يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بنى آدم. وكان لهم أتباع يقتدون بهم،
فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورّناهم كان أشوق لنا إلى
العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما
كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم". قال سفيان عن أبيه عن عكرمة
قال: "كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام".
حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فى هذه الآية قال:
"كانت آلهة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان ودّ لكلب بدومة
الجندل، وكان سواع لهذيل. وكان يغوث لبنى غطيف من مراد. وكان يعوق لهمدان. وكان نسر
لذى الكلاع من حمير". وقال الوالبى، عن ابن عباس: "هذه أصنام كانت تعبد
فى زمان نوح عليه السلام".
وقال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن
عباس: "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب بعد. أما ود فكانت لكلب
بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبنى غطيف بالجرف
عند سبأ. وأما يعوق فكانت



(14/112)








لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير لآل ذى الكلاع،


(14/113)








ص -184- أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن
انْصُبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم
تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسى العلم، عبدت".
وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما
ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. وهما الفتنتان اللتان
أشار إليهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث المتفق على صحته
عن عائشة رضى الله عنها:
"أَنَّ أُمَّ سَلمَةَ رَضىَ اللهُ عَنْهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ تَعالى عليهِ وَآلِه وَسلمَ كَنِيسَة رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ،
يُقَالُ لهَا: مَارِيَة. فَذَ كَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسَلّم: أُولِئكَ قَوْمٌ إذَا
مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى
قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئكَ شِرَارُ
الْخَلقِ عِنْدَ اللهِ تَعالَى".
وفى لفظ آخر فى الصحيحين:
"أنَّ أُمَّ حَبيبَةَ وَأُمَّ سَلمَةَ ذَكَرَتَا كنَيِسَةً
رَأَيْنَهَا".
فجمع فى هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات.
فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد:
{أفَرَأيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]. قال: "كان يلت لهم السويق.
فمات، فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضى الله عنهما:
"كان يلت السويق للحاج".
فقد رأيت أن سبب عبادة وَدّ ويغوث ويعوق ونسراً واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم
ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبى صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم.
قال شيخنا: "وهذه العلة التى لأجلها نهى



(14/114)








الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هى التى أوقعت كثيراً من الأمم إما فى
الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم
الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذى
يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً
يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة



(14/115)








ص -185- لا يفعلونها فى بيوت الله، ولا وقت السحر. منهم من يسجد لها. وأكثرهم
يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه فى المساجد. فلأجل هذه المفسدة
حسم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة فى المقبرة
مطلقا، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما
نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها
للشمس. فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد المصلى ما قصده المشركون، سدا
للذريعة".
قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة فى تلك البقعة، فهذا
عين المخادعة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى.
فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن
أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها.
وقد تواترت النصوص عن النبى عليه الصلاة والسلام بالنهى عن ذلك والتغليظ فيه. فقد
صرح عامة الطوائف بالنهى عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة
الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعى بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت
الكراهة. والذى ينبغى أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن
بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن فاعله
والنهى عنه. ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال:
سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَآله وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ
يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ
اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً،
وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ



(14/116)








أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ
قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلاَ تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ،
فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ
تعالى عليه وآله وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا
اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ



(14/117)








ص -186- وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا
صَنَعُوا" متفق عليه.
وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم قالَ: "قَاتَلَ اللهُ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق من فعل ذلك
من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ فى
مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ
غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه.
وقولها: "خشى" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره.
وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ
تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ
مَسَاجدَ".
وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لَعَنَ
اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ" رواه الإمام
أحمد.
وعن ابن عباس قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عَليْه وسَلمَ
زَائرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ"
رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر،
فقال: القبر، القبر. وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم
ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة



(14/118)








عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم
يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه. فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه.
وقال أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم: "الأرْضُ كُلهَا مَسْجِدٌ إِلا الْمَقبَرَةَ وَالْحَمامَ".
رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة، وصححه أبو حاتم بن حبان



(14/119)








ص -187- وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين
المصلى وبين القبلة.
فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم قال:
"لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا".
وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن
مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله
المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور
أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور
الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن
الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. ولو كان ذلك لأجل
النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
ومنها: أن موضع مسجده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان مقبرة للمشركين، فنبش
قبورهم وسواها واتخذه مسجداً: ولم ينقل ذلك التراب، بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه،
كما ثبت فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال:
"لَمّا قَدِمَ النبىُّ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلم المدِينَة فَنزَلَ
بأَعْلَى المدِينَةِ فى حَىّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فأَقَامَ
النّبىُّ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ فيهِمْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً،
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى مَلاء بَنىِ النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلدِى السُّيُوفَ،
وَكَأَنى أَنْظُرُ إِلى النَّبى صلّى اللهُ عليْه وسلّم عَلَى رَاحِلَتهِ، وأبو
بكر رِدفَهُ، ومَلأُ بَنِى النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حتى أَلْقَى بِفناءِ أبي
أَيُّوبَ.



(14/120)








وكان يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّىَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلّى فى
مَرَابضِ الْغَنمِ، وَأنّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فأَرْسَلَ إِلى مَلإٍ
بَنى النَّجّارِ، فَقَالَ: يَا بنِى النجّارِ، ثَامِنُونى بحَائِطِكُمْ هذَا.
قَالُوا: لا واللهِ، مَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إلى اللهِ



(14/121)








ص -188- فكَانَ فيه ما أقُولُ لكُمْ: قُبُورُ المُشْرِكِينَ. وفيه خَرِبٌ.
وفيه نخْل. فأمَرَ النّبىُّ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وَاله وسلّم بِقُبُورِ
المشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخْرِبِ فَسُويَتْ. وَبالنَّخْلِ فَقُطِعَ.
فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجّعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ.
وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ. وهم يَرْيَجِزُونَ، وذكر الحديث".
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة
الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر
ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك
ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل
منها فى المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. فأين التعليل بنجاسة
البقعة من هذه المفسدة؟ ومما يدل على أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قصد منع
هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها
المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعاً.
ومنها: أنه قرن فى اللعن بين متخذى المساجد عليها وموقدي السرج عليها. فهما فى
اللعنة قرينان. وفى ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه
وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ
المساجد عليها. ولهذا قرن بينهما. فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض
للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالي عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم
قالوا: {لَنَتَّخذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21]. ومنها: أنه صلى الله



(14/122)








تعالى عليه وآله وسلم قال:
"اللهُمَّ لا تجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً يُعْبَدُ. اشْتَدَّ غَضبُ اللهِ عَلَى
قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
فذكره ذلك عقيب قوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" تنبيه منه على سبب
لحوق اللعن لهم. وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد.



(14/123)








ص -189- وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه
باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم"
ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه،
واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم فى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
فإن هذا وأمثاله من النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صيانة لحمى التوحيد أن
يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا
معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ
والصالحين. وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن
أعدائهم أبعد.
ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على
عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن فى
طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم التى أنزلهم الله إياها:
من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم. وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.
فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم فى صورة التعظيم لهم. قال الشافعى:
"أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده
من الناس".
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرم فى كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه
فقال- بعد أن ذكر حديث أبى سعيد أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"جعلت لى الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام" وحديث زيد بن جبير عن داود
بن الحصين عن نافع عن ابن عمر: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نهى
عن الصلاة فى سبع مواطن، وذكر منها المقبرة" قال الأثرم: إنما كرهت الصلاة فى
المقبرة للتشبه بأهل الكتاب، لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد".



(14/124)








ص -190- فصل
ومن ذلك اتخاذها عيداً.
والعيد: ما يعتاد مجيئه وقصده: من مكان وزمان.
فأما الزمان، فكقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَوْمُ عَرَفَةَ
وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأيَّامُ مِنًى، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ". رواه أبو
داود وغيرهُ.
وأما المكان، فكما روى أبو داود فى سننه أن رجلا قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنى
نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فقالَ: أَبِها وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ
المُشْرِكِينَ، أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْياَدِهِمْ؟ قالَ: لا. قال: فَأَوْفِ
بِنَذْرِكَ" وكقوله: "لا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا".
والعيد: مأخوذ من المعاودة، والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذى بقصد
الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة، أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام، ومنى، ومزدلفة،
وعرفة، والمشاعر، جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء، ومثابة، كما جعل أيام التعبد
فيها عيدا.
وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء
منها عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية
بالكعبة البيت الحرام، وعرفة، ومنى، والمشاعر.



(14/125)








ص -191- فاتخاذ القبور عيداً هو من أعياد المشركين التى كانوا عليها قبل
الإسلام، وقد
نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى سيد القبور، منبها به على
غيره.
فقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرنى ابن أبى
ذئب عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم:
"لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيداً،
وَصَلُّوا عَلَىَّ فإِنَّ صلاَتَكُمْ تَبْلُغُنىِ حَيْثُ كَنْتُمْ".
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهذا إسناد حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير.
وقال أبو يعلى الموصلى، فى مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا زيد ابن
الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم، من ولد ذى الجناحين، حدثنا على بن عمر عن أبيه عن
على بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبى صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبى عن
جدى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ قال: "لا تتخذوا قبرى عيدا،
ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغنى أينما كنتم" رواه أبو عبد الله محمد
بن عبد الواحد المقدسى فى مختاراته.
وقال سعيد بن منصور فى السنن: حدثنا حبان بن على، حدثنى محمد بن عجلان عن أبى سعيد
مولى المُهْرى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تتخذوا
بيتى عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى".
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرنى سهيل بن أبى سهيل قال: رآنى الحسن بن
الحسن بن على بن أبى طالب عند القبر، فنادانى، وهو فى بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم
إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالى رأتيك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبى
الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى
الله



(14/126)








تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تتخذوا بيتى عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم
مقابر، لعن



(14/127)








ص -192- الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا على فإن
صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج
به من أرسله به، وذلك يقتضى ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير
هذين، فكيف وقد تقدم مسندا؟.
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: "ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فقبر غيره
أولى بالنهى كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله "ولا تتخذوا بيوتكم
قبوراً" أى لا تعطلوها من الصلاة فيها، والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة
القبور. فأمر بتحرى النافلة فى البيوت، ونهى عن تحرى العبادة عند القبور، وهذا ضد
ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم، ثم إنه عقب النهى عن اتخاذه عيداً بقوله:
"وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم" يشير بذلك إلى أن ما ينالنى
منكم من الصلاة والسلام تحصل مع قربكم من قبرى وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه
عيداً".
وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود
بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهى
أن يجعل كالعيد الذى إنما يكون فى العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه
بمنزلة العيد الذى يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت.
وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التدليس والتلبيس،
بعد التناقض. فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد
أمر ملازمة إتيانه بقوله: "لا تجعلوا عيداً" فهو إلى التلبيس وضد البيان
أقرب منه إلى الدلالة والبيان. فإن لم يكن هذا تنقيصاً فليس للتنقيص حقيقة فينا،
كمن



(14/128)








يرمى أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه برئ، ولا
ريب أن ارتكاب كل كبيرة، بعد الشرك، أسهل إثما، وأخف عقوبة من تعاطى مثل ذلك فى
دينه وسنته. وهكذا



(14/129)








ص -193- غيرت ديانات الرسل. ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان
الذابين عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله.
ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن
اتخاذ. قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك. فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد
الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها واتيانها، ولا
تجعل كالعيد الذى يجئ من الحول إلى الحول؟ وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا
يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: "ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشى أن يتخذ
مسجداً"؟ وكيف يقول: "لا تجعلوا قبرى عيداً، وصلوا على حيثما
كنتم"؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال، الذين
جمعوا بين الشرك والتحريف؟
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين رضى الله عنهما نهى ذلك الرجل أن
يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، واستدل بالحديث. وهو الذى
رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده على رضى الله عنه، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء
الضلال. وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن، شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا
لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.
قال شيخنا: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرب النسب، وقرب الدار؟ لأنهم إلى ذلك
أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط.
فصل
ثم إن فى اتخاذ القبور أعياداً من المفاسد العظيمة التى لا يعلمها إلا الله تعالى
ما يغضب لأجله كل من فى قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح
للشرك.
وَلكِنْ مَا لِجُرْحٍ بمَيتٍ إِيَلامُ



(14/130)








ص -194- فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها
واستلامهاً، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم
النصر والرزق والعافية، وقضاء الْديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك
من أنواع الطلبات، التى كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من
مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم
بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا فى الربح على الحجيج،
فاستغاثوا بمن لا يبدى ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا
عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين،
فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة
وخسرانا، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات،
ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوى الفاقات، ومعافاة
أولى العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت
الحرام، الذى جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا فى التقبيل والاستلام،
أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه
والخدود، التى يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه فى السجود. ثم كملوا مناسك حج
القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند
الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين. وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير
الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً
وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج
المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام.
هذا، ولم نتجاوز



(14/131)








فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم. إذ هى فوق ما يخطر
بالبال، أو يدور فى الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام فى قوم نوح، كما تقدم.
وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا
المحظور،



(14/132)








ص -195- وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يئول إليه، وأحكم فى نهيه
عنه وتوعده عليه. وأن الخير والهدى فى اتباعه وطاعته، والشر والضلال فى معصيته
ومخالفته.
ورأيت لأبى الوفاء بن عقيل فى ذلك فصلاً حسناً، فذكرته بلفظه، قال: "لما صعبت
التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها
لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندى كفار بهذه
الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران
وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاى افعل بى كذا
وكذا. وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور. وشد الرحال إليها، وإلقاء
الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد
الكف، ويتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء. ولم يقل الحمالون على جنازته:
الصديق أبو بكر، أو محمد وعلى، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجر، ولم
يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر". انتهى.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى القبور، وما أمر به
ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً
للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً.
فنهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون
عندها.
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت
الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ أعياداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم
للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، كما روى مسلم فى صحيحه عن أبى الهياج الأسدى قال: قال على



(14/133)








ص -196- بن أبى طالب رضى الله عنه: "أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى
عليهِ رَسُولُ صلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وَسلّم أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالاً
إِلا طَمَسْتَهُ، وَلا قَبْرًا مُشْرِفاً إِلا سَوَّيْتَهُ".
وفى صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شُفَى قال: "كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم
برودس. فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون فى مخالفة هذين الحديثين.
ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب".
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم فى صحيحه عن جابر قال:
"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ
الْقَبْرِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِنَاءٌ".
ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود والترمذى فى سننهما عن جابر رضى الله عنه
أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نَهَى أنْ تُجَصَّصَ
الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا".
قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهؤلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:13

ص -199- ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم
عليه والاستغفار له.
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التى شرعها الله تعالي على لسان رسوله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التى شرعها لهم
الشيطان، واختر لنفسك.
قالت عائشة رضى الله عنها: "كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله تعالى عليهِ وَآلهِ
وَسلم كُلّمَا كانَ لَيْلَتُهَا مِنْهُ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ الّليْلِ إِلَى
الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ
مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ
الّلهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقيع الغَرْقَدِ" رواه مسلم.
وفى صحيحه عنها أيضاً: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إنّ رَبّكَ
يأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَتْ:
قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: قُولِى: السَّلامُ عَلَى
أَهْلِ الديَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ
المُسْتَقْدَمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخَرِينَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ
لَلاحِقُونَ".
وفى صحيحه أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى
اللهُ تعَالى عليه وَآلهِ وسلمَ يُعَلمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ أَنْ
يَقُولُوا: السَّلامُ عَلَى أهل الديَارِ".
وفى لفظ: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله
بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية".
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كُنْتَ
نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَمنْ أرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ،
وَلا تَقُولُوا هُجْرًا" رواه أحمد والنسائى.



(14/140)








ص -200- وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد نهى الرجال عن زيارة
القبور، سدا للذريعة، فلما تمكن التوحيد فى قلوبهم أذن لهم فى زيارتها على الوجه
الذى شرعه ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذى يحبه
الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً
وفعلاً.
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم:
"زُورُوا القُبُورَ، فَإِنّهَا تذكرُ المَوْتَ".
وعن على بن طالب رضى الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
قال: "إِنى كُنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا
فَإِنّهَا تُذكرُكُمُ الآخِرَةَ" رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: "مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ
تَعالى عليهِ وآلهِ وسلمَ بِقُبُورِ المَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ
بِوَجْهِهِ، فقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ
لَنَا وَلَكُمْ، وَنَحْنُ بِالأَثَرِ" رواه أحمد، والترمذى وحَسَّنه.
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزوروا القُبُورَ،
فَإِنّهَا تُزَهدُ فى الدُّنْيَا، وَتُذَكرُ الآخِرَةَ" رواه ابن ماجه.
وروى الإمام أحمد عن أبى سعيد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم: "كٌنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزَورُوهَا
فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً".
فهذه الزيارة التى شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأمته، وعلمهم
إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم
عليه من كل وجه؟.
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح
أولها. ولكن كلما



(14/141)








ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من
البدع والشرك".
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على



(14/142)








ص -201- النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم أراد الدعاء، استقبل القبلة،
وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا.
فقال سلمة بن وردان: "رأيت أنس بن مالك رضى الله عنه يسلم على النبى صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو".
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند
القبر، فإن الدعاء عبادة.
وفى الترمذى وغيره مرفوعاً. "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ".
فجرد السلف العبادة الله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من السلام على أصحابها والاستغفار لهم، والترحم
عليهم.
وبالجملة. فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له. ولهذا شرع فى
الصلاة عليه من الدعاء له، وجوباً واستحباباً، ما لم يشرع مثله فى الدعاء للحى.
قال عوف بن مالك: "صَلّى رسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وسّلَم عَلَى
جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِه وَهُوَ يَقُولُ: "اللّهُمَّ اغْفِرْ
لَهُ وَارْحمهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسعْ
مَدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقهِ مِنَ
الْخَطَايَا كما نَقّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ
دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أهْلِه، وَزَوْجًا خَيْرًا
مِنْ زَوْجِهِ. وَأَدْخِلْهُ الجنة، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، أوْ مِنْ
عَذَابِ النَّارِ. حتى تمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا المَيتُ، لِدُعَاءِ رَسُولِ
اللهِ صلّى الله تَعَالَى عليهِ وآلهِ وسلم عَلَى ذلِكَ المَيتِ" رواه مسلم.
وقال أبو هريرة رضى الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
يقول فى صلاته على الجنازة:
"الّلهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا وَأنْتَ هَدَيْتَهَا
لِلإِسْلاَمِ، وَأنْتَ



(14/143)








قَبَضْتَ روُحَهَا وَأنْتَ أعْلَمُ بِسِرهَا وَعَلانِيَتِهَا جِئْنَا
شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهُ" رواه الإمام أحمد.
وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم قال:
"إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الميت فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ".
وقالت عائشة، وأنس عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا مِنْ مَيتٍ
يُصَلى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ
يَشْفَعُونَ لَهُ، إلاّ شفعوا فِيهِ". رواه مسلم



(14/144)








ص -202- وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا
يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه" رواه مسلم.
فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له والاستغفار، والشفاعة فيه.
ومعلوم أنه فى قبره أشد حاجة منه على نعشه. فإنه حينئذ معرَّض للسؤال وغيره.
وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول:
"سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ".
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به،
ونشفع له، لا نشفع به. فبعد الدفن أولى وأحرى.
فبدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذى قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه،
والشفاعة له بالاستشفاع به. وقصدوا بالزيارة التى شرعها رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم إحساناً إلى الميت وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال
الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذى هو مخ العبادة،
وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه فى المساجد، وأوقات الأسحار.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى، أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعاً وعملاً
صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
فهذه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى أهل القبور بضعاً وعشرين
سنة، حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة
والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتى عن أحد منهم بنقل صحيح،
أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا
عندها، وتمسحوا بها، فضلا أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم
حوائجهم.



(14/145)








فليوقفوا على أثر واحد: أو حرف واحد مى ذلك، بلى، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف
التى خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد، كان ذلك أكثر، حتى
لقد وجد فى ذلك عدة



(14/146)








ص -203- مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا عن
خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما
قدمناه من الأحاديث المرفوعة.
وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها. وقد ذكرنا إنكار عمر رضى الله عنه على
أنس رضى الله عنه صلاته عند القبر. وقوله له: القبر، القبر.
وقد ذكر محمد بن إسحاق فى مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبى خلدة خالد بن
دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا فى بيت مال
الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر
بن الخطاب رضى الله عنه، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية. فأنا أول رجل من العرب
قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبى العالية: ما كان فيه؟ قال سيرتكم
وأموركم ولحون كلامكم. وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا
بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها، لنعميه
على الناس لا ينبشونه، فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم
أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال،
فقلت: مُذْ كم وجدتموه مات؟ قال: مذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شىء؟ قال:
لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها
السباع" ففى هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره



(14/147)








ص -204- لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به
المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور
أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من
المساجد.
فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحاً،
لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم
ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التى خلفت بعدهم، وكذلك التابعون
لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله
تعالى وآله وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر
صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استشفى به، ولا استسقى به، ولا
استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله، بل على نقل
ما هو دونه.
وحينئذ، فلا يخلو، إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه فى غير تلك
البقعة، أولا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفى علما وعملا على الصحابة والتابعين
وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف
علما وعملاً؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير لا سيما
الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين فى
كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً
وشرعاً.
فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه
بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا
مما لا يشرعه الله ورسوله البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها
الله، ولم ينزل بها سلطاناً.
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.
فروى غير واحد عن المعرور بن



(14/148)








سويد قال: "صليت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى طريق مكة صلاة الصبح،
فقرأ فيها:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعلَ رَبُّكَ بِأَصْحابَ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لإِيلاَفِ
قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: "أين يذهب هؤلاء؟"، فقيل: يا أمير
المؤمنين، مسجد صلى فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فهم يصلون فيه،
فقال:



(14/149)








ص -205- "إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا. كانوا يتبعون آثار أنبيائهم،
ويتخذونها كنائس وبيعاً. فمن أدركته الصلاة منكم فى هذه المساجد فليصل، ومن لا
فليمض، ولا يتعمدها"، وكذلك أرسل عمر رضى الله تعالى عنه أيضاً فقطع الشجرة
التى بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
بل قد أنكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الصحابة لما سألوه أن
يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها.
فروى البخارى فى صحيحة عن أبى واقد الليثى قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم قبل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون
حولها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول
الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبى صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم:
"اللهُ أَكْبَرُ، هذَا كما قَالَتْ بَنُو إِسْرَائيلَ: {اجْعَلَ لَنَا إِلهاً
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]
لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبْلَكُمْ". فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق
الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها، ولا
يسألونها. فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده؟ فأى نسبة
للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون.
قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة
يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قِبلها، ويضربون بها المسامير
والخرق، فهى ذات أنواط، فاقطعوها.
ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم فى
هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين
المشرق والمغرب، وأنهم على شىء والسلف على شىء، كما قيل:



(14/150)








سَارَتْ مُشَرقَة وَسِرْتُ مُغَرباً شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرقٍ وَمُغَربِ
والأمر والله أعظم مما ذكرنا.



(14/151)








ص -206- وقد ذكر البخارى فى الصحيح عن أم الدرداء رضى الله عنها قالت:
"دخل على أبو الدرداء مغضباً، فقلت له: مالك؟"، فقال: "والله ما
أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، إلا أنهم يصلون
جميعا".
وروى مالك فى الموطأ عن عمه أبى سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: "ما أعرف
شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، يعنى الصحابة رضى الله
عنهم".
وقال الزهرى: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكى، فقلت له: ما
يبكيك؟"، فقال: "ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة. وهذه الصلاة
قد ضيعت". ذكره البخارى.
وفى لفظ آخر: "ما كنت أعرف شيئاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم إلا قد أنكرته اليوم".
وقال الحسن البصرى: "سأل رجل أبا الدرداء رضى الله عنه فقال: رحمك الله، لو
أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين أظهرنا، هل كان ينكر شيئاً مما
نحن عليه؟ فغضب، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟".
وقال المبارك بن فضالة: "صلى الحسن الجمعة وجلس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا
أبا سعيد؟ فقال: "تلوموننى على البكاء، ولو أن رجلاً من المهاجرين اطلع من
باب مسجدكم ما عرف شيئاً مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه".
وهذه هى الفتنة العظمى التى قال فيها عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "كيف
أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجرى على الناس،
يتخذونها سنة إذا غيرت قيل: غيرت السنة، أو هذا منكر".
وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا التفات إليه.
فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبى الدرداء وأنس كما تقدم.
وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثنى محمد بن عبيد بن ميمون، حدثنى عبد الله



(14/152)








ص -207- بن إسحاق الجعفرى قال: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة،
قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان فى المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد
الله: "أرأيت إن كثر الجهال، حتى يكونواً هم الحكام، فهم الحجة على
السنة؟"، فقال ربيعة: "أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء".
فصل
ومن أعظم مكايده: ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام، التى هى من عمله، وقد أمر
الله تعالى باجتناب ذلك، وعلق الفلاح باجتنابه، فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخْمرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ
وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. فالأنصاب: كل ما نصب يعبد من دون الله: من حجر، أو
شجر، أو وثن، أو قبر. وهى جمع، واحدها نصب، كطنب وأطناب.
قال مجاهد: وقتادة، وابن جريج: "كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية
يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا:
وليست بأصنام، إنما الصنم ما يصور وينقش".
وقال ابن عباس: "هى الأصنام التى يعبدونها من دون الله تعالى".
وقال الزجاج: "حجارة كانت لهم يعبدونها، وهى الأوثان".
وقال الفراء: "هى الآلهة التى كانت تعبد، من أحجار وغيرها".



(14/153)








ص -208- وأصل اللفظة: الشئ المنصوب الذى يقصده من رآه، ومنه قوله تعالى:
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]. قال ابن عباس: إلى غاية، أو علم يسرعون.
وهو قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن: "يعنى إلى أنصابهم، أيهم يستلمها أوّلا".
قال الزجاج: "وهذا على قراءة من قرأ "نصب" بضمتين، كقوله: {وَمَا
ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. قال: ومعناه: أصنام لهم".
والمقصود: أن النصب كل شئ نصب من خشبة، أو حجر، أو علم. والإيفاض الإسراع.
وأما الأزلام. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: "هى قداح كانوا يستقسمون بها
الأمور. أى يطلبون بها علم ما قسم لهم".
وقال سعيد بن جبير: "كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو، أو يجلس استقم
بها".
وقال أيضاً: "هى القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية فى أمورهم.
أحدهما عليه مكتوب: أمرنى ربى، والآخر: نهانى. فإذا أرادوا أمرا ضربوا بها، فإن
خرج الذى عليه أمرنى فعلوا ما هموا به. وإن خرج الذى عليه نهانى تركوه".
وقال أبو عبيد: "الاستقسام: طلب القسمة".
وقال المبرد: "الاستقسام: أخذ كل واحد قسمه".
وقيل: الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح، كقسم اليمين.
وقال الأزهرى: "وأن تستقسموا بالأزلام: أى تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم
من أحد الأمرين".
وقال أبو إسحاق الزجاج وغيره: "الاستقسام بالأزلام حرام".
ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم
كذا، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان:
34].



(14/154)








ص -209- وذلك دخول فى علم الله عز وجل الذى هو غيب عنا. فهو حرام كالأزلام
التى ذكرها الله تعالى.
والمقصود: أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام. فالأنصاب للشرك والعبادة،
والأزلام للتكهن، وطلب علم ما استأثر الله به. هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله
سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا، والذى جاء به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم إبطالهما، وكسر الأنصاب والأزلام.
فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين: من شجرة، أو عمود أو وثن، أو قبر أو
خشبة، أو غير ذلك. والواجب هدم ذلك كله، ومحو أثره كما أمر النبى صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم عليا رضى الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض. كما روى
مسلم فى صحيحه عن أبى الهياج الأسدى. قال: قال لى على رضى الله عنه:
"أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ تعالِى عليه
وآله وسلم؟ أَنْ لا أَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إِلا
سَوَّيْتُهُ".
وعمى الصحابة بأمر عمر رضى الله عنه قبر دانيال، وأخفوه عن الناس. ولما بلغه أن
الناس ينتابون الشجرة التى بايع تحتها رسول الله صلى الله تعالى عليه



(14/155)








ص -210- وآله وسلم أصحابه أرسل فقطعها. رواه ابن وصاح فى كتابه فقال: سمعت
عيسى بن يونس يقول: "أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقطع الشجرة التى بويع
تحتها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقطعها، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون
تحتها فخاف عليهم الفتنة".
قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع: "أن الناس كانوا يأتون
الشجرة، فقطعها عمر رضى الله عنه".
فإذا كان هذا فعل عمر رضى الله عنه بالشجرة التى ذكرها الله تعالى فى القرآن،
وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فماذا حكمه فيما عداها
من هذه الأنصاب والأوثان، التى قد عظمت الفتنة بها، واشتدت البلية بها؟.
وأبلغ من ذلك: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هدم مسجد الضرار.
ففى هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور. فإن
حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها، حتى تسوى بالأرض، وهى أولى بالهدم من مسجد الضرار.
وكذلك القباب التى على القبور يجب هدمها كلها، لأنها أسست على معصية الرسول، لأنه
قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم. فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير
محترم. وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً.
وقد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بهدم القبور المشرفة كما تقدم.
فهدم القباب والبناء والمساجد التى بنيت عليها أولى وأحرى، لأنه لعن متخذى المساجد
عليها ونهى عن البناء عليها فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله
تعالى عليه وآله وسلم فاعله ونهى عنه. والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من
ينصرهما ويذب عنهما. فهو أشد غيرة وأسرع تغييراً.
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، وطفيه. فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول
الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه.



(14/156)








ص -211- قال الإمام أبو بكر الطرطوشى: "انظروا رحمكم الله أينما وجدتم
سدرة، أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون
بها المسامير والخرق، فهى ذات أنواط، فاقطعوها".
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث
والبدع: "ومن هذا القسم ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق
الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكى لهم حاك أنه رأى فى منامه بها
أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله،
وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن فى
قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهى من بين
عيون، وشجر وحائط، وحجر. وفى مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة. كعوينة الحمى خارج
باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب
النصر، فى نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات
أنواط التى فى الحديث"، ثم ساق حديث أبى واقد:
"أَنّهُمْ مَرُّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عليهِ وآلهِ وَسلم
بِشَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ خَضْرَاءَ يقالُ لهَا: ذَات أَنْوَاطٍ، فقَالوا: يَا رَسُولَ
اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْواطٍ كَما لَهُمْ ذَات أَنْواطٍ. فقَالَ النَّبىُّ
صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ
لَنَا إٍلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة. قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ،
لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". قال الترمذى: هذا حديث حسن
صحيح.
ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية: "أنه كان إلى جانبه عين تسمى
عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، فمن تعذر عليه نكاح،
أو ولد، قال: امضوا بى إلى العافية، فيعرف



(14/157)








فيها الفتنة، فخرج فى السحر فهدمها، وأذن للصبح عليها، ثم


(14/158)








ص -212- قال: اللهم إنى هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس
إلى الآن".
وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام
وحزب الله الموحدين، كالعمود المخلق، والنصب الذى كان بمسجد النارنج عند المصلى
يعبده الجهال، والنصب الذى كان تحت الطاحون الذى عند مقابر النصارى ينتابه الناس
للتبرك به، وكان صورة صنم فى نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله سبحانه
النصب الذى كان عند الرحبة يسرج عنده، ويتبرك به المشركون. وكان عموداً طويلاً على
رأسه حجر كالكرة. وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير، يعبده المشركون
يسر الله كسره.
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن
هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، أى تقبل العبادة من دون الله
تعالى، فإن النذر عبادة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك
النصب، ويستلمونه. ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذى أمر الله تعالى أن
يتخذ منه مصلى، كما ذكر الأزرقى فى كتاب تاريخ مكة عن قتادة فى قوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125]. قال: "إنما
أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته
الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى
اخلولق".
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أنصاب القبور، وهى أصل فتنة عبادة الأصنام كما
قاله السلف من الصحابة والتابعين، وقد تقدم.
ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا
يعبد من دون الله، ثم يوحى إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته، واتخاذه عيدا، وجعله
وثنا فقد تنقصه وهضم حقه. فيسعى الجاهلون المشركون فى قتله وعقوبته ويكفرونه.
وذنبه عند أهل الإشراك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه



(14/159)








عما نهى الله عنه ورسوله: من جعله وثنا وعيدا، وإيقاد السرج عليه، وبناء
المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، والدعاء به أو
السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه
مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد لله



(14/160)








ص -213- وأن لا يعبد إلا الله. فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت
قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر. ويسرى
ذلك فى نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل
التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم. ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا
أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك. فما كانوا أولياءه، وإن
أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا
المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم،
ويبغونها عوجاً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فصل
ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم، صراط أهل نعمته ورحمته
وكرامته أن النهى عن اتخاذ القبور أوثانا وأعياداً وأنصابا، والنهى عن اتخاذها
مساجد، أو بناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها، والنذر لها،
واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الجباه في عرصاتها: غض من أصحابها، ولا تنقيص لهم،
ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال. بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم،
ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه. فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقهم
وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم. وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم
ومتابعتهم. كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى عليهما السلام، والرافضة مع على
رضى الله عنه. فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم
أولياء بعض. والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض.
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على
القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه.
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هى باتباع ما دعو إليه من العلم النافع
والعمل الصالح، واقتفاء



(14/161)








آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعياداً.


(14/162)








ص -214- فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته
الناس إلى اتباعهم، فإذا أعرض عما دعوا إليه، واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك
الأجر. فأى تعظيم لهم واحترام فى هذا؟.
وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة التى يكرهها الله ورسوله
لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة
منه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفاً بما اشتملت عليه من
الكلام الطيب والعمل الصالح، مهتما بها كل الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر
فيها أو فى بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك.
ومن أصغى إلى كلام الله بقلبه، وتدبره وتفهمه أغناه عن السماع الشيطانى الذى يصد
عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق فى القلب. وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث
الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بكليته، وحدث نفسه باقتباس الهدى والعلم
منه، لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات، التى هى
وساوس النفوس وتخيلاتها.
ومن بعد عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة
الله تعالى وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه: أغناه ذلك عن محبة غيره
وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور. وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه،
أى شئ استحسنه ملكه واستعبده.
فالمعرض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضال، شاء أم أبى،
والمعرض عن محبة الله وذكره عبدُ الصُّورَ، شاء أم أبى، والله المستعان، وعليه
التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
فصل
فإن قيل: فما الذى أوقع عباد القبور فى الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات،
لا يملكون لهم ضرا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟
قيل: أوقعهم فى ذلك أمور:
منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع



(14/163)








أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك. ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن


(14/164)








ص -215- عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل،
وعصموا بقدر ما معهم من العلم.
ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول
الله صلى الله تعالى وآله وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث: "إذا أعيتكم
الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر
نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التى هى مناقضة لدين الإسلام. وضعها المشركون
وراجت على أشباههم من الجهال الضلال. والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار،
وجنب أمته الفتنة بكل طريق كما تقدم.
ومنها: حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلانى فى شدة
فخلص منها. وفلاناً دعاه به فى حاجة فقضيت له. وفلانا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك
القبر فكشف ضره. وعند السدنة والمقابرية من ذلك شىء كثير يطول ذكره. وهم من أكذب
خلق الله تعالى على الأحياء والأموات. والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة
ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترتاق مجرب. والشيطان له تلطف فى الدعوة فيدعوهم أولا
إلى الدعاء، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام
بقلبه، لا لأجل القبر. فإنه لو دعاه كذلك فى الحانة والخمارة والحمام والسوق
أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا فى إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة
المضطر، ولو كان كافراً. وقد قال تعالى:
{كُلاَّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ ربك ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبكَ
مَحْظُورًا} [الإسراء:20] وقد قال الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمرَاتِ
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] فقال الله سبحانه
وتعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيُر} [البقرة: 126].
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله فإنه
يجيب البر



(14/165)








والفاجر، والمؤمن والكافر، وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه، أو يشترط فى
دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه. فيظن أن عمله صالح



(14/166)








ص -216- مرضى لله، ويكون بمنزلة من أملى له وأمد بالمال والبنين، وهو يظن أن
الله تعالى يسارع له فى الخيرات. وقد قال تعالى:
{فَلَمَّا نَسُوا مَاذُكروا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُل شَىءٍ}
[الأنعام: 44]. فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعى. وقد يكون مسألة تقضى به
حاجته ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضى حاجته
ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده.
والمقصود: أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه فى بيته
ومسجده وأوقات الأسحار. فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى، من الدعاء عنده إلى
الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذى قبله، فإن شأن الله أعظم من
أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك.
فقال أبو الحسين القدورى فى شرح كتاب الكرخى: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول:
قال أبو حنيفة: "لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به. قال: وأكره أن يقول:
أسألك بمعقد العز من عرشك. وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق
البيت الحرام".
قال أبو الحسين: "أما المسألة بغير الله فمنكرة فى قولهم، لأنه لا حق لغير
الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وأما قوله: بمعقد العز من عرشك، فكرهه أبو
حنيفة ورخص فيه أبو يوسف".
وقال: "وروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعا بذلك، قال: ولأن
معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التى خلق بها العرش، مع عظمته. فكأنه سأله
بأوصافه".



(14/167)








ص -217- وقال ابن بلدجى فى شرح المختار: "ويكره أن يدعو الله تعالى إلا
به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق
للمخلوق على خالقه، أو يقول فى دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك. وعن أبى يوسف
جوازه".
وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا، هو عند محمد حرام. وعند أبى حنيفة وأبى
يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب.
وفى فتاوى أبى محمد بن عبد السلام: "أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشىء من
مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف فى نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم،
لاعتقاده أن ذلك جاء فى حديث، وأنه لم يعرف صحة الحديث".
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ فى تعظيمة
واحترامه، وأنجع فى قضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله. ثم
ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل، ويعلق
عليه الستور، ويبنى عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه
والحج إليه والذبح عنده. ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه
عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وآخرتهم.
قال شيخنا قدس الله روحه: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، ابعدها عن
الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس. قال:
وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتثمل لهم الشيطان فى صورة الميت أو الغائب
كما يتمثل لعباد الأصنام. وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم
من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً. وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. وكذلك
السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله".
والمرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به. وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو
بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله نفسه.
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل



(14/168)








من الدعاء فى المسجد


(14/169)








ص -218- فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه. فهذا أيضاً من المنكرات
المبتدعة باتفاق المسلمين. وهى محرمة، وما علمت فى ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن
كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب.
والحكاية المنقولة عن الشافعى أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبى حنيفة، من الكذب
الظاهر.
فصل
فى الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين
أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ. وقد أشار النبى صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم إلى ذلك بقوله: "زُورُوا الْقُبُورَ، فَإٍنّهَا تُذَكرُكُمُ
الآخِرَةَ".
الثانى: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك
زيارة الحى مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحى فرح بزيارته وسر بذلك، فالميت أولى.
لأنه قد صار فى دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه
هدية: من دعائه، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يسر الحى بمن
يزوره ويهدى له. ولهذا شرع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا
لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط. ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعواً
بهم، ولا يصلى عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام.



(14/170)








ص -219- قالوا: الميت المعظم الذى لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا
يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه
به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما
ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه،
ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة
والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به.
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابى وغيرهما. وصرح بها عباد
الكواكب فى عبادتها.
وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور.
وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام
المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذى أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق
الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها. وهو الذى قصد رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه.
فوقف المشركون فى طريقه وناقضوه فى قصده. وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى
شق، وهؤلاء فى شق.
وهذا الذى ذكره هؤلاء المشركون فى زيارة القبور هو الشفاعة التى ظنوا أن آلهتهم
تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه
وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من
الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به. فما
يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به.
فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذى بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير
أصحابه ولعنهم. وأباح



(14/171)








دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره
مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم.



(14/172)








ص -220- قال تعالى: {أَمِ اتخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ
كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ
جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43-44].
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده. فهو الذى يشفع بنفسه
إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هم لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة فى الحقيقة
إنما هى له، والذى يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه
وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التى أثبتها هؤلاء
المشركون ومن وافقهم، وهى التى أبطلها الله سبحانه فى كتابه، بقوله تعالى:
{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:14

ص -233- فإذا هموا وَسَطِ العَرِينَ مُمَزَّقىال آثْوابِ، والأدْيَانِ،
والأحْوَالِ
لا يَسْمَعُونَ سِوَى الّذِى يَهْوُونهُ شُغُلا بِهِ عنْ سائرِ الأشْغَالِ
ودُعُوا إِلى ذاتِ الْيَمينِ فأَعْرَضُوا عَنْهَا، وسَارَ القَوْمُ ذاتَ شِمَالِ
خَرُّوا عَلَى القرآنِ عِنْدَ سَمَاعه صُمَّا، وعَميَاناً ذَوِى إِهمَالِ
وإذَا تلاَ القَارِى عَلَيْهِمْ سُورَةً فأطَالهَا، عَدُّوهُ فى الأثْقَالِ
وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَطَلتَ، وَلَيسَ ذَا عَشْرٌ، فَخَفَّفْ، أَنْتَ ذُو
إِملالِ
هذَا، وَكَمْ لَغْو، وَكم صَخَبٍ، وَكَم ضَحِكٍ بِلاَ أَدَبٍ، وَلا إجْمَالِ
حَتَّى إذَا قَامَ السَّماعُ لَدَيْهِمُ خَشَعَتْ لهُ الأصْواتُ بالإجْلالِ
وَامْتَدَّتِ الأعْنَاقُ، تَسْمعُ وَحْىَ ذَاِ كَ الشّيخِ مِنْ مُتَرنَمَّ
قَوَّالِ
وَتحَرَّكَتْ تِلكَ الرُّءُوسُ، وهَزَّهَا طَرَبٌ، وأشْوَاقٌ لِنَيْلِ وِصَالِ
فَهُنَالِكَ الأشْوَاقُ وَالأشْجَانُ وال أَحوَالُ، لا أهلاً بِذِى الأحوَالِ
تَالله لو كانت صحاة أبصروا ماذا دهاهمْ من قبيحِ فِعَالِ
لكنما سُكْرُ السَّماع أَشدُّ مِنْ سُكرِ المدامِ، وذا بلا إشكالِ
فإذا هُمَا اجتمعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً نالتْ من الخسرانِ كل منَالِ
يَا أمَّةً لَعبتْ بدين نبيها كتلاعب الصبيان فى الأوحالِ
أشمتوا أَهْلَ الكتابِ بدينكمْ والله لن يرضوا بذى الأفعالِ
كم ذا نعير منهم بقريقكم سِرا وجهرا عندَ كل جدالِ
قالوا لنا: دين عبادة أهله هذا السماع، فذاك دين محالِ
بل لا تجئُ شريعة بجوازه فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤالِ
لو قلتموا فسق، ومعصية، وتزْ بين من الشيطان للأنذالِ
كنا شهدنا أنَّ ذا دين أتى بالحق، دين الرسل، لا بضلالِ



(14/192)








والله منهم قدسمعنا ذاإلى اللآ ذان من أفواههم بمقال


(14/193)








ص -234- وَتمَامُ ذَاكَ الْقَوْلِ بالْحِيَلِ الّتى فَسَخَتْ عقُودَ الدينِ
فَسْخَ فِصَالِ
جَعَلَتْه كالثَّوْبِ المُهَلْهَلِ نَسْجُهُ فِيهِ تُفَصّلُهُ مِنْ الأوصَالِ
مَا شئت مِنْ مَكْرِ وَمِنْ خِدَع وَمنْحِيَلٍ، وَتَلْبِيسٍ بِلاَ إقلالِ
فَاحَتلْ عَلَى إسْقَاطِ كُلِّ فَرِيضةٍ وَعَلَى حَرَامِ اللهِ بِالإِحْلالِ
واحتَلْ عَلَى المَظْلُومِ يُقْلَبُ ظالمًا وَعَلَى الظَّلوم، بِضد تِلكَ الَحالِ
وَاقلِبْ، وَحَولْ، فَالتَّحَيُّل كُلُّهُ فى الْقَلْبِ، وَالتَّحْوِيلُ ذُو
إِعمالِ
إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ ذَا ظَفِرْتَ بِكُلِّ ما تَبْغِى مِنَ الأفْعَالِ
وَالأَقوَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى شُرْبِ المُدَامِ وسَمها غَيْرَ اُسْمِهَا، وَاللَّفْظُ ذُو إجْمَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى أكْلِ الربَا واهْجُرْ شَنا عَةَ لَفْظهِ، وَاحْتَلْ عَلَى
الأبْدالِ
وَاحْتَلْ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَلا تَقُلْ هذَا زِناً، وَانْكَحْ رَخِىَّ
البَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى حَل العقُودِ وفَسْخِهَا بَعْدَ اللزُومِ، وَذَاكَ ذُو إِشْكَالِ
إِلا عَلَى المُحْتَالِ، فَهْوَ طِبِيبُهَا يَا مِحْنَةَ الأَدْيَانِ
بِالمُحْتَالِ
وَاحْتَلْ عَلَى نَقْضِ الْوُقُوفِ، وَعَوْدِهاَ طَلْقاً، ولا تَسْتَحِى مِنْ
إِبطَالِ
فَكر، وقَدر، ثُمَّ فَصلْ بَعدَ ذَا فإِذَا غُلِبْتَ فَلِجَّ فى الإِشْكالِ
واحتل على الميراث، فانزعه من الورَّاث، ثم أبلَع جميع المالِ
قد أثبتوا نسباً وحصراً فيكم حتى تحوز الإرث للأموالِ
واعمد إلى تلك الشهادة واجعل الإبطال هَّمك تحظَ بالأبطالِ
فالحصر إثبات، ونفىٌ، غير معـ لوم، وهذا موضع الإشكالِ
واحْتَلْ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ، فإِنهُ رِزْقٌ هَنِى مِنْ ضَعِيفِ الحالِ
لا سَوْطَهُ تخْشَى، وَلا مِنْ سَيْفه والقَولُ قولُكَ فى ذهابِ المالِ



(14/194)








وَاحْتَلْ عَلَى أَكْلِ الوُقُوفِ فإِنهَا مِثْلُ السَّوَائِبِ رَبّةِ
الإِهمالِ
فَأَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ هِى بَاطِلٌ فى الأَصَلِ، لَمْ تحْتَجْ إلى إِبْطَالِ
فالمَالُ مَالٌ ضَائِع، أَرْباَبهُ هَلَكُوا فَخُذْ مِنْهُ بِلا مِكْيَالِ



(14/195)








ص -235- وإذَا تَصِحُّ بحُكْمَ قاضٍ عَادِ لٍفَشُرُوطُهَا صَارَتْ إِلى
اضْمِحْلاَلِ
قد عَطّلَ النَّاسُ الشُّرُوطَ، وَأَهْملوا مَقْصُودَهَا، فَالكُلُّ فى إهْمال
وَتَمامُ ذَاكَ قُضَاتُنَا، وشُهُودُنا فَاسْأَلْ بهِمْ ذَا خبْرَةٍ بالحَالِ
أمَّا الشُّهودُ فَهُمْ عُدُول عن طري قِ العَدْلَ فى الأَقوَال والأفعالِ
زُورًا وتَنْميقاً وكِتْمَانّا، وَتَلْ بيساً، وَإِسْرَافاً بِأَخْذِ نَوَالِ
يَنْسَى شَهَادَتَهُ، وَيَحْلِفْ إنهُ ناس لهَا، والقَلْبُ ذو إِغْفالِ
فإِذَا رَأَى المنقُوشَ، قال: ذَكَرْتُهَا يَا لَلمْذَكرِ، جِئْتَ بالآمالِ
ويقُول قَائِلُهُمْ: أَخوضُ النَّارَ فى نِزْرٍ يَسِيرٍ ؟ ذاكَ عَيْنَ خَبَالِ
ثَقلْ لَى المِيزَانَ، إِنَى خَائِضٌ لِلمْنَكِبَيْنِ، أُجَرُّ بالأغْلالِ
أَمَّا القُضَاةُ فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنُهمُ مَا قَدْ سَمِعْتَ، فَلا تَفُهْ
بمَقَالِ
ماذا تقول لمن يقول: حكمت أنـ ك فاسق، أو كافر فى الحالِ؟
فإِذَا اسْتَغَثْتَ أُغِثْتَ بالجَلْدِ الَّذِى قَدْ طَرَّقُوهُ كِمَثْلِ طَرْقِ
نِعَالِ
فَيَقُولُ طَقْ، فَتَقُولُ: قَطْ، فَتَعَارَضَا وَيكُونُ قَوْلُ الْجَلدِ ذَا
إِعْمالِ
فأجَارَكَ الرَّحْمنُ ضَرْبٍ، وَمنْ عَرْضٍ، وَمِنْ كَذِبٍ وَسُوءِ مَقَالِ
هذَا وَنِسْبَةُ ذَاكَ أَجْمَعِهِ إِلى دِينِ الرَّسولِ، وَذَا مِنَ الأَهْوَالِ
حَاشَا رَسُولُ اللهِ يَحْكُمُ بالهوَى والْجَهْلِ، تِلْكَ حُكُومَةُ الضّلالِ
وَاللهِ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّهَا لاجْتَثَّهَا بالنَّقْضِ وَالإِبطَالِ
إِلا الَّتى مِنْهَا يُوافِقُ حُكْمَه فَهُوَ الَّذِى يَلقَاهُ بالإِقبال
أَحْكَامُه عَدْلٌ، وحَق كُلُّهَا فى رَحْمَةٍ، ومَصالِحٍ، وحَلالِ



(14/196)








شَهِدَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ قاطبة بَما فى حُكْمِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَكَمالِ
فإِذَا أتَتْ أَحْكَامُهُ أَلْفَيْتَهَا وَفْقَ العقولِ، تُزِيلُ كُلَّ عِقَالِ
حَتَّى يَقُولَ السَّامِعُونَ لِحُكْمِه مَا بَعْدَ هذَا الحْق غَيْرُ ضَلالِ
للهِ أَحْكامُ الرَّسُولِ وَعَدْلَهُا بَيْنَ العِبَادِ وَنَورُهَا المُتَلالى



(14/197)








ص -236- كَانَتْ بهَا فى الأرْضِ أعْظَمُ رَحمَةٍ والنَّاسُ فى سَعْدٍ وَفى
إِقبَالِ
أَحْكامُهُمْ تجْرِى عَلَى وَجْهِ السَّدَ ادِ، وَحَالُهُمْ فى ذَاكَ أحْسَنْ
حَالِ
أَمْناً، وعزا فى هُدًى، وَتَرَاحُمٍ وَتَوَاصُلٍ، وَمَحَبّةٍ، وَجلالِ
فَتَغَيَّرَتْ أَوْضَاعُهَا، حَتَّى غَدَتْ مَنْكُورةً، بِتَلوُّثِ الأعمالِ
فَتَغَيَّرَتْ أَعمالُهُمْ وَتَبدَّلَتْ أَحْوَالُهُمْ بالنَّقْصِ بَعْدَ كمَالِ
لَوْ كانَ دِينُ اللهِ فيهِمْ قائماً لَرَأَيْتَهُمْ فى أَحْسَنِ الأحْوَالِ
وإِذا هُمُوا حَكَمُوا بحُكْمٍ جَائرٍ حَكَمُوا لمُنْكِرِهِ بِكُل وَبَالِ
قُالوا:أتُنْكِرُ حُكمَ شَرْعِ مُحَمدٍ؟ حَاشَا لِذَا الشّرْعِ الشَّرِيفِ
العَالِى
عَجَّتْ فُرُوجُ النَّاسِ، ثُمَّ حُقُوقُهُم للهِ بِالبُكُرَاتِ والآصَالِ
كمْ تُسْتَحَلُّ بكل حُكْمٍ بَاطِلٍ لا يَرْتَضِيهِ رَبُّنَا المُتَعَالِى
والكلُّ فى قَعْرِ الجَحِيمِ، سِوَى الَّذِى يَقْضِى بِدينِ اللهِ، لا لِنَوَالِ
أَوَ مَا سَمِعْتَ بأَنّ ثُلْثَيْهِمْ غَدا فى النَّار، فى ذَاكَ الزَّمَانِ
الَخْالى؟
وَزَمَانُنَا هذَا، فَرَبُّكَ عَالِمٌ هَلْ فيهِ ذَاكَ الثُّلْثُ، أَمْ هُوَ خَالِى؟
يا بَاغِىَ الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَهِ الآمَالِ
انْظُرْ إلى هدْىِ الصَّحَابَةِ وَالذِى كانُوا عَلَيْهِ فى الزَّمَانِ الَخْالِى
واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا خُذْ يَمْنَةً ما الدَّرْبُ ذَاتَ
شِمَالِ
تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهمْ سِوَى سُبُلِ الهُدَى فى القَوْلِ وَالأفعالِ
دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ وَهَدْيه وَبِهِ اقْتَدوْا فى سَائرِ الأحوالِ



(14/198)








نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِى الْهُدى فمآلُهُ فى الَحْشْرِ خَيْرُ
مآلِ
القَانِتِينَ المُخْبِتينَ لِرَبهِمْ النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقوَالِ
التَّارِكِينَ لكل فِعْلٍ منكر وَالعَامِلينَ بأَحْسَنِ الأعمَالِ
أَهوَاؤُهُمْ تَبَعٌ لِدينِ نَبِيهمْ وَسِوَاهُمُ بِالضِّدَّ فى ذِى الحْالِ
مَا شَانَهُمْ فى دِينْهِمْ نَقْص، وَلا فى قَوْلِهمْ شَطْحُ الَجْهُولِ الْغالِى



(14/199)








ص -237- عَمِلُوا بمَا عَلِمُوا، وَلم يَتَكَلّفُوا فَلِذَاكَ مَا شَابُوا
الْهُدَى بِضَلالِ
وَسوَاهم بالضد فى الأَمْرَيْنِ،قد تَرَكُوا الْهُدَى، وَدَعَوْا لكل ضْلالِ
فَهُمُ الأدِلةُ لِلْحَيارَى، مَنْ يَسرْ بهُدَاهُمُ لَمْ يَخْش مِنْ إضْلالِ
وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإِضاءَةً وعُلوَّ مَنْزِلةً، وبُعْدَ مَنالِ
يمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْناً، نُطْقُهمْ بالَحْق، لا بجَهَالَةِ الْجُهَّال
حِلماً، وَعِلْمًا، مَعْ تُقًى وَتَوَاضُعٍ ونَصِيحَةٍ، مْعَ رُتبةِ الإفضَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبهِمْ بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُؤَالِ
وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ
فى الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرَهَانِ رأَيتَهُمْ يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ
بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالى
ولَقدْ أَبَانَ لك الكِتَابُ صِفَاتهِمْ فى سُورَةِ الفَتْحِ المبِينِ العَالِى
وَبِرَابِع السبع الطوَالِ صِفَاتهُم قَوْمٌ يحُبُّهُمُ ذَوُو إِدْلالِ
وَبَرَاءَةٍ، والْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ وَبِهَلْ أَتَى، وَبسُورَةِ الأنفالِ
فصل
هذا السماع الشيطانى المضادّ للسماع الرحمانى، له فى الشرع بضعة عشر اسما:
اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان،
ومنبت النفاق فى القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور
الشيطان، والسمود:
أسْمَاؤْهُ دَلّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ تَبَّا لِذى الأَسْمَاءِ والأَوْصَافِ



(14/200)








فنذكر مخازى هذه الأسماء، ووقوعها عليه فى كلام الله عز وجل وكلام رْسوله
والصحابة ليعلم أصحابه وأهله بما به ظفروا، وأى تجارة رابحة خسروا:



(14/201)








ص -238- فدع صاحب المزمار والدف والغنا وما اختاره الله عن طاعة الله مذهبا
ودعه يعش في غيه وضلاله على تاتنا يحيا ويبعث أشيبا
وفي تنتنا يوم المعاد نجاته إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا
سيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ما خف أو ربا
ويعلم ما قد كان فيه حياته إذا حصلت أعماله كلها هبا
دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه؟ فقال لداعي الغي: أهلاً ومرحبا
وأعرض عن داعي الهدى، قائلاً له هواي إلى صوت المعارف قد صبا
يراع، ودف بالصنوج، وشاهد وصوت مغن، صوته يقنص الظبا
إذا ما تغني فالظباء تجيبه إلى أن تراها حوله تشبه الدبا
فما شئت من صيد بغير تطارد ووصل حبيب كان بالهجر عذبا
فيا آمري بالرشد، لو كنت حاضراً لكان توالي اللهو عندك أقربا
فصل
فالاسم الأول: اللهو، ولهو الحديث:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الَحْدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيِتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَليْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
[لقمان: 6 7].
قال الواحدى وغيره: أكثر المفسرين: على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن
عباس فى رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود، فى رواية أبى
الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة.
وروى ثور بن أبى فاختة عن أبيه عن ابن عباس فى قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: "هُوَ
الرَّجُلُ يَشْتَرِى الَجْارِيَةَ تُغَنِّيهِ لِيْلاً وَنهَارًا"}



(14/202)








ص -239- وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد: "هو اشتراء المغنى والمغنية بالمال
الكثير، والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل" وهذا قول مكحول.
وهذا اختيار أبى إسحاق أيضاً.
قال: أكثر ما جاء فى التفسير: أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء، لأنه يلهى عن ذكر
الله تعالى.
قال الواحدى: قال أهل المعانى: ويدخل فى هذا كل من اختار اللهو، والغناء والمزامير
والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر فى
الاستبدال، والاختيار، وهو كثير فى القرآن. قال: ويدل على هذا: ما قاله قتادة فى
هذه الآية "لعله أن لا يكون أنفق مالاً" قال: "وبحسب المرء من
الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق".
قال الواحدى: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء، ثم ذكر كلام
الشافعى فى رد الشهادة بإعلان الغناء.
قال: وأما غناء القينات: فذلك أشد ما فى الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو
ما روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى
قَيْنَةٍ صُبَّ فى أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الآنك: الرصاص المذاب.
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم.
ففى "مسند الإمام أحمد"، "ومسند عبد الله بن الزبير الحميدى"،
"وجامع الترمذى" من حديث أبى أمامة، والسياق للترمذى: أن النبى صلى الله
عليه وسلم قال:"لا تَبِيعُوا الْقينَاتِ، وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا
تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فى تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثمَنُهُنَّ حَرَامٌ".
فى مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6].
وهذا الحديث وإن كان



(14/203)








ص -240- مداره على عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد الإلهانى عن القاسم، فعبيد
الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلى ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها
إن شاء الله، ويكفى تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك
عن ابن عباس، وابن مسعود.
قال أبو الصهباء: "سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو
الحديث} [لقمان: 6] فقال: والله الذى لا إله غيره هو الغناء -يرددها ثلاث مرات.
وصح عن ابن عمر رضى الله عنهما أيضاً أنه: [ الغناء ].
قال الحاكم أبو عبد الله فى التفسير، من كتاب المستدرك: "ليعلم طالب هذا
العلم أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند.
وقال فى موضع آخر من كتابه: "هو عندنا فى حكم المرفوع".
وهذا، وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم
الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة. وقد
شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم علماً وعملاً، وهم العرب
الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل.
ولا تعارض بين تفسير "لهو الحديث" بالغناء، وتفسيره: بأخبار الأعاجم
وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم
به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث، ولهذا قال ابن عباس: "لهو الحديث: الباطل
والغناء".
فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما.
والغناء أشد لهواً، وأعظم ضرراً من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا،
ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من
الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن
القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث



(14/204)








ص -241- بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، وإذا تليى عليه
القرآن ولى مستكبراً كأن لم يسمعه، كأن فى أذنيه وقراً، وهو الثقل والصمم، وإذا
علم منه شيئاً استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفراً، وإن وقع
بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم.
يوضحه: أنك لا تجد أحداً عنى بالغناء وسماع آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى،
علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له
سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله
الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنى ويستقصر نوبته، وأقل ما
فى هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه
والكلام فى هذا مع من فى قلبه بعض حياة يحس بها. فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته،
فقد سد على نفسه طريق النصيحة:
{وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً
أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لهم فِى
الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
فصل
الاسم الثانى والثالث: الزور، واللغو.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِالَّلغْوِ
مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72].
قال محمد بن الحنفية: "الزور هاهنا الغناء"، وقاله ليث عن مجاهد، وقال
الكلبى: لا يحضرون مجالس الباطل.
واللغو فى اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا
بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه. ويدخل فى
هذا: أعياد المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها.



(14/205)








ص -242- قال الزجاج: "لا يجالسون أهل المعاصى، ولا يمالئونهم عليها،
ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه،
والاختلاط بأهله".
وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: مر بلهو فأعرض عنه، فقال رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ
لَكَرِيماً".
وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه نقال: {وَإِذَا سَمِعُوا
اللغو أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}
[القصص: 55].
وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصاً، فمعناها عام، متناول لكل من سمع لغواً
فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم".
وتأمل كيف قال سبحانه {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72].
ولم يقل: بالزور، لأن يشهدون بمعنى: يحضرون. فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف
بالتكلم به، وفعله ؟. والغناء من أعظم الزور.
والزور: يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها كما فى حديث
معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال: "هذا الزور" فالزور: القول،
والفعل، والمحل.
وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزور بالفتح، ومنه: زرت فلانا، إذا ملت إليه، وعدلت
إليه، فالزور: ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذى لا حقيقة له قولاً وفعلاً.



(14/206)








ص -243- فصل
الاسم الرابع: الباطل.
والباطل: ضد الحق، يراد به المعدوم الذى لا وجود له، والموجود الذى مضرة وجوده
أكثر من منفعته.
فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى الله باطل، ومن الثانى قوله: السحر باطل،
والكفر باطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِن
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81].
فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع فيه، فالكفر والفسوق والعصيان
والسحر، والغناء، واستماع الملاهى: كله من النوع الثانى.
قال ابن وهب: أخبرنى سليمان بن بلال عن كثير بن زيد: أنه سمع عبيد الله يقول
للقاسم بن محمد: "كيف ترى فى الغناء، قال: فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد
عرفت أنه باطل، فكيف ترى فيه ؟ فقال له القاسم: أرأيت الباطل، أين هو ؟ قال: فى
النار، قال: فهو ذاك".
وقال رجل لابن عباس رضى الله عنهما: "ما تقول فى الغناء، أحلال هو أم حرام؟
فقال: لا أقول حراماً إلا ما فى كتاب الله. فقال: أفحلال هو ؟ فقال: ولا أقول ذلك،
ثم قال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء ؟ فقال
الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك".
فهذا جواب ابن عباس رضى الله عنهما عن غناء الأعراب، الذى ليس فيه مدح الخمر
والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات. [ فإن
غناء القوم لم يكن فيه شىء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا ] أعظم قول. فإن
مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته.
فمن أبطل الباطل أن تأتى شريعة بإباحته، فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس
قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله على النكاح
الذى هو



(14/207)








ص -244- سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهو أفضل من التخلى
لنوافل العبادة، فلو كان نكاح التحليل جائزاً فى الشرع لكان أفضل من قيام الليل،
وصيام التطوع، فضلاً أن يلعن فاعله.
فصل
وأما اسم المكاء والتصدية.
فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].
قال ابن عباس، وابن عمر، وعطية، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة: "المكاء:
الصفير، والتصدية: التصفيق".
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا، يمكو، مكاء، إذا جمع يديه ثم صفر
فيهما، ومنه: مكت است الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت. ولهذا جاء على بناء
الأصوات، كالرغاء، والعواء، والثغاء. قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة، إلا
حرفين: النداء، والغناء.
وأما التصدية: فهى فى اللغة: التصفيق، يقال: صدى يصدى تصدية، إذا صفق بيديه. قال
حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
ِإذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ صَلاتُكُمُ التَّصَدِّى وَالمُكاءُ
وهكذا الأشباه يكون المسلمون فى الصلوات الفرض والتطوع، وهم فى الصفير والتصفيق.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: "كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، ويصفرون
ويصفقون".
وقال مجاهد: "كانوا يعارضون النبى صلى الله عليه وسلم فى الطواف ويصفرون
ويصفقون، يخلطون عليه صلاته وطوافه"، ونحو ذلك عن مقاتل.
ولا ريب أنهم كانوا يفعلوا هذا وهذا.



(14/208)








ص -245- فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول، وإخوانهم
المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثانى.
قال ابن عرفة، وابن الأنبارى: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر
أنهم جعلوا مكان الصلاة التى أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم
الأوزار، وهذا كقولك: زرته، فجعل جفائى صلتى، أى أقام الجفاء مقام الصلة.
والمقصود: أن المصفقين والصفارين فى يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو
أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم فى
جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال [وقت الحاجة إليه ] فى
الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء،
فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصى قولاً وفعلاً ؟.
فصل
وإنما تسميته رقية الزنى:
فهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه، فليس فى رقى الزنى أنجع منه، وهذه
التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض.
قال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن قال: قال فضيل بن عياض:
"الغناء رقية الزنى".
قال: إبراهيم بن محمد المروزى عن أبى عثمان الليثى قال: قال يزيد بن الوليد:
"يا بنى أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد فى الشهوة، ويهدم
المروءة، وإنه



(14/209)








ص -246- لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه
النساء، فإن الغناء داعية الزنى".
قال: وأخبرنى محمد بن الفضل الأزدى قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته
مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عنى، فقال: وما تكره
من ذلك ؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعنى ابنته،
فإن كففته وإلا خرجت عنك.
ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن قال: "كنا فى عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع
غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجئ بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له
الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستحرم له العنز، وإن
الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة. ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه
المثلة، ولا تحل، فخل" [ سبيلهم قال: ] فخلى سبيلهم".
قال: وأخبرنى الحسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى:
"جاوروا الحطيئة قوماً من بنى كلاب، فمشى ذو النهى منهم بعضهم إلى بعض،
وقالوا: يا قوم، إنكم قد رميتم بداهية، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظن فيحقِّق، ولا
يستأنى فيتثبت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو فى فناء خبائه، فقالوا: يا أبا
مليكة، إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحب،
فنأتيه، وعما تكره، فنزدجر عنه، فقال: جنبونى ندى مجلسكم، ولا تسمعونى أغانى
شبيبتكم. فإن الغناء رقية الزنى".
فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان، الذى هابت العرب هجاه خاف عاقبة الغناء وأن
تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره ؟
ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، ومن طرق أهله
إلى سماع رقية الزنى فهو أعلم بالإثم الذى يستحقه.



(14/210)








ص -247- ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد
أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطى الليان.
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء، صار
انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم لأنجشة حادية:
"يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَك رِفْقاً بِالْقَوَارِيرِ": يعنى النساء.
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت
المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان
أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من ذى غنى وثروة
أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشاياً، وكم من معافى تعرّض له فأمسى، وقد
حلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بدا من قبول
تلك الهدايا، وكم جرّع من غصة وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى
العطايا، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة كما قيل:
فَسَلْ ذا خِبْرَةٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ لِتَعْلَم كَمْ خَبَايا فى الزَّوَايَا
وَحاذِرْ إذا شُغِفْت بِه سِهَاماً مُرَيشَةً بأَهْدَابِ المَنَايَا
إِذا مَا خَالَطَتْ قَلْباً كَئِيباً يقلب بَينَ أطباقِ الرَّزَايَا
وَيُصُبِحُ بَعْدَ أن قَدْ كانَ حُرا عَفِيفَ الفَرْجِ: عَبْداً لِلصّبايَا
وَيُعْطِى مَنْ بهِ يُغنِى غِنَاءً وذلِكَ مِنْهُ مِنْ شَرِّ العَطَايَا
فصل
وأما تسميته: مُنبت النفاق.
فقال على بن الجعد: حدثنا [ محمد بن ] طلحة عن سعيد بن كعب المروزى عن محمد بن عبد
الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "الغناء ينبت النفاق فى القلب
كما ينبت الماء الزرع".



(14/211)








ص -248- وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن
مسعود: "الغناء ينبت النفاق فى القلب".
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعاً رواه ابن أبى الدنيا
فى "كتاب ذم الملاهى".
قال: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمى بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيخ عن
أبى وائل عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم:
"الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فى القَلْبِ كما يُنْبِتُ المَاءُ
البَقْلَ".
وقد تابع حرمى بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم.
قال أبو الحسين بن المنادى فى كتاب "أحكام الملاهى": حدثنا محمد بن على
بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوراق، حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن
مسكين فذكر الحديث. فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفى رفعه نظر، والموقوف أصح.
فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق فى القلب من بين سائر المعاصى ؟
قيل: هذا من أدل شئ على فقه الصحابة فى أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها
وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض
القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمدوى من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا
بكثير من الأدوية التى ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء، وكثرة المرَضى،
وحدوث أمراض مزمنة لم تكن فى السلف، والعدول عن الدواء النافع الذى ركبه الشارع،
وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد المرض وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور
والطرقات والأسواق من المرضى، قام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير فى صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع
بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهى القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن
القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغى،
وينهى عن اتباع



(14/212)








ص -249- خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى
شهوات الغى فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل
مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفى تهييجهما على القبائح فرساً رهان، فإنه
صنو الخمر ورضيعه ونائبه وخليفته، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء
الذى لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التى لا تفسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق
المروءة، وسوس العقل، يتغلغل فى مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى
محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة، والرعونة،
والحماقة. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار
الإسلام، وحلاوة القرآن. فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقَلَّ حياؤه،
وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله
تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بينى وبين قرآن عدوك فى صدر
واحد، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من
الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل
برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات
الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من
الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين، ولقد
صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ؟
وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَانى فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ
فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى سُرُورًا، وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِى
إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ أَجابَ الّلهْوُ: حَىَّ عَلَى السَّماحِ



(14/213)








وَلَمْ نْملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئاً أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ المِلاَحِ
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق فى قوم، والعناد فى قوم، والتكذيب فى قوم،
والفجور فى قوم، والرعونة فى قوم.



(14/214)








ص -250- وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على
القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقاً فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان، كما سيأتى، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن فى قلب
أبدا.
وأيضاً فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن
يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، فإنه يظهر الرغبة فى الله
والدار الآخرة وقلبه يغلى بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف،
وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه
الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضاً فإن الإيمان قول وعمل: قول الحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر،
وتلاوة القرآن. والنفاق: قول الباطل، وعمل البغى، هذا ينبت على الغناء.
وأيضاً، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر
الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح
ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.
وأيضاً، فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن
المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث [ يظن ] أنه يصلحه. والمغنى يدعو
القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات، قال الضحاك:
"الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض
الملاهى، التى بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغنى عن الثقات من
أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغانى، واللهج بها ينبت النفاق فى القلب كما
ينبت العشب على الماء".



(14/215)








ص -251- فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة. فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبين له حذق
الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها وبالله التوفيق.
فصل
وأما تسميته قرآن الشيطان.
فمأثور عن التابعين، وقد روى فى حديث مرفوع،
قال قتادة: "لما أهبط إبليس قال: يا رب لعنتنى، فما عملى ؟ قال: السحر، قال
فما قرآنى ؟ قال: الشعر، قال: فما كتابى ؟ قال: الوشم، قال: فما طعامى ؟ قال: كل
ميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابى ؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنى
؟ قال: الأسواق، قال فما صوتى ؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدى ؟ قال:
النساء".
هذا والمعروف فى هذا وقفه، وقد رواه الطبرانى فى "معجمه" من حديث أبى
أمامة مرفوعاً إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.وقال ابن أبى الدنيا فى
كتاب "مكايد الشيطان وحيله" حدثنا أبو بكر التميمى، حدثنا ابن أبى مريم
حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة عن
رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "إِنّ إِبْليسَ لَمّا أُنْزِلَ إِلَى
الأَرْضِ قالَ: يا رب، أَنْزَلْتَنِى إِلى الأَرْضِ، وَجَعَلتَنى رَجِيمِاً،
فَاجْعَلْ لِى بَيْتاً، قالَ: الْحَمَّامُ، قالَ: فَاجْعَلْ لِى مَجْلِساَ، قالَ:
الأَسْوَاقُ وَمَجَامِعُ الطُّرُقَاتِ، قالَ: فاجْعَلْ لى طَعاماً، قالَ: كُلُّ
مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، قالَ: فاجْعَلْ لى شَرَاباً، قالَ: كُلُّ
مُسْكِرٍ، قالَ: فاجْعَلْ لى مُؤَذِّناً، قالَ: المِزْمَارُ، قالَ: فاجْعَلْ لى
قُرْآناً، قَالَ: الشَّعْرُ، قالَ: فاجْعَلْ لى كِتَاباً، قالَ: الوَشْمُ، قالَ:
فَاجْعلْ لى حَدِيثاً، قالَ: الْكَذِبُ، قالَ: فاجْعَلْ لِى رُسُلاً، قالَ
الْكَهَنَةُ، قالَ: فَاجْعَلْ لِى مَصَايِدَ، قالَ: النِّسَاءُ".



(14/216)








وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منه لها شواهد من السنة، أو من القرآن.


(14/217)








ص -252- فكون السحر من عمل الشيطان شاهده قوله تعالى:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَمَا كَفَرَ
سُليمْاَنُ وَلكِنَّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
[البقرة: 102].
وأما كونه الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود فى "سننه" من حديث جبير
بن مطعم:
"أنّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يُصَلّى،
فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، اللهُ أَكْبَرُ
كَبِيراً، الْحْمدُ للهِ كَثِيراً، الْحمْدُ للهِ كَثِيراً، الْحْمدُ للهِ
كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ثلاثاً أَعوذُ باللهِ مِنَ
الشّيْطَان الرَّجِيم: مِنْ نَفْخِهِ، وَنَفْثِه، وَهَمْزِهِ"، قالَ: نَفْثُهُ:
الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الكِبْرُ، وَهَمْزُهُ: المُوتَهُ.
ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان. وأخبر أنه لا
ينبغى له، فقال:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ} [يس: 69].
وأما كون الوشم كتابه، فإنه من عمله وتزيينه، ولهذا لعن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم "الواشمة والمستوشمة" فلعن الكاتبة والمكتوب عليها.
وأما كون الميته ومتروك التسمية طعامه، فإن الشيطان يستحلّ الطعام، إذا لم يذكر
عليه اسم الله، ويشارك آكله، والميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى، فهى وكلّ طعام
إذا لم يذكر عليه اسم الله عز وجل من طعامه، ولهذا لما سأل الجنُّ الذين آمنوا
برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الزاد، قال: "لَكمْ كُلُّ عَظْمٍ
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ".
فلم يبح لهم طعام الشياطين، وهو متروك التسمية.
وأما كون المسكر شرابه. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَملِ
الشَّيْطَان} [المائدة: 90].
فهو يشرب من الشراب



(14/218)








الذى عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم فى عمله. فيشاركهم فى عمله وشربه، وإثمه،
وعقوبته.
وأما كون الأسواق مجلسه ففى الحديث الآخر: "أَنّهُ يَرْكُزُ رَايَتَهُ
بِالسُّوقِ" ولهذا يحضره



(14/219)








ص -253- اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش. وكثير من عمله، وفى صفة النبى
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الكتب المتقدمة:
"أَنّهُ لَيْسَ صَخّابًا بالأَسْوَاقِ".
وأما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة، وفى حديث أبى سعيد:
"الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إٍلا المَقْبَرَةُ والْحَمَّامُ".
ولأنه محل كشف العورات، وهو بيت مؤسس على النار، وهى مادة الشيطان التى خلق منها.
وأما كون المزمار مؤذنّه، ففى غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والرقص والتصفيق
اللذين هما المكاء والتصدية صلاته، فلابد لهذه الصلاة من مؤذن وإمام ومأموم.
فالمؤذن المزمار، والإمام المغنى، والمأموم الحاضرون.
وأما كون الكذب حديثه، فهو الكاذب، الآمر بالكذب، المزين له، فكل كذب يقع فى
العالم فهو تعليمه وحديثه.
وأما كون الكهنة رسله، فلأن المشركين يهرعون إليهم، ويفزعون إليهم فى أمورهم
العظام، ويصدقونهم، ويتحاكمون إليهم ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل،
فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيبات التى لا يعرفها غيرهم، فهم
عند المشركين بهم بمنزلة الرسل، فالكهنة رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حزبه من
المشركين وشبههم بالرسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبه، ومثل رسل الله بهم لينفر
عنهم، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب، ولما كان بين النوعين أعظم التضاد
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنْ أَتَى كَاهِناً
فَصَدَّقَهُ بَما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدِ".
فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع فى العبد أن يكون من
هؤلاء وهؤلاء، بل يبعد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقدر قربه من
الكاهن، ويكذب الرسول بقدر تصديقه



(14/220)








للكاهن


(14/221)








ص -254- وقوله: اجعل لى مصايد، قال: مصايدك النساء، فالنساء أعظم شبكة له،
يصطاد بهن الرجال، كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى الفصل الذى بعد هذا.
والمقصود أن: الغناء المحرم قرآن الشيطان.
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة
وآلات الملاهى والمعازف، وأن يكون من امرأة جملية، أو صبى جميل. ليكون ذلك أدعى
إلى قبول النفوس لقرآنه، تعويضا به عن القرآن المجيد.
فصل
وأما تسميته بالصوت الأحمق، والصوت الفاجر.
فهى تسمية الصادق المصدوق، الذى لا ينطق عن الهوى.
فروى الترمذى من حديث ابن أبى ليلى عن عطاء عن جابر رضى الله عنه قال:
"خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وَآلهِ وسلمَ مَعَ عَبْدِ
الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ إِلى النَّخْلِ، فإِذَا ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ يَجُودُ
بِنَفْسِهِ فَوَضَعَهُ فى حِجْرِهِ، ففاضت عَيْنَاهُ، فقَالَ عبد الرحمن:
أَتَبْكِى، وَأَنْتَ تَنْهَى النَّاسَ ؟ قالَ: إِنِّى لَمْ أَنْهَ عَنِ
الْبُكَاءِ، وَإنمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أحْمقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ
عِنْدَ نَغَمَةٍ: لْهَوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ
مُصِيبَةٍ: خَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقَّ جُيُوبٍ، وَرَنّةٍ وَهذَا هُوَ رَحْمَةٌ،
وَمَنْ لا يَرْحَمُ لا يرحم لَوْلا أَنّهُ أَمْرٌ حَق، وَوَعْدٌ صِدْقٌ، وَأنّ
آخِرَناَ سَيَلْحَقُ أوَّلَنَا، لَحَزِنّا عَلَيْكَ حُزْناً هُوَ أَشَدُّ مِنْ
هذَا، وَإِنّا بِكَ لمَحْزُونُونَ، تَبْكِى الْعَيْنُ وَيَحزَنُ الْقَلْبُ، وَلا
نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ". قال الترمذى: هذا حديث حسن.
فانظر إلى هذا النهى المؤكد، بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك، حتى
وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وقد أقر النبى صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان فى
الحديث



(14/222)








الصحيح، كما سيأتى، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهى أبدا.
وقد اختلف فى قوله "لا تفعل" وقوله "
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
unja.dz
المدير
المدير
unja.dz


ذكر
عدد المساهمات : 1781
نقاط التميز : 8474
تاريخ التسجيل : 28/12/2007
الموقع unja

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty
مُساهمةموضوع: رد: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001   إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001 Empty4/9/2010, 13:15

ص -268- وذكرنا الشبهة التى دخلت على كثير من العباد فى حضوره حتى عدوه من
القرب فمن أحب الوقوف على ذلك فهو مستوفى فى ذلك الكتاب، وإنما أشرنا ههنا إلى
نبذة يسيرة فى كونه من مكايد الشيطان، وبالله التوفيق.
فصل
ومن مكايده التى بلغ فيها مرادة: مكيدة التحليل، الذى لعن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم فاعله، وشبهه بالتيس المستعار، وعظم بسببه العار والشنار،
وعير المسلمين به الكفار، وحصل بسببه من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد واستكريت
له التيوس المستعارات، وضاقت به ذرعا النفوس الأبيات، ونفرت منه أشد من نفارها من
السفاح وقالت: لو كان هذا نكاحاً صحيحاً لم يلعن رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته، وفاعل السنة مقرب غير ملعون،
والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم بالتيس المستعار، وسماه السلف بمسمار النار، فلو شاهدت
الحرائر المصونات، على حوانيت المحللين متبذلات، تنظر المرأة إلى التيس نظرة الشاة
إلى شفرة الجازر، وتقول: يا ليتنى قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على
ما يجلب اللعنة والمقت، نهض واستتبعها خلفه للوقت، بلا زفاف ولا إعلان، بل بالتخفى
والكتمان، فلا جهاز ينقل، ولا فراش إلى بيت الزوج يحول، ولا صواحب يهدينها إليه،
ولا مصلحات يجلينها عليه، ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر، ولا
وليمة ولا نثار، ولا دف إعلان ولا شعار، والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر،
حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب، والمطلق والولى واقفان على الباب، دنا ليطهرها
بمائه النجس الحرام، ويطيبها بلعنة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا قضيا
عرس التحليل، ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التى ذكرها الله تعالى فى التنزيل.
فإنها لا تحصل باللعن الصريح، ولا يوجبها إلا النكاح الجائر



(14/242)








الصحيح. فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفاً وتعجيلاً، وإلا حبسها حتى تعطيه أجره
طويلاً. فهل سمعتم بزوج لا يأخذ بالساق



(14/243)








ص -269- حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والاتفاق ؟ حتى إذا طهرها وطيبها، وخلصها
بزعمه من الحرام وجنبها. قال لها: اعترفى بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق، فيحصل
بعد ذلك بينكما الالتئام والاتفاق، فتأتى المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها: هل
كان ذاك ؟ فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجراً، وقد أرهقوهما من
أمرهما عسراً هذا، وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها فى عقدين،
ويجمع ماءه فى أكثر من أربع وفى رحم أختين، وإذا كان هذا من شأنه وصفته، فهو حقيق
بما رواه عبد الله ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قالSad لَعَنَ رَسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ".
رواه الحاكم فى الصحيح والترمذى وقال: حديث حسن صحيح، قال: والعمل عليه عند أهل
العلم. منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم، وهو
قول الفقهاء من التابعين.
ورواه الإمام أحمد فى "مسنده"، والنسائى فى "سننه" بإسناد
صحيح، ولفظهما "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وَسلمَ الْوَاشِمَةَ
والمُؤْتَشِمَةَ، وَالوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولَةَ، وَالمُحَلِّلَ وَالمُحَلِّلَ
لَهُ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ".
وفى "مسند الإمام أحمد"، و"سنن النسائى" أيضاً: عن عبد الله
بن مسعود رضى الله عنه قال: "آكِلُ الرِّبَا ومُوكِلُهُ وشَاهِدُهُ
وكَاتِبُهُ، إِذَا عَلِمُوا بِهِ، والوَاصِلَةُ وَالمُسْتَوْصِلَةُ، وَلاوِى
الصَّدَقةِ والمُعْتَدِى فِيهَا، والمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أعْرَابِيا بَعْدَ
هِجْرَتِهِ، والمحلل وَالمُحَلِّلُ لَه: مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ
صلّى الله عليهِ وسلمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه
لعن المحلل له"، رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائى.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله



(14/244)








صلى الله تعالى عليه وآله وسلم


(14/245)








ص -270- "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الإمام أحمد بإسناد
رجاله كلهم ثقات، وثقهم ابن معين وغيره.
وقال الترمذى فى كتاب "العلل": سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل
البخارى عن هذا الحديث ؟ فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة،
وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة.
وقال أبو عبد الله بن ماجه فى سننه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن
صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لعن رسول
الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له".
وعن ابن عباس أيضاً قال: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله
وسلم عَنِ المُحَلَّلِ ؟ فقَال: لا، إِلا نِكاحَ رَغْبَةٍ، لا نِكاحَ دِلْسَةٍ
وَلا اسْتِهْزَاءً بِكِتَابِ اللهِ، ثمَّ تَذوقُ العُسَيْلَةَ".
رواه أبو إسحاق الجوزجانى فى كتاب المترجم قال: أخبرنى إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى
جبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه، وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيراً من
الحفاظ يضعفه والشافعى حسن الرأى فيه، ويحتج بحديثه.
وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"أَلا أخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ
اللهِ، قَالَ: هُوَ المُحَلِّلُ. لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمَحَلَّلَ
لَهُ".
رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كلهم موثقون، لم يجرح واحد منهم.
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين: "أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء
رجل من أهل القرية، بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئاً من ماله فتزوجها ليحلها له،
فقال لا، ثم ذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فَقَالَ: "لا،
حَتَّى يَنْكِحَ مُرْتَغِباً لِنَفْسِه، فإذَا فَعَلَ ذلِكَ لَمْ تَحِل لَهُ
حَتَّى يَذُوقُ العُسَيْلَةَ".
ورواه أبو بكر بن أبى شيبة فى المصنف بإسناد جيد.
وهذا المرسل قد احتج به من



(14/246)








أرسله، فدل على ثبوته عنده، وقد عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما سيأتى، وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة، ومثل هذا حجة



(14/247)








ص -271- باتفاق الأئمة، وهو والذى قبله نص فى التحليل المنوى، وكذلك حديث نافع
عن ابن عمر رضى الله عنهما: "أن رجلاً له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، لم
يأمرنى، ولم يعلم ؟ قال: لا. إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها
فارقتها، وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً"
ذكره شيخ الإسلام فى إبطال التحليل.
فصل
وأما الآثار عن الصحابة.
ففى كتاب "المصنف" لابن أبى شيبة، و"سنن" الأثرم،
و"الأوسط" لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال:
"لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما".
ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر: "لا أوتى بمحلل ولا محللاً إلا رجمتهما"
وهو صحيح عن عمر.
وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهرى عن عبد الملك بن المغيرة قال: "سئل ابن
عمر رضى الله تعالى عنهما عن تحليل المرأة لزوجها ؟ فقال: ذاك السفاح"، ورواه
ابن أبى شيبة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثورى عبد الله بن شريك العامرى، قال: سمعت ابن عمر رضى
الله تعالى عنهما: "سئل عن رجل طلق ابنة عم له، ثم رغب فيها وندم، فأراد أن
يتزوجها رجل يحللها له، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: كلاهما زان، وإن مكث عشرين
سنة، أو نحو ذلك، إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له".
قال وأنبأنا معمر والثورى عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضى الله عنهما
وسأله رجل فقال: "إن عمى طلق امرأته ثلاثاً ؟ فقال: إن عمك عصى الله فأندمه،
وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجاً، قال: كيف ترى فى رجل يحللها ؟ قال: من يخادع
الله يخدعه".



(14/248)








ص -272- وعن سليمان بن يسار قال: "رفع إلى عثمان رضى الله عنه رجل تزوج
امرأة ليحلها لزوجها، ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير
دلسة". رواه أبو إسحق الجورجانى فى "كتاب المترجم"، وذكره ابن
المنذر عنه فى كتاب الأوسط".
وفى "المهذب" لأبى إسحق الشيرازى، عن أبى مرزوق التجيبى: "أن رجلاً
أتى عثمان رضى الله عنه فقال: إن جارى طلق امرأته فى غضبه، ولقى شدة، فأردت أن
أحتسب نفسى ومالى، فأتزوجها" ثم أبنى بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول،
فقال له عثمان رضى الله عنه: لا تنكحها إلا نكاح رغبة".
وذكر أبو بكر الطرطوشى فى خلافه عن يزيد بن أبى حبيب عن على بن أبى طالب رضى الله
عنه فى المحلل: "لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب
الله"، وعلى رضى الله عنه هو ممن روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم: "أنه لعن المحلل"، فقد جعل هذا من التحليل.
وروى ابن أبى شيبة فى "مصنفه" عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
"لعن الله المحلل والمحلل له"، وهو ممن روى عن النبى صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم لعن المحلل. وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة،
فكيف بما اتفقا عليه وتراضياً وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة ؟
وذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "لعن الله المحلل والمحلل
له".
وروى الجوزجانى بإسناد جيد عن ابن عمر رضى الله عنهما: "أنه سئل عن رجل تزوج
امرأة ليحلها لزوجها، فقال: لعن الله الحال والمحلل له".
قال شيخ الإسلام: وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر رضى الله
عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطآ عليه فهى مبينة أن
هذا هو التحليل، وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى



(14/249)








الله تعالى عليه وآله وسلم فإن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
أعلم بمراده ومقصوده. لاسيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر. هذا مع أنه
لم يعلم أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فرق بين تحليل
وتحليل، ولا رخصوا فى شىء من أنواعه، مع أن المطلقة



(14/250)








ص -273- ثلاثاً مثل امرأة رفاعة القرظى قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة:
وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها، فيمنعونها من ذلك. ولو كان التحليل جائزاً لدلها
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها،
لو كان التحليل جائزاً.
قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط فى
العقد كثير جدا ليس هذا موضع ذكرها، انتهى.
ذكر الآثار عن التابعين
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة قال: "إذا نوى الناكح، أو المنكح، أو
المرأة، أو أحد منهم التحليل. فلا يصلح".
أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: "المحلل عامداً، هل عليه عقوبة ؟ قال: ما
علمت، وإنى لأرى أن يعاقب" قال: وكلهم إن تمالئووا على ذلك مستوون، وإن
أعظموا الصداق".
أخبرنا معمر عن قتادة قال: "إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقربها
إذا كان نكاحه على وجه التحليل".
أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: "فطلق المحلل، فراجعها زوجها ؟ قال: يفرق
بينهما".
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول، فى رجل تزوج امرأة يحللها ولا يعلمها؟ فقال
الحسن: "اتق الله، ولا تكن مسمار نار فى حدود الله".
قال ابن المنذر: وقال إبراهيم النخعى: "إذا كان نية أحد الثلاثة: الزوج
الأول، أو الزوج الآخر، أو المرأة: أنه محلل، فنكاح الآخر باطل، ولا تحل
للأول".



(14/251)








ص -274- [ قال: وقال الحسن البصرى: "إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد
أفسد" ].
قال: وقال بكر بن عبد الله المزنى فى الحال والمحلل له: "أولئك كانوا يسمون
فى الجاهلية: التيس المستعار".
قال: وقال عبد الله بن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230].
قال: "إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة" ورواه ابن أبى حاتم فى التفسير
عنه.
وقال هشيم: أخبرنا سيار عن الشعبى: "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها
طلقها ثلاثاً قبل ذلك: أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول ؟ فقال: لا، حتى يحدث نفسه
أنه يعمر معها وتعمر معه" أى تقيم معه، رواه الجوزجانى.
وروى عن النفيلى، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبى غنية، حدثنا عبد الملك عن عطاء:
"فى الرجل يطلق المرأة، فينطلق الرجل الذى يتحزن له، فيتزوجها من غير مؤامرة
منه، فقال: إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له، وإن كان تزوجها يريد إمساكها، فقد
حلت له".
وقال سعيد بن المسيب: "فى رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، ولم يشعر بذلك
زوجها الأول ولا المرأة، قال: إن كان إنما نكحها ليحلها، فلا يصلح ذلك لهما، ولا
تحل له" رواه حرب فى مسائله.
وعنه أيضاً قال: "إن الناس يقولون: حتى يجامعها، وأنى أقول: إذا تزوجها
تزويجا صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول" رواه سعيد
ابن منصور عنه.
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين، وهم: الحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبى
رباح وإبراهيم النخعى.
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد: "فى رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، وهو
لا يعلم، قال لا يصلح ذلك، إذا كان تزوجها ليحلها".



(14/252)








ص -275- ذكر الاثار عن تابعى التابعين ومن بعدهم
قال ابن المنذر: وممن قال: إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة: مالك بن أنس، والليث بن
سعد، وقال مالك رحمة الله: "يفرق بينهما على كل حال وتكون الفرقة فسخاً بغير
طلاق".
وقال سفيان الثورى: "إذا تزوجها، وهو يريد أن يحلها لزوجها، ثم بدا له أن
يمسكها لا يعجبنى إلا أن يفارق، ويستقبل نكاحاً جديداً".
قال أحمد بن حنبل: "جيد".
وقال إسحاق: "لا يحل له أن يمسكها، لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح".
وكان أبو عبيد يقول بقول الحسن والنخعى.
وقال الجوزجانى: حدثنا إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل تزوج
المرأة وفى نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك؟ فقال: "هو
محلل، وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون".
قال الجوزجانى: وبه قال أيوب.
وقال ابن أبى شيبة: "لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول".
قال الجوزجانى: وأقول: إن الإسلام دين الله الذى اختاره واصطفاه، وطهره، حقيق
بالتوقير والصيانة مما لعله يشينه، وينزه مما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة
يعيرون به المسلمين، على ما تقدم فيه من النهى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم ولعنه عليه، ثم ساق الأحاديث المرفوعة فى ذلك والآثار.
فصل
ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى: {فَإِنْ
طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}
[البقرة: 230].
والذى أنزلت عليه هذه الآية



(14/253)








ص -276- هو الذى لعن المحلل والمحلل له، وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى:
فلم يجعلوه زوجاً وأبطلوا نكاحه، ولعنوه.
وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سماه "محللاً" فلولا أنه أثبت
الحل لم يكن محللاً.
فيقال: هذه من العظائم، فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
لعن من فعل السنة التى جاء بها، وفعل ما هو جائز صحيح فى شريعته، وإنما سماه
محللاً لأنه أحل ما حرم الله، فاستحق اللعنة، فإن الله سبحانه حرمها على المطلق،
حتى تنكح زوجاً غيره، والنكاح اسم فى كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذى يتعارفه
الناس بينهم نكاحاً، وهو الذى شرع إعلانه، والضرب عليه بالدفوف، والوليمة فيه،
وجعل للإيواء والسكن، وجعله الله مودة ورحمة، وجرت العادة فيه بضد ما جرت به فى
نكاح المحلل، فإن المحلل لم يدخل على نفقة ولا كسوة، ولا سكنى، ولا إعطاء مهر، ولا
تحصل نسب ولا صهر، ولا قصد المقام مع الزوجة، وإنما دخل عارية كالتيس المستعار
للضراب، ولهذا شبهه به النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثم لعنه، فعلم قطعاً [
لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور فى القرآن، ولا نكاحه هو النكاح المذكور فى القرآن،
وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ] ليس بنكاح، ولا المحلل بزوج، وأن هذا
منكر قبيح تعير به المرأة والزوج، والمحلل والولى، فكيف يدخل هذا فى النكاح الذى
شرعه الله ورسوله، وأحبه، وأخبر أنه سنته، ومن رغب عنه فليس منه ؟
وتأمل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا جُنَاحِ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}
[البقرة: 230].
أى فإن طلقها هذا الثانى، فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا، أى ترجع إليه
بعقد جديد، فأتى بحرق "إن" الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم،
والتحليل الذى يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين، بل يشرطون عليه أنه متى
وطئها فهى طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها فى



(14/254)








وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلواً الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرد
إخبارها بذلك تطلق عليه، والله سبحانه أنه شرع النكاح للوصلة الدائمة



(14/255)








ص -277- وللاستمتاع، وهذا النكاح جعله أصحابه سبباً لا نقطاعه، ولوقوع الطلاق
فيه، فإنه متى وطئ كان وطؤه سبباً لانقطاع النكاح، وهذا ضد شرع الله.
وأيضا. فإن الله سبحانه جعل نكاح الثانى وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه.
فهذا زوج، وهذا زوج، وهذا نكاح، وهذا نكاح، وكذلك الطلاق، ومعلوم أن نكاح المحلل
وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه، ولا اسمه كاسمه، ذاك زوج راغب، قاصد
للنكاح. باذل للمهر، ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح،
والمحلل برئ من ذلك كله، غير ملتزم لشئ منه.
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرّم نكاح المُتْعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع
بالمرأة، وأن يقيم معها زماناً، وهو ملتزم لحقوق النكاح، فالمحلل الذى ليس له غرض
أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزُو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى
بالتحريم.
وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه:
أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعاً فى أول الإسلام، ونكاح التحليل لمُ يشرع فى زمن
من الأزمان.
الثانى: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولم يكن
فى الصحابة محلل قط.
الثالث:أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة، فأباحه ابن عباس، وإن قيل: إنه رجع
عنه، وأباحه عبد الله بن مسعود. ففى "الصحيحين" عنه قال: "كُنَّا
نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم، وَلَيْسَ لَنَا
نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلا نَخْتَصِى ؟ فَنَهانَا عَنْ ذلِكَ، ثُمَّ رَخّصَ لَنَا
أَنْ نَنْكِحَ المَرْأَةَ بِالثّوْبِ إِلى أَجَلٍ".
ثم قرأ عبد الله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طيِّبَاتِ ما
أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. وَفتْوَى ابن عباس بها مشهورة.
قال عُروة: "قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال: إن ناساً أعمى الله قلوبهم،
كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة



(14/256)








يُعرِّض بعبد الله بن عباس، فناداه، فقال: إنك لجِلْفُ جافٍ، فلعمرى لقد كانت
المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم،



(14/257)








ص -278- فقال له ابن الزبير: فجرّبْ نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجمنَّك
بأحجارك".
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس فى المتعة، وذاك قولهما وروايتهما فى نكاح التحليل.
الرابع: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يجئ عنه فى لعن المستمتع
والمستمتع بها حرف واحد، وجاء عنه فى لعن المحلل والمحلل له، وعن الصحابة: ما قد
تقدم.
الخامس: أن المستمتع له غرض صحيح فى المرأة، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح.
فغرضه المقصود بالنكاح مدة، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس.
فنكاحه غير مقصود له، ولا للمرأة، ولا للولى، وإنما هو كما قال الحسن: "مسمار
نار فى حدود الله" وهذه التسمية مطابقة للمعنى.
قال شيخ الإسلام: يريد الحسن: أن المسمار هو الذى يثبت الشئ المسمور، فكذلك هذا
يثبت تلك المرأة لزوجها، وقد حرمها الله عليه.
السادس: أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله، فليس من المخادعين الذين
يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهراً وباطنا، والمحلل ماكر
مخادع، متخذ آيات الله هزواً. ولذلك جاء فى وعيده ولعنه ما لم يجئ فى وعيد
المستمتع مثله، ولا قريب منه.
السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه، وهذا هو سر النكاح ومقصوده، فيريد بنكاحه
حلها له، ولا يطؤها حراماً، والمحلل لا يريد حلها لنفسه، وإنما يريد حلها لغيره،
ولهذا سمى محللاً، فأين من يريد أن يحُل له وَطء امرأة يخاف أن يطأهاً حراماً إلى
من لا يريد ذلك، وإنما يريد بنكاحها أن يحُل وطأها لغيره ؟ فهذا ضد شرع الله
ودنيه، وضد ما وُضع له النكاح.
الثامن: أن الفِطَر السليمة والقلوب التى لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر
من التحليل أشد نفار، وتُعِّير به أعظم تعيير، حتى إن كثيراً من النساء تعير
المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا، ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول، ولو
نفرت منه لم يُبَح فى أول الإسلام.
التاسع: أن نكاح المتعة



(14/258)








يشبه إجارة الدابة مدة للركوب، وإجارة الدار مدة للانتفاع


(14/259)








ص -279- والسكنى، وإجارة العبد للخدمة مدة، ونحو ذلك، مما للباذل فيه غرض
صحيح. ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح، الذى شرع بوصف الدوام
والاستمرار، وهذا بخلاف نكاح المحلل، فإنه لا يشبه شيئاً من ذلك، ولهذا شبهه
الصحابة رضى الله عنهم بالسفاح، وشبهوه باستعارة التيس للضراب.
العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب، كالبيع والإجارة، والهبة والنكاح،
مفْضِيةً إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات، فجعل البيع سببا لملك الرَّقبة،
والاجارة سبباً لملك المنفعة أو الانتفاع، والنكاح سبباً لملك البضع وحل الوطء.
والمحلل مناقضٌ معاكس لشرع الله تعالى ودينه، فإنه جعل نكاحه سبباً لتمليك المطلق-
البضع وإحلاله له، ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع، وحله له،
ولا له غرض فى ذلك، ولا دخل عليه. وإنما قصد به أمراً آخر لم يشرع له ذلك السبب،
ولم يجعل طريقاً له.
الحادى عشر: أن المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد
الإسلام ظاهراً وباطنا، وهو فى الباطن غير ملتزم له. وكذلك المحلل يظهر أنه زوج،
وأنه يريد النكاح، ويسمى المهر، ويشهد على رضى المرأة، وفى الباطن بخلاف ذلك، لا
يريد أن يكون زوجاً، ولا أن تكون المرأة زوجة له، ولا يريد بذل الصداق، ولا القيام
بحقوق النكاح، وقد أظهر خلاف ما أبطن، وأنه مريد لذلك. والله يعلم والحاضرون
والمرأة وهو، والمطلق: أن الأمر كذلك، وأنه غير زوج على الحقيقة، ولا هى امرأته
على الحقيقة.
الثانى عشر: أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية، ولا نكاح أهل الإسلام،
فكان أهل الجاهلية يتعاطون فى أنكحتهم أموراً منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاح
التحليل، ولا يفعلونه. ففى "صحيح البخارى" عن عروة بن الزبير أن عائشة
رضى الله عنها أخبرته: "أن النكاح فى الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح
منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليَّته أو ابنته،



(14/260)








فيصدقها ثم ينكحها". و"نكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته، إذا طهرت
من طمثها: أرسلى إلى فلان، فاستبضعى منه، فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى
يتبين حملها من ذلك الرجل، الذى تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا
أحب، وإنما يفعل ذلك



(14/261)








ص -280- رغبة فى نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر:
يجتمع الرهط مادون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ
ليالى بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا
عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذى كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمى
من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه، ونكاح رابع: يجتمع الناس
الكثير، فيدخلون على المرأة، ولا تمنع من جاءها، وهن البغايا. كن ينصبن على
أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت حملها
جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذى يرون فالتاط به ودعى ابنه لا
يمتنع من ذلك. فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله تعالي عليه وآله وسلم بالحق
هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم.
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذى أشارت إليه عائشة رضى الله عنها أن
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقره ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية
يرضون به، فلم يكن من أنكحتهم، فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به.
فصل
وسبب هذا كله: معصية الله ورسوله، وطاعة الشيطان فى إيقاع الطلاق على غير الوجه
الذى شرعه الله، والله سبحانه يبغض الطلاق فى الأصل، كما روى أبو داود من حديث عبد
الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"أَبْغَضُ الْحَلالِ إِلَى الله تَعَالَى الطَّلاقُ".
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم: "مَا بَالُ قَوْمٍ يلْعَبُونَ بحُدُودِ اللهِ يَقُولُ:
قدْ طَلَّقْتُكِ، قدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلّقْتُكِ".
وفى "صحيح" مسلم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى



(14/262)








الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فأَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ
فِتْنَةً، يَجِىءُ



(14/263)








ص -281- أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فيقَولُ: مَا صَنَعْتُ
شَيئاً، قالَ: وَيَجِىء أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِه، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، أَوْ قَالَ
فَيَلْتَزِمُهُ، ويَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ أَنْتَ".
فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيراَ ما
يندم المطلق، ولا يصبر عن امرأته، ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج
رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى منها وطره، ولابد له
من المرأة، فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس.
إحداها: التحيل على عدم وقوع الطلاق، وهو نوعان، تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح
بالتسريح، فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك، أو إذا وقع عليك طلاقى، فأنت طالق
قبله ثلاثا، فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا، لا مطلقاً ولا مقيدا عن
المسرحين، فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل فى عنق الزوج، لا سبيل له إلى
طلاقها أبدا.
الحيلة الثانية: التحيل على عدم وقوع الطلاق، يكون النكاح فاسداً، فلا يقع فيه
الطلاق، ويتحيلون لبيان فساده من وجوه:
منها: أن عدالة الولى شرط فى صحته، فإذا كان فى الولى ما يقدح فى عدالته، فالنكاح
باطل، فلا يقع فيه الطلاق، والقوادح كثيرة، فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه
قادحاً.
ومنها: أن عدالة الشهود شرط، والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير، أو استناده إلى
مسند حرير، أو جلوسه تحت حركاة حرير، أو تجمره بمجمرة فضة، ونحو ذلك، مما لا يكاد
يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك.
فيا للعجب، يكون الوطء حلالا، والنسب لاحقاً، والنكاح صحيحاً حتى يقع الطلاق،
فحينئذ يطلب وجوه إفساده.
الحيلة الثالثة: التحيل بالمخالعة، حتى يفعل المحلوف عليه، فإذا فعله تزوجها بعقد
جديد.
الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس فى الرأس، وحنث، ولابد،



(14/264)








اشترى غلاماً دون البلوغ


(14/265)








ص -282- وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك، فإذا فعل وهبها إياه
فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق، فإن عجزوا عن ذلك وآعوزهم انتقلوا
إلى:
الحيلة الخامسة: وهى استكراء التيس الملعون المستعار لينزوا عليها ويحلها بزعمه،
فهذه خمس حيل للخاصة.
وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأى طريق اتفق
0 قالوا: المقصود هو الرجوع، والحيلة مقصودة لغيرها، وأعيان الحيل ليست مقصودة،
فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى.
إحداها: أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله، فيطأها، وهى قاعدة أو مضطجعة برجله ثم
يخرج، ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة. فإنه إذا كان
كلاهما غير مقصود، فما كان أقل فساداً كان أقرب إلى المقصود.
الحيلة الثانية: أن تكون حاملاً فتلد ذكراً، وكأنهم قاسوا الذكر الذى شقها خارجاً
على الذكر الذى يشقها داخلاً، وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود.
الحيلة الثالثة: أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها، وكأنهم قاسوا
تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه.
الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه، فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج، ولا
أدرى من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك، وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن، وأن
السفر قطع حكم ما مضى رأساً.
الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عرفات، فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى
زوج آخر عندهم، وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم.



(14/266)








ص -283- فصل
واعلم أن من اتقى الله فى طلاقة، فطلق كما أمره الله ورسوله، وشرعه له. أغناه عن
ذلك كله، ولهذا قال تعالى، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2].
فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر
والاحتيال، فإن الطلاق الذى شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهراً من غير جماع،
ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها. فإن بدا له أن يمسكها فى العدة أمسكها،
وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن تستقبل عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن
له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة
بزوج ولا تحليل.
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة ؟ فقال: "عصيت ربك، وفارقت
امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً".
وقال سعيد بن جبير: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفا،
فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر، اتخذت آيات الله هزوا".
وقال مجاهد: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا.
فسكت، حتى ظننت أنه رادّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا
ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّق اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت
منك امرأتك، ذكره أبو داود.
وقد روى النسائى عن محمود بن لبيد قال: "أُخْبِرَ رسُولُ الله صلى اللهُ عليه
وَسلم عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاً، فقَامَ
غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَاب اللهِ وَأَنَآ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟
حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا أَقْتُلهُ ؟".
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن، فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد
مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلاً.



(14/267)








قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، والمرتان فى لغة العرب، بل
وسائر لغات الناس إنما تكون لما يأتى مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى



(14/268)








ص -284- آخره، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكلام العرب
قاطبة شاهد بذلك، كقوله تعالى:
{سَنُعذَبُهُمْ مَرَّتَينِ} [التوبة: 101] وقوله: {أَولاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلَم مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ}
[النور: 58].
ثم فسرها بالأوقات الثلاثة، وشواهد هذا أكثر من أن تحصى.
ثم قال سبحانه: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
فهذه هى المرة الثالثة.
فهذا هو الطلاق الذى شرعه الله سبحانه مرة بعد مرة، فهذا شرعه من حيث العدد.
وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدة، وقد فسره النبى صلى الله عليه وآله
وسلم بأن يطلقها طاهراً من غير جماع، فلم يشرع جمع ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع
الطلاق فى حيض، ولا فى طهر وطئها فيه، وكان المطلق فى زمن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كله وزمن أبى بكر كله، وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما، إذا طلق
ثلاثاً يحسب له واحدة، وفى ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم فى
"صحيحه"، والثانى: رواه الإمام أحمد فى "مسنده".
فأما حديث مسلم: فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
"كانَ الطّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ
وأبى بكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَر: طَلاَقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةٌ،
فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فى أَمْرِ
كانَتْ لَهُمْ أنَاةٌ، فَلَوْ أمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ؟ فَأَمْضَاهُ
عَلَيْهِمْ".
وفى "صحيحه" أيضاً عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس:
"هَاتِ مِنْ هُنَيَّاتِكَ: ألَمْ يَكُنِ



(14/269)








الطّلاقُ الثّلاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تعَالَى علَيْهِ
وآله وسلّمَ، وَأبى بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ فقَالَ: قَدْ كانَ ذلِكَ فَلَمَّا كَانَ فى
عَهْدِ عُمر تَتَايعَ النَّاسُ فى الطلاقِ، فأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ".
وفى لفظ لأبى داود: "أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء، كان كثير السؤال لابن
عباس، قال:



(14/270)








ص -285- أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها
واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدرا من إمارة
عمر رضى الله عنهما ؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن
يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وأبى بكر،
وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجرهن
عليهم"، هكذا فى هذه الرواية: "قبل أن يدخل بها" وبها أخذ إسحاق بن
راهويه، وخلق من السلف، جعلوا الثلاث واحدة فى غير المدخول بها. وسائر الروايات
الصحيحة ليس فيها: "قبل الدخول" ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئاً.
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر: طاوس وهو أجل من روى عنه، وأبو
الصهباء العدوى، وأبو الجوزاء. وحديثه عند الحاكم فى "المستدرك".
ولفظه: "أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كنّ يرددن على
عهد رسول الله عليه الصلاة السلام إلى واحدة ؟ قال: نعم"، قال الحاكم: هذا
حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس فى شئ منها "قبل الدخول" وإنما حكى
ذلك طاوس عن سؤال أبى الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه. ولعله
إنما بلغه جعل الثلاث واحدة فى حق مطلق قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس، وقال:
"كانوا يجعلونها واحدة"، فقال له ابن عباس "نعم" أى الأمر على
ما قلت.
وهذا لا مفهوم له فإن التقييد فى الجواب وقع فى مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا
يعتبر مفهومه.
نعم. لو لم يكن السؤال مقيداً فقيد المسئول الجواب، كان مفهومه معتبراً، وهذا كما
إذا سئل عن فأرة وقعت فى سمن، فقال: "إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فى
السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلهَا وَكُلُوهُ".
لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة.
وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقاً فى أحد



(14/271)








الحديثين،


(14/272)








ص -286- وذكر بعض أفرادهن فى الحديث الآخر، لا تعارض بينهما.
وأما الحديث الآخر: فقال أبو داود فى "سننه": حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا
عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنى بعض بنى أبى رافع- مولى النبى صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم- عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طَلّقَ عَبْدُ يَزِيدَ-
أبُوُ رُكانَةَ وَإِخْوَتِهِ- أُمَّ رُكانَة وَنَكَحَ امْرَأةً مِنْ مُزَيْنَةَ،
فَجَاءَتْ إِلَى الّنبىِّ صَلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم، فقَالَتْ: مَا يُغنى
عَنِّى إِلا كما تُغْنِى هذِه الشعرةُ- لِشعرةٍ أخذَتها منْ رَأَسها- فَفرقْ
بْينَىِ وَبَيَنْهُ، فَأَخَذَتِ النَّبىَّ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ
حَمِيّةٌ، فَدَعَا بِرُكانَة وَإخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لُجُلَسَائِه: "أَتَرَوْنَ
فُلاناً يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وكَذَا ؟ مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ، وَفُلاناً يشبه
مِنْهُ كَذَا وَكَذَا ؟" قَالُوا: نَعمْ، فقَالَ النّبىُّ صلى الله عليه وآله
وسلم: "طَلِّقْهَا"، فَفعَلَ، فقَالَ:رَاجِعِ امْرَأتَكَ أُمَّ
رُكَانَة، فَقَالَ: إِنِّى طَلّقْتُهَا ثَلاثاَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قَدْ
عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا، وَتَلا: {يَأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النَّسَاءَ فَطَلَقُوهُنَّ لِعدَّتِهنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ... الآية} [الطلاق:
1]".
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا، وتلا الآية التى هى وما بعدها صريحة فى كون
الطلاق الذى شرعه الله لعباده هو الطلاق الذى يكون للعدة، فإذا شارفت انقضاءها،
فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف، وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة
والتيسير، فلعل المطلق أن يندم، فيكون له سبيل إلى الرجعة، وهو قوله تعالى: {لا
تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بعد ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1].
فأمره بالمراجعة، وتلاوته الآية كاف فى الاستدلال على ما كان عليه الحال.
فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول، وهو بعض بنى [



(14/273)








أبى ] رافع، والمجهول لا تقوم به حجة.
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام أحمد قد قال فى "المسند": حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا
أبى عن محمد بن إسحق قال: حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن
عباس قال:



(14/274)








ص -287- "طلق ركانة بن عبد يزيد- أخو المطلب- امرأته ثلاثاً فى مجلس
واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"كيف طلقتها ؟" قال: طلقتها ثلاثاً قال: "فى مجلس واحد ؟"
قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت"، قال: فراجعها"
قال: "وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر".
ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى فى "مختاراته"
التى هى أصح من "صحيح الحاكم".
فهذا موافق للأول، وكلاهما موافق لحديث طاوس، وأبى الصهباء، وأبى الجوزاء عن ابن
عباس، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس. فإن عكرمة كان مولاه مصاحبا له وكان
يقيده على العلم، وكان طاوس خاصاً عنده يجتمع به كثيراً، ويدخل عليه مع الخاصة.
وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة، وكذلك ابن إسحق، لما صح عنده هذا
الحديث أفتى بموجبه، وكان يقول: "جَهِلَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ
إِلَيْهَا".
فرواة هذا الحديث أفتوا به وعملوا به.
وعن ابن عباس فيه روايتان إحداهما: موافقة عمر رضى الله عنه تأديبا وتعزيرا
للمطلقين، والثانية: الإفتاء بموجبه.
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس- وحسبك بهذا السند صحة وجلالة-
"إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهى واحدة" ذكره أبو داود في
"السنن".
الوجه الثانى: أن هذا المجهول هو من التابعين، من أبناء مولى النبى صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم، ولم يكن الكذب مشهوراً فيهم، والقصة معروفة محفوظة، وقد تابعه
عليها داود بن الحصين وهذا يدل على أنه حفظها.
الوجه الثالث: أن روايته لم يعتمد عليها وحدها، فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين،
وحديث أبى الصهباء، فهب أن وجود روايته وعدمها سواء، ففى حديث داود كفاية، وقد
زالت تهمة تدليس ابن إسحاق بقوله



(14/275)








"حدثنى به" وقد احتج الأئمة بهذا السند بعينه فى حديث


(14/276)








ص -288- تقدير العرايا بخمسة أوسق أو دونها، وأخذوا به وعملوا بموجبه، مع
مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة فى منع بيع الرطب بالتمر له:
والقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن، ولأقوال الصحابة، وللقياس ومصالح بنى
آدم.
أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرجعة فى كل طلاق، إلا طلاق غير المدخول
بها، والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأولتين، وليس فى القرآن طلاق بائن قط، إلا فى هذين
الموضعين وأحدهما بائن غير محرم، والثانى بائن محرم، وقال تعالى: {الطّلاقُ
مَرَّتَانِ} [البقرة: 229].
والمرتان ما كان مرة بعد مرة، كما تقدم.



(14/277)








ص -289- وأما القياس، فإن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 6]، ثم قال: {وَيَدْرَؤا عَنْهَا
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبع شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 8]،
فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات إنى صادق، أو قالت: أشهد بالله أربع شهادات إنه
كاذب، كانت شهادة واحدة، ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله، أنت طالق ثلاثاً ثلاث
تطليقات ؟ وأى قياس أصح من هذا ؟ وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه،
ولهذا لو قال المقر بالزنى: إنى أقر بالزنى أربع مرات، كان ذلك مر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://unja.yoo7.com
 
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 001
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب *إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان02 الجزء الثاني *
» حفلة الشيطان

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية UNJA :: قسم مراسلة الادارة والاشراف و المواضيع المحذوفة :: 

المواضيع المحذوفة والأرشيف

-
انتقل الى: